عبد الرحمن ابن خلدون هو صاحب الكتاب العربي الأشهر، في التاريخ، كتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر» .. والذي يعرف اختصارا بــ «تاريخ ابن خلدون».
في كتابة «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا» يقول ابن خلدون: «كان خلدون (الجد العاشر له) قدِم من المشرق في رهط من قومه أهل حضرموت ونزل إشبيلية (جنوب الأندلس، الآن هي مقاطعة في جنوب اسبانيا).. وكانت لهم فيها زعامة ورياسة. ثم رحل جدي فنزل {سبتة}، ثم أرخى زمام مطيته متوجهًا إلى مدينة {عنابة}، فلقيه صاحبها الأمير زكرياء باحتفاء، وأدخله في سلك رجال دولته، وجرى ابنه محمد على سننه في خدمة الدولة، وأدرك ما ناله والده من وجاهة وإقبال. وانتهى أمر ابنه محمد — الذي هو الجد الأدنى لي — إلى السكنى بمدينة {تونس} والانتظام في هيئة الدولة، وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من مدينة تونس يستعمله عليها، ولكن ابنه محمدًا —وهو والدي — عدل عن مسلك السياسة وخدمة الدولة، وآثر مدارسة العلم ومجالسة الأدباء، فأصبح معدودًا في زمرة العلماء، ومشهودًا له بالتقدُّم في فن الأدب.»
ابن خلدون بين دهاليز السياسة وفلسفة العمران
ما كان لابن خلدون أن يصل إلى هذه المكانة العلمية التي أهلته لأن يتربع على قمة العطاء العلمي، لولا اتصاله الوثيق بواقع عصره، ومعايشته لأحداثه، والتفاعل معها تأثيرا وتأثرا، فإن «… ما تتمتع به شخصيته من ثراء على المستوى الإنساني والعلمي، راجع إلى أنه لم ينقطع للدرس والتأمل والتنظير داخل حجرة معزولة مليئة بخزانات الكتب. وبالأحرى فان ابن خلدون لم يبدأ في تدوين ملاحظاته، ومن ثم وضْع آثاره العلمية على الورق، إلا بعد رحلة طويلة من التجربة الثرية داخل دهاليز الحكم، معاندا التيار حينا مصارعا له، وسائرا باتجاهه مواكبا له أحيانا أخرى، محترقا بنار المؤامرات والصراعات بين الأمراء والحكام إلى الحد الذي أودى به إلى غياهب السجون غير مرة.»
وعلى الرغم من أن ابن خلدون بدأ بمباشرة حياته العملية داخل بلاط السلطان أبى إسحاق، حاكم إقليم {بجاية} بأرض تونس، وهو في حوالي العشرين من عمره، إلا أنه لم ينقطع إلى التأليف والكتابة، قبل بلوغه الخامسة والأربعين من العمر، مستفيدا من تجاربه ومغامراته وتقلبات الأحوال في منطقتي المغرب والأندلس، وعندما بدأ الكتابة، اعتزل العمل السياسي، وأمضى خمس سنوات في كتابة أهم آثاره على الإطلاق، كتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر……» (تاريخ ابن خلدون)، الذي يحوى مقدمته (ويطلق عليها «مقدمة ابن خلدون»)، التي ذاع صيتها في الغرب قبل الشرق. غير انه لم يتم كتابة صفحات هذا الأثر العظيم إلا في مصر وهو في الخامسة والستين من عمره.
رحلة ابن خلدون من الغرب للشرق
عندما نتتبع حياة ابن خلدون فإن علينا أن نتأهب للتجوال خلفه عبر أرضنا العربية من أقصى غربها على ساحل الأطلنطي، إلى أقصى شمالها الشرقي عند الحدود التركية، ومن أعلى الشمال الغربي داخل أراضى الأندلس، إلى أقصى شرقها حيث الجزيرة العربية.
(خلال القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي)، فإن هذه المساحة الجغرافية المتسعة، بكل ما تضمه من أناس وحكام وأحداث ونجاحات وإخفاقات، كل هذه المساحة من الأحداث تصبح موضوعنا، فهي فترة حياة ونشاط ابن خلدون.
كانت بلاد المغرب العربي في هذه الآونة تمور بالأحداث والصراعات، التي وصلت إلى حد الاقتتال في غالب الأحيان بين زعماء وملوك المدن وسلاطينها (محمد عبد الواحد بن أبى حفص، سلطان الدولة {الحفصية}.. وبنو مدين، بالمغرب الأقصى.. ويغمراسن بن زيان، زعيم بني عبد الواحد بالمغرب الأوسط.. والسلطان الشاب أبو إسحاق، ووزيره تافراكين في {بجاية}.. والسلطان أبو يوسف يعقوب .. والسلطان المرينى.. والسلطان أبو سالم.. والسلطان تاشفين……..الخ). كل هذه الصراعات والمؤامرات كان ابن خلدون في القلب منها تأثرا وتأثيرا.
وعندما عبر ابن خلدون المضيق إلى أرض الأندلس، كان هناك في قلب الأحداث أيضا، حتى إن السلطان محمد ابن يوسف الأحمر، سلطان {غرناطة}، أرسله سفيرا عنه إلى ملك {قشتالة} بيدرو بن الفونسو الحادى عشر، فنال إعجاب ملكها الذي عرض على ابن خلدون الانضمام إلى بلاطه ليكون من رجال مملكته، إلا أن ابن خلدون اعتذر عن قبول العرض. (مملكة قشتالة هي إحدى أجزاء مملكة ليون في الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأسبانية).
مملكة ليون عام 1037 م (بالأصفر).
وعندما رحل ابن خلدون إلى الشرق، واستقر بأرض مصر حتى نهاية عمره (عاش بمصر حوالي ربع قرن من الزمان) كانت حياته أقل صخبا من تلك الفترة التي قضاها بالمغرب، إلا أنها لم تخل من المتاعب، إذ لم ينعم خلالها بحياة هادئة بعيدا عن مؤامرات الحكم، فيكفى أن نشير في هذه العجالة إلى أنه تولى منصب القضاء (على المذهب المالكي) وأقصي عنه ست مرات
وفى مصر عاصر ابن خلدون تقلب السلاطين على تخت الحكم، فبعد وصوله إلى القاهرة بفترة وجيزة، خلع السلطان برقوق، السلطان الصالح بن الأشرف شعبان بن قلاوون، منهيا بذلك حكم بني قلاوون ودولة المماليك الأتراك بمصر، مؤسسا لدولة المماليك الجراكسة، وعاصر عودة السلطان الصالح المنصور بن قلاوون وخلع برقوق، ثم خلع الصالح المنصور وعودة برقوق. ومات بمصر أيام سلطنة الناصر فرج بن برقوق.
فى القاهرة جلس للتدريس بالأزهر الشريف، وأصبح عالما من علمائه، وصاحب عمود شأنه شأن علماء الأزهر وأساتذته. وفى القاهرة أيضا أتم «كتاب العبر…..»، أو «تاريخ ابن خلدون»، كما أشرنا سابقا، غير أن أهم ما يثير انتباهنا في فترة حياة ابن خلدون بمصر، علاقته بتلميذه النجيب «المقريزي»، لما في ذلك من أثر فيما تركه المقريزي من مؤلفات، تميزت بميل واضح لدى المقريزي نحو درس التاريخ المصري وتدوينه ناظرا بعين إلى أحداث التاريخ، وبالعين الأخرى إلى الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت في تشكيل تلك الأحداث.. «وهو ما لم يفعله المؤرخون المصريون، منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية الحكم العثماني، ممن سبقوه أو لحقوه على السواء».
بين ابن خلدون وتيمورلنك
ولعل لقاء ابن خلدون بـ«تيمورلنك»، قبيل نهاية حياة ابن خلدون، يعد من الأحداث المهمة، ليس فقط بالنسبة لابن خلدون، وإنما أيضا بالنسبة لمستقبل الصراع بين مصر والشام من جهة (المشرق العربي عامة)، وهذه القوة الغازية الغاشمة الباطشة التي هددت المنطقة بأسرها من جهة أخرى، فلما ذهب إلى الشام عاش أحداث غزوات تيمورلنك، الذي أمعن في سفك الدماء وتخريب العمران، فسعى إلى الاجتماع به – أو أجبر على ذلك – ودار بينهما حديث طويل انتهى إلى نجاة دمشق من الغزو، ونال فيه ابن خلدون من تيمورلنك الأمان للقضاة والأعيان والعمال.
