بعدما نجح صلاح الدين الأيوبي في استرداد بيت المقدس والقضاء على مملكة الصليبيين في القدس عام 582 هجريا صارت «عكا» المدينة الحصينة على ساحل المتوسط هي مملكة الصليبيين، وقد ظلت كذلك طوال حكم الدولة الأيوبية والمملوكية، وما أن نجح الظاهر بيبرس في الاستيلاء على مدينة إنطاكيا التي استعصت نحو 170 عام على جيوش المسلمين، حتى هربت دماء ملك عكا الذي سارع إلى إرسال موفده إلى الظاهر بيبرس طالبا عقد هدنة، وافق الظاهر بيبرس مرسلا مؤرخه ابن عبد الظاهر لابرام الاتفاق.
يحكى ابن عبد الظاهر في تاريخه (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر) قائلا: «إن ملك الفرنجة حاول أن يظهر تصلبا في فرض شروطه، لكنه رأى مني تصلبا أكثر منه بحسب تعليمات السلطان، فقال لي انظر من خلفك، فنظرت ورأيت جيش الفرنجة بأكمله متأهبا للقتال، وملك الفرنجة يقول لي لا تنسى وجود هذا الحشد من الجنود،فأجبته: ان الجنود في جيشك أقل مما في سجون القاهرة من جنود الفرنجة».
في نهاية الأمر وقع الاتفاق الذي ظل قائما حتى وفاة الظاهر بيبرس في السابع والعشرين من محرم سنة 676 هجريا/ الموافق الثلاثين من يونيو عام 1277 ميلاديا- مسموما كما تذهب بعض الرويات، ليبدأ خلفه المنصور قلاوون قيادة جبهة المسلمين في تطهير الأرض العربية من بقايا الصليبيين.
كان المنصور قلاون وهو القائد العسكري الذي قاد أكثر معارك الظاهر بيبرس ضراوة ضد الصليبيين يستشعر الخطر مما تناهي إلى مسامعه عن توافد جنود الغرب الصليبي إلى عكا، ولأن المدينة كانت تحميها خمس سنوات من الهدنة فقد قرر صرف جهوده الى طرابلس، وفي مارس من عام 1289 كان جيشه القوي يحتشد تحت أسوار طرابلس لتسقط في يديه بعد نحو 180سنة من استيلاء الفرنجة عليها، وقد أمر جنوده بمساواة المدينة بالأرض وأن يقتل فيها جميع المقاتلين دون النساء والأطفال.
المنصور قلاوون
وعلى الرغم من أن حشود الفارين من الفرنجة كانت تتجمع في عكا، إلا أن المنصور قلاوون رفض أن يحنث بعهده مع المملكة التي لا تزال يفصل بينه وبينها سنوات الهدنة، على الرغم من مطالبات قواد جيشه بضرورة إنهاء الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي وبغير رجعة.
شجع سلطان المسلمين التجار العرب على التبادل التجاري على مرافىء المدينة مع التجار الاوربيين، وما أن تطايرت إلى أوروربا اخبار سقوط طرابلس حتى كان أسطولا ضخما قد وصل الى ميناء عكة المهادنة مفرغا آلاف المقاتلين الذين أعملوا القتل في التجار المسلمين المسالمين بالمدينة، وهكذا حٌل سلطان المسلمين من عهده.
أرسل المنصور قلاوون إلى جميع أمراءه يخبرهم بعزمه على طي صفحة الوجود الفرنجي في بلاد المشرق الاسلامي، و استدعى الأتباع من أركان سلطنته في مصر والشام والعراق والجزيرة، لتتجمع قوات جيشه بمنطقة العباسية في قلب القاهرة، وقبل أن يتحرك على رأس جيشه أقسم المنصور قلاوون على كتاب الله ألا يلقي السلاح حتى لا يدع موطىء قدم لإفرنجي في ديار الإسلام.
في اليوم التالي وبينما تهم الجيوش بالتحرك خارت قوى السلطان وسقط مغشيا عليه، كان المنصور قد تقدم في العمر ولم يكن لديه من الأبناء من يرث حكمه وينفذ وصاياه سوى ذلك الفتى النزق والمتهور «خليل» بعدما توفى أكبر ابناءه. وقد رفض قلاوون نصيحة مستشاريه من قبل بجعل خليل وريثا لحكمه، قائلا «أنا ما أولي خليلا أمر المسلمين».
