رؤى

التيار العنصري في الغرب يتنصل من مسؤوليته التاريخية بإلقاء وزرها على المسلمين

مع استمرار وتزايد التظاهرات المنددة بالعنصرية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا وشعور اليمين المتطرف في تلك البلدان بالحصار كان لا بد من اللجوء الى وسيله دفاعية وهي إحالة تهمة العنصرية الى أطراف أخرى.

ففي خطوة أبسط ما يقال عنها أنها صفيقة حفلت مواقع التواصل وخاصة تويتر بتغريدات تسأل المتظاهرين لم لا يستهدفون المساجد باعتبارها تمثل ديانة – على حد زعمهم- «تبيح الرق» وذهب مغرد عرف نفسه باعتباره «مسلماً سابقاً» إلى حد وصف النبي الكريم بأنه كان من «ملاك العبيد».

تعبر هذه التغريدات ليس فقط عن شعور أصحابها بالمازق الذي وضعتهم فيه التظاهرات وإنما تنم أيضاً عن جهل مطبق بحقائق التاريخ ومحاولة ليها -إذا صح التعبير- لتناسب أجندة سياسية محددة.

بداية، فثمة حقيقة أساسية وهي أن الإسلام ظهر في بيئة كانت العبودية فيها أمراً مستقراً وهي شبه جزيرة العرب، بل كان مستقراً أيضا في كلتا الامبراطوريتين المجاورتين لها وهي الدولة الساسانية في بلاد فارس والإمبراطورية الرومانية.

لم يقر الاسلام هذه المؤسسة كما يدعي البعض وقطعا لم يعطها أي نوع من الشرعية بل دعا نبيه إلى فكرة كانت تعد ثورية بمقاييس تلك الفترة وهي أن الجميع سواسية أيا كان لونهم أو وضعهم٫ كما جعل مقياس التفاضل الوحيد بين الأفراد هو «التقوى» أي العلاقة مع الخالق ومدى انعكاسها في تعامل الفرد مع الآخرين وهي مقياس غير مادي ومخالف لثقافة مجتمع كان حتى تلك اللحظة يرى أن مقياس التفاضل هو النسب والثروة.

كانت هذه الفكرة تحديدا هي ما جذب ضعاف الناس وبسطائهم إلى تلك العقيدة الجديدة المسماة بالإسلام وفي مقدمتهم العبيد الذين كان ملاكهم من سادة مكة يرونهم بضاعة مشتراه لا أكثر، فأقبل على الدين الجديد شاب حبشي عانى طويلاً من اضطهاد ملاكه بسبب لون بشرته يدعى بلال بن رباح وأسرة كاملة تدعى آل ياسر.

كان إيمان هؤلاء بأن عقيدتهم الجديدة ترد اليهم ادميتهم المفتقدة وتحقق لهم المساواة التي طالما حلموا بها سبباً رئيسيا لتحملهم التعذيب الوحشي الذي أنزله بهم سادة مكة والذي وصل في حالة آل ياسر إلى حد قتل الأب والأم ونجاة الإبن عمار بأعجوبة.

ومن اللافت للنظر أن هؤلاء المسلمين الأوائل الذين لاقوا اضطهاداً بسبب دينهم وجدوا ملاذاً آمناً عند ملك إفريقي وفي مملكة سمراء هي مملكة الحبشة حين نصحهم نبيهم باللجوء اليه لأنه ملك «لا يضام عنده أحد».

وحين نشأ للدين الجديد دولة بعد الهجرة إلى المدينة كان أول صوت صدح بنداء الصلاة هو صوت الحبشي بلال الذي تصفه كتب السيرة أنه «كان ندي الصوت».

لم يكن النبي الكريم يمتلك عبيداً بالمعنى الذي عرفته كل من بلاد الفرس والروم وحتى الجارية التي أهداها إليه حاكم مصر المقوقس، ماريا القبطية، اتخذ منها زوجة، وكذلك الحال مع المرأة التي سباها وهي السيدة صفية بنت حيي التي خيرها بعد سبيها فاختارت الإسلام والاقتران به، فتزوجها وأعتقها وجعل صداقها حريتها كما تروي كتب السيرة.

حصر الإسلام العبودية في حالة واحدة هي السبي في المعركة وحتي هذه الحالة جعل فيها العتق خياراً مفضلا، وعلى عكس بقية الأديان الإبراهيمية أوجد الإسلام نظاما متدرجاً لتحرير الرقيق حين جعل الخطاب القرآني من العتق أو ما أسماه بـ«فك الرقبة» كفارة لكل خطيئة.

أما امتلاك الرقيق والإماء الذي شاع في دولة الإسلام بعد وفاة النبي الكريم وتحديداً في عهد بني أمية فلا يمكن أن ينسب إلى الإسلام في حد ذاته وإنما لرغبه النخبة الحاكمة من بني أمية بالتمتع بذات نمط الحياة الذي عاشه أسلافهم في الجاهلية.

ولكن هذا النمط من العبودية امتاز عن نظيره الذي شاع لاحقا في أوروبا والأمريكتين بعدة أمور : أولها: ان امتلاك الرقيق لم يكن مؤسساً على لونهم أو أعراقهم بل على سبيهم في المعارك والدليل على ذلك أن لفظ «مملوك» في حد ذاته يعني عبداً أبيض اللون.

ثانياً: أن العبودية لم تكن وراثية بمعنى أنها لم تمتد من جيل الآباء إلى آبنائهم ممن ولدوا وآباءهم في الرق، وتذكر كتب التاريخ أمثلة كثيرة لأبناء إماء صاروا أمراء مثل مسلمة بن عبد الملك الذي ولد للخليفه الأموي عبد الملك بن مروان من إحدى جواريه ولكن الرق لم يمتد إليه بل على عكس استطاع أن يتبوأ منصب قيادياً في جيش الدولة وكان أحد أبرز قادت العسكريين.

ثالثاً: أن الرق في حد ذاته لم يشكل عائقا أمام الارتقاء الاجتماعي، حيث يذكر التاريخ أن عبداً مثل كافور الإخشيدي وصل إلى قمة السلطة في مصر ولم يقف لونه الأسمر عائقا أمام ذلك كما حُكمت كل من مصر والشام والحجاز لمدة تقارب ثلاثة قرون سلالة من العبيد البيض عرفت باسم المماليك وكانت أقرب ما تكون الى النظام الجمهوري من حيث أنها لم تكن حكما عائليا وراثياً بل كانت القاعدة المتفق عليها هي أن «الملك عقيم» بمعنى أنه لا يورث من السلطان الى اولاده بل يتداول بين أمراء المماليك وفقا لمن يرونه أصلح لهذا المنصب.

بل إن حكام المسلمين، خاصة في افريقيا٫ كانوا سباقين في إلغاء الرق، حيث بادر خديوي مصر إسماعيل باشا الى محاربة تجارة الرقيق، وفى عام 1863 الذي تولى فيه حكم مصر أرسل موسى باشا حكمدار السودان وقتئذ يأمره بتعقب تجار الرقيق وحربهم والقضاء على التجارة البغضية للإنسانية.

ومن المثير للسخرية ان من حارب هذا التوجه في أفريقيا كانت بريطانيا التي كانت تنادي في العلن في تلك الفترة بإلغاء العبودية.

ويذكر الكاتب الأمريكي بلال واري في كتابه «قرآن يمشي على قدمين» الذي يتناول تعليم القرآن في دول غرب أفريقيا إن الدولة التي أقامها مجموعة من الفقهاء في منطقة «فوتا تورو» في القرن السابع عشر الميلادي كانت سباقة في تحرير العبيد وذهب أحد علمائها إلى حد إصدار فتوى تحرم على التجار المسلمين بيع العبيد إلى الأوروبيين، الأمر الذي أثار إعجاب داعية تحرير العبيد الإنجليزي توماس كلاركسون الذي دعا ملوك أوروبا للاقتداء بهذا النموذج في وقت كان فيه تحرير الرقيق لايزال موضوعاً للنقاش في بريطانيا.

الكاتب الأمريكي «بلال واري» وكتابه «قرآن يمشي على قدمين»

أما العبودية التي عرفتها الأمريكتين منذ العام ١٦١٠ وهو تاريخ وصول أول سفينة محملة بالعبيد من غرب أفريقيا الى الأمريكتين عبر المحيط الأطلنطي فكانت مؤسسة بالكامل على فكرة تفوق عرق على آخر، تلك الفكرة التي بذل مفكرون أوروبيون وأمريكيون جهداً جهيداً لمحاولة إيجاد أساس علمي لها، شأنها في ذلك شأن إبادة السكان الأصليين في العالم الجديد، مستغلين نظرية داروين عن النشوء والارتقاء والاختيار الطبيعي أسوأ استغلال ممكن.

وكان المسلمون في طليعة ضحايا هذه الفكرة، حيث تشير الاحصائيات إلى أنهم شكلوا نحو ثلث العبيد الذين تم جلبهم من أفريقيا إلى «العالم الجديد»، وترك هؤلاء وثائق تؤكد على هويتهم الإسلامية مثل عمر بن سعيد الذي ولد لأسرة ثرية في غرب افريقيا عام ١٧٧٠ ثم شاء حظه العاثر أن يباع كعبد ويجلبه من اشتروه إلى الولايات المتحدة، فصاغ تجربته هذه في مذكرات كتبها بلغة عربية بليغة وترجمها الأستاذ في جامعة كوينز على الريس إلى الإنجليزيه عام 2011

عمر بن سعيد

إن العنصرية في حد ذاتها سواء في العالم العربي أو عالم الشمال أمر مرفوض قطعاً لكن محاولة المساواة بين تاريخها في أوروبا والأمريكتين وبين تاريخها في عالمنا العربي هو افتراء وتجاهل للحقاق ومحاوله لتبرئه الذات من عارها من قبل اليمين الأوروبي والأمريكي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock