كثيرًا ما سألت نفسي: أي جرأة كان يمتلكها نجيب محفوظ وهو يكتب بالفصحى شخصية مثل شخصية «زيطة صانع العاهات»؟.
كيف لم يعرف التردد طريقه إلى قلب محفوظ الناشئ وهو يقرر قرارًا نهائيًا لا رجوع عنه أن رواياته وقصصه النابتة من قلب الحارة القاهرية لن تكتب سوى بالعربية الفصحى؟.
كيف أفلت من تأثير أستاذه سلامة موسى وهو من أكابر الداعين إلى الكتابة بالعامية؟.
ظلت تلك الأسئلة تشغلني إلى أن وجدت ما أعتقد أنه الجواب الشافي، إن كلمة السر في تكوين محفوظ هى «مصطفى لطفي المنفلوطي».
نجيب محفوظ، ومصطفى المنفلوطي، وسلامة موسى
كان من حسن حظ الأدب العربي أن الكاتب الأستاذ إبراهيم عبد العزيز قام بجمع معظم الحوارات التي أجريت مع محفوظ ونشرها في كتابين «نجيب محفوظ بقلم نجيب محفوظ» و «أنا نجيب محفوظ».
في الكتاب الأول يستفيض محفوظ في ذكر المنفلوطي فيقول: «إن معرفتي بالتراث بدأت من القرآن الكريم والأحاديث إلى الشعر الجاهلي، تأتي بعد ذلك مرحلة المنفلوطي، وما أدراك ما المنفلوطي وأثره في تهذيب النفوس؟.
تعلقت بالمنفلوطي وكان هو المدرسة الإلزامية لجيلنا كله، أسلوبه جديد جميل ساحر فيما يتناوله من موضوعات كانوا يترجمونها له ويقوم هو بتعريبها بطريقته المتميزة الآتية من بين أساليب صعبة جدًا، فكان مثل «المياه الحلوة» ولهذا كان له تأثير في جيلنا كله، كنا نتعلم اللغة والنحو منه فقد قام بنقلة كبيرة جدًا قبل المجددين.
ولقد كنت أعلق له صورة في بيتنا على أساس أنه على قيد الحياة، واتضح لي أنه فارق دنيانا فبكيت عليه بعد وفاته بعشر سنوات.
كنت محاكيًا ومتأسيا بلغة أستاذي طه حسين، أما المنفلوطي فقد ولدت في حضنه لذا قمت بتقليده تقليدًا صريحًا في أعمال لم أنشرها».
ما سبق على أهميته وخطورته يعد قطرة من بحر محبة محفوظ للمنفلوطي واعترافه بفضله ومكانته بين الأدباء، تلك المحبة ستبلغ ذروتها في اعتراف لمحفوظ نجده في سطر من سطور رواية «السكرية» وهذا السطر لفت نظر المؤرخ الأستاذ صلاح عيسى فجعله مفتاحًا لفهم المنفلوطي وتأثيره، في السكرية يقول أحد أبطالها: إن أسود ثلاثة أيام عاشها كانت تلك الأيام التي شهدت رحيل سيد درويش وانفصال السودان عن مصر ورحيل مصطفى لطفي المنفلوطي.
فمن هو المنفلوطي الذي يجحد البعض ذكراه ومكانته ويرون ضرورة التخلص منه ومن إنتاجه؟.
ميراث الأجداد
ولد مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن حسن لطفي في العام 1876 بمدينة منفلوط إحدى أشهر مدن محافظة أسيوط، أبوه عربي مصري، وأمه تركية، ويعلو نسبه إلى الفرع الحسيني من آل البيت الكرام.
كانوا يأخذون عليه اعتزازه بنسبه، وهذا من عجيب النقد المصري!
كانت أسرة مصطفى تكاد تحتكر معرفة علوم الشريعة واللغة ومناصب القضاء، نشأ مصطفى عارفًا بنسبه الشريف وبمكانة أسرته، فحفظ القرآن الكريم كله وهو دون العاشرة من عمره، ثم كان لا بد من الإقامة في القاهرة للدراسة في الأزهر.