لكن ما الذي بقي بيد المنصور قلاوون ليفعله وقد تجهزت جيوشه للمعركة بينما هو مريضا طريح الفراش، لقد بلغ صدق عزم الرجل إلى أن استدعى أمراءه وقادة جنده، وجعلهم يقسمون على طاعة ولده خليل الذي سيقودهم في المعارك، وجعل خليل يقسم ألا يتخلى عن تحقيق رغبته في طرد الصليبيين وتطهير أراض المسلمين.
بات خليل الشاب القوي الذي ربما تنقصه حنكة والده وخبرته لكن لا تنقصه شجاعته ولا بأسه بل ربما فاقه، محملا بعبْ الأمانة التي حملها له والده، وما هي إلا شهور قلائل حتى أثبت خليل أنه استحق ثقة والده، وأنه أقوى سلاطين المماليك وأكثرهم شجاعة وبأسا، وأن مجىء السلطان الاشرف خليل بن قلاوون على عرش المماليك كان يحمل نهاية محتمة للصليبيين.
فلم تمض سوى شهور قلائل حتى خرج الأشرف خليل من القاهرة في (صفر 690هـ= 1291م) قاصدًا «عكا»، وأرسل في الوقت نفسه إلى كل ولاته بالشام بإمداده بالجنود والعتاد، ونودي في الجامع الأموي بدمشق بالاستعداد لفتح «عكا» وتحطيم أسوارها المنيعة وتطهير الشام نهائيًا من الصليبيين، هكذا صارت معركة النهاية الحلم الذي طال إنتظاره مشروعا جماهيريا دفع الأهالي لمعاونة الجند في جر المجانيق.
وخرج الأمير «حسام الدين لاجين» نائب الشام بجيشه من «دمشق»، وخرج الملك المظفر بجيشه من «حماة»، وخرج الأمير «سيف الدين بلبان» بجيشه من «طرابلس»، وخرج الأمير «بيبرس الدوادار» بجيشه من «الكرك»، وتجمعت كل هذه الجيوش الجرارة عند أسوار عكا، وقدر عددها بنحو ستين ألف فارس، ومائة وستين ألفًا من المشاة؛ مجهزين بالأسلحة وعدد كبير من آلات الحصار، وبدأت في فرض حصارها على «عكا» في (ربيع الآخر 690هـ = 5 من إبريل 1291م)، ومهاجمة أسوارها وضربها بالمجانيق.
اشتد الحصار الذي دام ثلاثة وأربعين يومًا، كان الصليبيون يدركون أن سقوط المدينة يعني انتهاء وجودهم في الشرق فقاتلوا عنها قتال المستميت، وتوالت الإمدادت إليهم من قبرص واليونان عن طريق البحر.
حين كانت قوات المسلمون تمر بمحاذاة البحر كانت مراكب فرنجية تعلوها أبراج مغطاة بالخشب ومفروشة بجلود الحيوانات ترشقهم بسهام الأقواس والقاذفات، بينما كانت سفنا أخرى تقذفهم من البحر بالمنجنيق، شق المسلمون طريقهم إلى القلعة، وأجبروا حاميتها على التراجع؛ وتمكنوا من إحداث ثقوب في أسوار المدينة التي استعصت على أجيال من القادة الفاتحين.
دخل الأشرف خليل عكا التي استسلمت تحت وطأة قذائف المنجنيق في (17 جمادى الأولى 690هـ= 18 مايو 1291م)، وشاع الرعب في قلوب سكانها الصليبيين بعد أن زلزلت صيحات جنود المماليك جنبات المدينة، وهز الرعب والفزع قلوب الجنود؛ فاندفعوا إلى الميناء في غير نظام يطلبون النجاة بقواربهم إلى السفن الراسية قبالة الشاطئ؛، وهرب ملك الفرنج وخواصه في البحر، ووقع عدد كبير من سكانها أسرى في قبضة المماليك.
وعلى أثر سقوط مملكة عكا الصليبية فر جميع من في بلدان الساحل من الفرنجة فاخلوا صيدا وبيروت وصور وجميع المدن الساحلية، وكان خليل الذي حفظ عهد أبيه قد قرر أن يهدم على طول الساحل كل قلعة كان بالإمكان أن يستخدمها الفرنج يوما ما إذا ما فكروا في العودة الى الشرق من جديد، لكنه أيضا خلد اسمه كأحد أهم القيادات الإسلامية التي نجحت في فتح عكا المدينة العصية، وإن لم يكن الأخير.