تقديم
يواصل الباحث في شؤون الإسلام السياسي المقيم في الغرب دكتور وائل صالح سلسلة مقالاته العشرة لـ«أصوات أونلاين» عن أسباب تعاطف جزء لا يستهان به من الاكاديميا الغربية مع الاسلام السياسي أو الإسلاموية . لكنه في هذه المقالة يفجر نقطتين بالغتي الأهمية
النقطة الاولي: أن تيارات أكاديمية غربية تطابق بين الإسلام كدين وبين الجماعات الإسلاموية، وتعتبر الأخيرة هي الممثل الوحيد للاسلام، متجاهلة تيارات أخرى مهمة على الساحة الإسلامية، كتيار التصوف وتيار التجديد العقلي …إلخ
النقطة الثانية: أنه من المدهش مطابقة بعض هؤلاء الأكاديميين الغربيين بين الإسلام وبين الإخوان تحديداً، ويلاحظ أن تيارات متعارضة تتعارض تعارضا كليا تتفق على هذه الفكرة، فكيف يصل تيار الاستشراق في قسمه الإستعماري الذي تمثله أسماء مثل برنارد لويس إلي نفس النتيجة التي يتباها تيار مابعد الكولونيالية الرامي إلي فهم صحيح للمستعمرات السابقة يزيح الركام الخاطئ الذي زرعته الدوائر الامبريالية القديمة والحديثة ؟
أصوات أونرلاين
اعتاد البعض من الباحثين في الغرب على التعامل مع «الإسلاموية» – أى فكر جماعات الإسلام السياسي -علي انها الإسلام نفسه دون انتباه للحقيقة البسيطة التي تقول أن الإسلاموية ليست إلا نوعاً من فهم التدين، حديثا وهامشيا بالرغم من قوة تنظيمه و تصدره المشهد الإعلامي خصوصا في مرحلة ما قبل الربيع العربي.
فالإسلاموية هي رؤية شمولية حركية للدين تعتقد أن هناك نموذجاً معد مسبقًا يجب على المسلم اتباعه في كل مناحي الحياة وغير مسموح له بغير هذا النموذج، الذين هم كبشر هم واضعوه في الحقيقة و لكن يلبسونه رداء القداسة ليحل مع الزمن محل الدين نفسه عند البعض.
بالإضافة إلي التيار الإستشراقي الذي يمثله «برنارد لويس» والذي يري أن الإسلام دين سياسي بطبيعته، يرى البعض ممن ينتمون لتيار «ما بعد الكولونيالية»، وهو تيار يهتم بمحاولة فهم مجتمعات المستعمرات السابقة، والذي ينادي بأن يترك العرب والمسلمين يعبرون عن أنفسهم بأنفسهم دون الحكم عليهم بالمنظور الثقافي والفلسفي الغربي- وهذا امر في حد ذاته لاغبار عليه- هذا البعض يعتبر – بشكل مباشر أو غير مباشر- أن تيار وحركة الإسلاموية هى الممثل الوحيد لتلك الثقافة وذلك الدين، و بالتالي لا يتردد هذا التيار في التبني المطلق لبعض مقولات الإسلاميين واعتبارها من أسس الإسلام ذاته كدين.
برنارد لويس
علي سبيل المثال يتبنى «طلال أسد» ما تذهب إليه حركات الإسلام السياسي من أن الفصل بين الدين والسلطة هو معيار غربي ونتاج فريد لتاريخ الحضارة الغربية، لا يتماشى مع خصوصية الإسلام.
طلال أسد
و ينظر «وائل حلاق» في كتابه «الدولة المستحيلة» لما يذهب إليه الإسلامويون من استحالة تحقيق طموحهم بإنشاء دولة على هياكل ومبادئ الدولة المدنية الحديثة بدعوى أنها تتعارض مع أخلاقية الرؤية الإسلامية للوجود والمجتمع الإنساني نفسه.
«وائل حلاق» وكتابه «الدولة المستحيلة»
بيرجا أم الغنوشي
أما المثال الأكثر فجاجة فهو ما قاله الباحث الفرنسي فرنسوا بيرجا في شهادة له أمام البرلمان الفرنسي مدافعا عن الإسلامويين، حين قال: «إن المسلم الجيد في نظر الغربيين هو المسلم الذي ترك إسلامه [1] (أي المسلم غير الإسلاموي). في مواجهة هذه الحالة من التبني من بعض الباحثين الغربيين لبعض مسلمات حركات الإسلام السياسي»، ظهرت مزحة في الوسط الأكاديمي الغربي الناقد تقول: «إذا كنت لا تعرف «بيرجا» و «الغنوشي» و حضرت لهما مؤتمراً مشتركاً فمن الصعب أن تميز بينهما، و إن أرغمتك الظروف علي حتمية تحديد من هو الغنوشي من بين الإثنين لتخيلـت أن فرنسوا برجا لا يمكن إلا أن يكون هو راشد الغنوشي، فهو أكثر إسلاموية في خطابه من الغنوشي نفسه».
راشد الغنوشي، وفرانسوا بورجا
«الإسلاموية» ليست الإسلام
هؤلاء اللذين يعتبرون أن «الإسلاموية» هي الإسلام، يرتكبون خطأين أساسيين:
الخطأ الأول:
أنهم يتجاهلون التيارات الأخرى العديدة في الإسلام و يختزلون الإسلام في قكر حركات الإسلام السياسي المعاصرة، تماماً كما يفعل الإسلامويون، فبالإضافة إلى «الإسلاموية» (التي تعتقد في تبعية السياسة للدين بشكل تام)، يتضمن الفكر الإسلامي المعاصر تيارات أخرى مثل «الإصلاحية المسلمة» التي يمثلها على سبيل المثال فكر الأزهر وعموم الفكر الإسلامي التوفيقي الذي يتراوح بين استقلالية السياسة أو تبعيتها النسبية للدين، ولكنه في كل الأحول لا يضع السياسة في قلب المشروع الإسلامي كالإسلاموية. أما التيار الثالث المهم فهو تيار «الإنسانوية المسلمة» التي يمثلها مفكرون مستنيرون قد لا تكون أفكارهم منتشرة كالإسلاموية المتشددة أو الفكر الوسطي المعتدل، ولكنها قد تصنع مستقبل المجتمعات الإسلامية كفكر محمد أركون على سبيل المثال وغيره من المجددين الذين يؤمنون بالاستقلال التام للسياسي عن الديني، وهى التيارات الثلاثة التي فصلت في شرح افكارها والفروق بينها في كتابي المنشور عام 2017 «مفهوم الدولة في الفكر المصري المعاصر: الإستمراية و القطيعة في علاقة الدين بالسياسة[2].
لماذا يتحدثون باسم الإسلام
الخطأ الثانى:
الذي يقع فيه بعض الأكاديميين الغربيين، خاصة تيار ما بعد الكولونيالية، فعبرت عنه الباحثة «غاياتري سبيفاك» في مقالتها «هل بمقدور التابع أن يتكلم؟»[3]
(1988) بقولها أنه بالرغم من أن منظري هذا التيار يرغبون في إسماع صوت المستعمرات السابقة للعالم، ينتهي بهم الأمر بارتكاب ما هو معاكس لمقصدهم تماماً، و ذلك بخلق وضع تعتمد فيه هذه المجتمعات على بعض هؤلاء الباحثين الغربيين للحديث نيابة عنهم، بدلاً من السماح لهم بالتكلم عن أنفسهم مباشرة، كأن هؤلاء كتب عليهم أن يتكلم عنهم غيرهم مع الاستعمار وبعده. وبالإضافة لذلك، يلاحظ أن هذا التيار بين الأكاديميين الغربيين يـتعامل بتعميمات متسرعة وكأن التيارات والفرق والجماعات المختلفة في مجتمعات ما بعد الإستعمار هى كيان واحد لا تعدد فيه رغم انهم يعرفون من مجتمعاتهم الغربية أن تعدد الجماعات داخل النسيج الديني الواحد هو القاعدة وليس العكس.
الباحثة «غاياتري سبيفاك»
وفي حالة الإسلام يمكننا القول بأن تيار ما بعد الكولينالية قد اختار الإسلاموية كتعبير عن الإسلام ربما لأنها نوع من الفهم للتدين الإسلامي الذي يردد ما يتوقع الباحث سماعه واعتاده عن الإسلام بشكل مسبق. ونتيجة للتأثير الكبير لها التيار في الغرب،
لقد وصل الأمر لدرجة أن من ينتقد الإسلاموية من المسلمين المخلصين في الغرب يتم وصفه من بعض المتعاطفين من غير المسلمين في الأكاديميا الغربية بأنه واقع بدوره تحت تأثير الإسلاموفوبيا. في هذا الإطار تم إصدار كتاب ينمي ذلك الاتجاه يحمل العنوان التالي «الإسلاموفوبيا في البلاد ذات الأغلبية المسلمة»، وعندما تتصفح الكتاب تجد خلطا مريبا بين الإسلام و الإسلاموية يصل الي حد الهذيان الفكري، عندما يتهم الكتاب الدولة و المجتمع في بلاد عربية مثل مصر بلد الازهر الشريف وقبلة العالم السني بالإسلاموفوبيا لمجرد أنها تعادي جماعات العنف المتطرف و المنغلق أو جماعات الولاء العابر لحدود الدولة الوطنية كجماعة الإخوان.[4].
[1] DAECH : François Burgat, dir de recherche CNRS شاهد بداية من الدقيقة 21:10
[2] Wael Saleh, La conception de l’État dans la pensée égyptienne contemporaine. Continuités et ruptures dans l’interprétation des liens entre religion et politique, L’Harmattan, Collection Comprendre le Moyen-Orient, 2017.
[3] Can the Subaltern Speak? in Cary Nelson and Larry Grossberg, eds. Marxism and the interpretation of Culture (1988).
[4] Enes Bayrakli et Farid Hafez, Islamophobia in Muslim majority Societies, Abingdon-on-Thames, Routledge, 2018, 218 p.
اقرأ أيضا:
لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟ (1)
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية؟ (2): هل الإسلاموية لاهوت تحرير أم تكفير؟
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية (3): هل الإسلاموية تيار ينتمي إلى ما بعد الحداثة؟