غادر الطفل مصطفى حضن أسرته ورعايتها حبًا في الأزهر.
تحمل الطفل عناء الغربة وأظهر تفوقًا ملحوظًا في دروس اللغة والأدب، فكان تفوقه هذا نكبة عليه.
لقد شغف مصطفى بالأدب، وظني أن شغفه هذا جعله يهمل في دراسة علوم الشريعة وهى فخر الأزهر الأول، فضاق به زملاؤه فراحوا يضيقون عليه، حتى ترك الدروس كلها بل والأزهر ذاته ولم يحصل على شهادته، منقطعًا لدراسة الأدب.
العودة إلى منفلوط بخفي حنين كانت كارثة ستهز أعمدة الأسرة، والبقاء في القاهرة لدراسة الأدب، كان عملًا جنونيًا.
عاش مصطفى هذه الحيرة وتحمل صابرًا تبعاتها إلى أن لاحت في آخر النفق أضواء الشيخ الإمام محمد عبده.
لزم مصطفى مجلس الإمام وشرب من بين يديه الأدب واللغة.
الشيخ الإمام محمد عبده
عدوى الثورة
كان الشيخ الإمام محمد عبده من وجوه الثورة العرابية النيرة، ثم بعد هزيمتها لم يتنكر لها وإن جنح إلى نوع من الإصلاح الهادئ البعيد عن صخب الثورات، ولكن بقيت جذوة الثورة مشتعلة بين جوانحه، ومن معطف الإمام سيخرج جيل جديد يفجر ثورة جديدة 1919.
من أبرز رجالات هذا الجيل كان مصطفى لطفي المنفلوطي الذي اصطدم مبكرًا بأسرة محمد علي الحاكمة.
كان المنفلوطي قد غادر الأزهر ولم يحصل على شهادته ولكنه حاز ما أستطاع إليه سبيلًا من علوم اللغة والشريعة، فأصبح واحدًا من الكتاب الصحفيين الذين يلهبون ظهر المحتل الإنجليزي بسياط مقالاتهم.
يرصد الكاتب الأستاذ أحمد عبد الهادي تفاصيل هذه الفترة من حياة المنفلوطي في كتابه «المنفلوطي .. حياته ومؤلفاته» فيقول ما ملخصه: إن المنفلوطي بدأ حياته الأدبية شاعرًا ثائرًا يكاد يوقف شعره على القضية الوطنية التي لا هدف لها أسمى من طرد المحتل والتخلص من الخونة أعوان الاحتلال، ففي العام 1897 نشر المنفلوطي قصيدة تحت عنوان «تحرير مصر» ووقعها باسم «عدو الاحتلال».
كانت مصر أيامها تحت حكم الخديوي عباس حلمي الثاني الذي كان مقدرًا من أطياف واسعة من الشعب، لكن المنفلوطي كان يرى الدودة التي في أصل الشجرة فقال:
«ألا رايةٌ للعدلُ في مصرَ تَخفُفق
لعل مساعي دولة الظلم تخفق
ألا صدمةٌ للجور توقف سيره
فيجبر ذاك الكسرُ والفتقُ يرتقُ
ذهِلنا فما ندري أولى أمورنا
بلندنَ أم في مصرَ كيفَ نُفرِّقُ؟».
وقد انتشرت هذه القصيدة بين الناس انتشار النار في الهشيم، وعرف الجميع أن شاعرها هو مصطفى لطفي المنفلوطي، وقد وقعها باسم مستعار لكي يفلت من الملاحقة الأمنية والقضائية.
ثم حدث أن الخديوي عباس حلمي الثاني قد قام برحلة داخل الوطن، وكانت المدن الكبرى تحسن استقباله ووداعه، وكانت الصحف، وعلى رأسها صحيفة المؤيد تبالغ في تغطية أخبار الرحلة الداخلية.
في صباح الثالث من نوفمبر من العام 1897 عاد الخديوي من رحلته التي ختمها بزيارة ثغر الإسكندرية، غير مدرك أن قنبلة شعرية ستنفجر في وجهه بعد قليل.
في يوم الخميس الرابع من نوفمبر ذهب الشاعر الشاب السيد مصطفى لطفي المنفلوطي إلى الصحفي السيد أحمد فؤاد صاحب جريدة «الصاعقة» وكأن أحمد فؤاد صحفيًا من الأحرار الكارهين للمحتل ولأعوانه.
جريدة الصاعقة 1941
قدم المنفلوطي لفؤاد قصيدة من خمسة وعشرين بيتًا تندد بالخديوي وبرحلته وتتمنى زوال ملكه وتهجو أجداده.
رغم خطورة القصيدة التي كانت تسبح ضد التيار فإن أحمد فؤاد قد وافق على نشرها، وزيادة في السخرية من المقام الخديوي فقد صدرها بهذه الجملة «تهنئة مرفوعة إلى سمو خديوي مصر لمناسبة عودته من ثغر الإسكندرية إلى العاصمة».
بعد تلك الجملة بدأت القصيدة التي قال فيها المنفلوطي:
«قدومٌ ولكن لا أقولُ سعيدُ
وملكٌ وإن طالَ المدى سيبيدُ
بعدتَ وثغر الناس بالبشرِ باسِمٌ
وعدتَ وحُزنٌ في الفُؤادِ شديدُ
تذكرنا روياكَ أيامَ أُنزِلَت
علينا خطوبٌ من جُدودِكَ سُودُ
كأني بقصرِ الملكِ أصبحَ بائداً
من الظلمِ والظلمُ المبينُ مُبيدُ
أعباس ترجو أن تكونَ خليفةً
كما ودَّ آباءٌ ورامَ جُدودُ
فيا ليتَ دنيانا تزولُ وليتنا
نكون ببطنِ الأرض حين تسودُ».
حظ هذه القصيدة من الانتشار لم يقل عن حظ سابقتها، بل فاقه بمراحل، لقد نسخ الشعب القصيدة، وباعها البائعون بخمسة فرنكات للنسخة الواحدة، وتلك الفرنكات كانت ثمنًا لديوان المتنبي كاملًا!
قصيدة الغد للمنفلوطي
غياهب السجن
كانت السلطات تعرف أن المنفلوطي هو صاحب القصيدة، ولكنها تجاهلته وقصيدته لكى يموتا مختنقين بالصمت، وراهنت السلطات على أن الشعب الذي نسخ القصيدة سرعان ما سينساها منشغلًا بأمر جديد من أمور الحياة، ولكن تقدرون فتضحك الأقدار، لقد خاب رهان السلطات فقد عبرت القصيدة الحدود ووصلت إلى قلب لندن فقامت جريدتا «التيمس» و «الرويتر» بترجمتها ونشرها فعرف بها في الغرب ما يقارب المليون قارئ!.
هنا تحركت السلطات وطلبت النيابة محاكمة منشئ القصيدة، فتم القبض على ناشرها أحمد فؤاد الذي لم يعترف باسم المنفلوطي، فضاق صدر الخديوي لأنه عارض من البداية الاكتفاء بمحاكمة الناشر ثم لأنه رأى التخلص من السيد توفيق البكري الذي كان رئيس لجنة الموازنة في مجلس شورى القوانين، وكانت العلاقة بينه وبين الخديوي قد بدأت تسوء.
أنكر البكري تأليفه للقصيدة، ولم تجد النيابة دليلًا يؤيدها، فحفظت التحقيقات مع البكري، وبالضغط على ناشر القصيدة أحمد فؤاد، اعترف بأنه طبع القصيدة في مطبعة الشيخ محمد الخيامي، وبالقبض على الخيامي اعترف بأن مصطفى لطفي المنفلوطي كان مع فؤاد يراجع معه القصيدة.
في اليوم الرابع من ديسمبر من العام 1897 صدر الحكم ضد أحمد فؤاد بالحبس عشرين شهرًا وغرامة قدرها ثلاثون جنيهًا، وضد المنفلوطي بالحبس اثني عشر شهرًا وغرامة قدرها عشرون جنيهًا.
لجأ المنفلوطي إلى استئناف الحكم فماذا حدث؟.
نكمل الأسبوع المقبل بإذن الله.