صورة متخيلة للقاء تيمورلنك بابن خلدون
في تلك الفترة كانت الدولة العربية في الأندلس تخبو رويدا رويدا، وانحسر سلطانها حتى أصبح محصورا داخل حدود غرناطة، ولكن على الرغم من ذلك استمر الأدب والفن الأندلسي يقاوم عناصر الفناء.
ابن خلدون وفلسفة العمران البشري
يقول المستشرق «كارادوفو»، في الجزء الأول من مؤلفه {مفكري الإسلام}: «أنجبت أفريقيا الإسلامية اجتماعيّا من الطبقة الأولى في شخص ابن خلدون، الذي لم يُعرف من قبله عالم أوتي تصورًا عن فلسفة التاريخ أصح ولا أجلى من تصوره، فإن أحوال الأمم الروحية والأسباب الطارئة عليها القاضية بتغييرها، وكيفية تأسيس الدول، وما تدخل فيه من الأطوار وتنوع المدنيات وعوامل نموها أو تقلصها، كل ذلك كان من المباحث التي خاض فيها إلى أقصى ما يمكن الخوض فيه، وذلك في مقدمته المشهورة. ولم نجد في أوروبا — إلا في القرن الثامن عشر للميلاد — أناسًا حاولوا أن يستخرجوا أسرار التاريخ استخراجه بعد أن كانت أقفالًا مستحجبة تعذر فتحها، فهو من دون شك الجد الأعلى لعلمائنا الاجتماعيين المحدثين.»
ولذلك يُعد ابن خلدون المُؤسس الحقيقيّ لعِلم الاجتماع (أو ما يسميه هو بعلم العمران البشري)، وقد وعى ابن خلدون أنّه أسّس علما جديدا بالغ الأهميّة، حين كتب في مقدّمته: «وأعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مُستحدَث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة».، فهو مؤسس علم الاجتماع قبل أن يعرف العالم أجمع، بشرقه وغربه، هذا العلم كأحد أفرع العلوم الإنسانية، وكان على الغرب آن ينتظر أكثر من أربعة قرون قبل إن يضع «أوجست كونت» الفرنسي الأصول والمبادئ الحديثة لهذا العلم.
أوجست كونت، مؤسس علم الاجتماع الجديد
وبقدر ما كانت أفكار ابن خلدون ونظرياته الواردة بمقدمته، سببا في شهرته بين علماء وباحثي الغرب المحدثين، بقدر ما أثارت له من المتاعب بين أبناء زمنه، فقد عسر عليهم استيعاب هذا الفكر المستحدث بالنسبة لهم آنئذ. ويعد ابن خلدون برأي المحدثين خير من يمثل الفكر الاستقرائي التجريبي في الحضارة العربية.. فقد هاجم الفلسفة الماورائية (الميتافيزيقية)، وكشف تهافتها، ودعا إلى فلسفة وضعية مستمدة من تأمل البيئة وظروفها، وإعمال العقل في درس مظاهرها وملابساتها. فكان له السبق في الكشف عن القوانين التي تسود المجتمعات البشرية، والآليات التي تحكم حركة التاريخ الإنساني، وهو أخيرا رجل السياسة والأدب، الشاعر والإداري المحنك، المؤرخ والناقد والفيلسوف، الذي أرسي دعائم علم الاجتماع أو فلسفة العمران.
المصادر:
عبد الرحمن بن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، منشورات دار الكتاب اللبناني، 1979.
محمد الخضر حسين، تاريخ ابن خلدون ومُثل من فلسفته الاجتماعية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013.
الأمير شكيب أرسلان، تاريخ ابن خلدون.. ابن خلدون أمة وحده (تحقيق وتعليق)، هنداوي للتعليم والثقافة، 2012.
اقرأ أيضا: