لمدة أسبوع كامل امتد من الثلاثين من يونيو وحتى السابع من يوليو عام ١٩٧٠ تساقطت طائرات العدو الصهيوني على جبهة قناة السويس بشكل شبه يوم، حيث استطاعت قوات الدفاع الجوي المصرية من خلال حائط الصواريخ إسقاط أسطورة «ذراع إسرائيل الطويلة» المتمثلة في سلاحها الجوي الذي طالما تباهى قادته بأنه يمنحهم السيادة على أجواء المنطقة.
كان المشهد مبهراً بحق على الساحات المصرية والعربية والدولية، خاصة إذا ما علمنا أن الجيش الذي حقق ذلك كان جيشاً تعرض قبل سنوات ثلاث فقط من ذلك التاريخ لعدوان عسكري كلفه نحو ثمانين في المائة من قدراته، ففي يونيو من عام ١٩٦٧ كانت القوات الجوية المصرية ومطاراتها الهدف الأساسي لضربات جوية صهيونية مركزة استطاعت تدمير القوة الضاربة لهذا السلاح مفسحة المجال للطائرات الصهيونية لتصول وتجول في سماء مصر وتتصيد الجنود المصريين العائدين من الانسحاب غير المدروس من جبهة سيناء دون غطاء جوي، ذلك الانسحاب الذي اعتبره الفريق محمد فوزي في مذكراته السبب الأساسي في نكسة يونيو. لكن الشعب المصري، والعربي بشكل عام، رفض الاستسلام كما رفض قرار الرئيس عبد الناصر التنحي عن منصب، وتدفقت الجماهير العربية على شوارع القاهرة وبيروت وعمان وحتى القدس المحتلة يومي التاسع والعاشر من يونيو لتعلن رفضها للهزيمة وتمسكها بخيار المقاومة.
لم تتأخر القياده المصريه كثيراً وفي الحادي عشر من يونيو بدأ الرئيس عبد الناصر عملية إعادة بناء القوات المسلحة بتغيير شامل لقياداتها واستبدالها بقيادات تتمتع بالكفاءة العسكرية مثل الفريق محمد فوزي الذي عُين وزيراً للدفاع والفريق عبد المنعم رياض الذي عُين رئيسا للأركان والفريق مدكور أبو العز قائداً للطيران وغيره، كما لم يتأخر المقاتل المصري وكان عند حسن ظن شعبه وقيادته به، ففي الثلاثين من يونيو عام ١٩٦٧ تصدى ثلاثون مقاتلاً مصرياً لا أكثر لقوة صهيونية كانت تسعى لاحتلال مدينة بورفؤاد، فأوقفها المقاتلون عند منطقة رأس العش وأجبروها على التراجع بعد تدمير نحو ١٤ مدرعة وآلية من آلياتها رغم أن تسليحهم لم يتعد السلاح الخفيف.
خطاب الرئيس جمال عبد الناصر بعد معركة رأس العش
كانت تلك المعركة بداية مرحلة جديدة تدرجت إلي ما عرف باسم حرب الاستنزاف المجيدة واستمرت نحو ألف يوم وتضمنت قيام الجيش بأكثر من أربعة آلاف عملية ضد العدو وقواته المتمركزة في شرق القناة، ومع تزايد العمليات البطولية للقوات المصرية ضد الأهداف الصهيونية في سيناء ومع استعادة سلاح المدفعية لتوازنه ودخوله المعركة بقوة بداية من شهر سبتمبر عام ١٩٦٧ وتمكنه من استهداف الآليات الصهيونية شرق القناة، كان العدو يعتمد بكثافة على تفوق سلاحه الجوي ويبادر عقب كل عملية إلى قصف وحشي علي الأهداف المدنية في مدن القناة في محاولة للضغط على القيادة لوقف هذه العمليات.
هنا تفتق ذهن القيادة المصرية عن قرارين: الأول كان تهجير المدنيين من سكان القناة إلى الداخل المصري لإبعادهم عن غارات العدو الجوية، والثاني كان صدور القرار الجمهورى رقم (199) الصادر فى الأول من فبراير 1968 بإنشاء قوات الدفاع الجوى لتمثل القوة الرابعة فى قواتنا المسلحة. عقب هذا القرار، بدأ العمل على قدم وساق على إنشاء حائط الصواريخ وهو تجميع قتالى متنوع من الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات فى أنساق متتالية داخل مواقع ودشم محصنة قادر على صد وتدمير الطائرات المعادية. وفي الثالث والعشرين من يونيو عام ١٩٦٩ تم تعيين اللواء (المشير لاحقاً) محمد علي فهمي قائداً لقوات الدفاع الجوي.
كان العدو يدرك تماماً مدى خطورة إتمام مصر حائط دفاعي كهذا حيث أن من شأنه ان يفقد سلاحه الجوي تفوقه، ولذلك استهدف الطيران الصهيوني – بداية من عام ١٩٦٩ – قوات الدفاع الجوي بشكل مباشر في محاولة لمنع مصر من إتمام حائطها.
4000 عامل شهداء حائط الصواريخ
وتشير الأرقام الى أن العدو قام بداية من 20 يوليو 1969 بتنفيذ 500 طلعة طائرة ألقت 2500 قنبلة بإجمالي 500 طن على أهداف منتخبة خلال 10 أيام، وهي مواقع الدفاع الجوي والرادارات، ومواقع المدفعيات، والقوات في الجبهة وساعد العدو في ذلك وصول طائرات الفانتوم الأمريكية بداية من شهر سبتمبر من نفس العام، إلا ان هذا القصف المتواصل لم يفت في عضد الجبهه المصرية، وسطر العسكريون المصريون مع المدنيين من المهندسين والعمال ملحمة خالدة من خلال عملهم المتواصل لإتمام الحائط رغم سقوط الشهداء، حيث بلغ عدد شهداء القصف من العمال نحو أربعة آلاف شهيد.
وفي مطلع العام ١٩٧٠ توجه الرئيس عبد الناصر الى موسكو في زيارة اتسمت بالسرية وقال الرئيس للقيادة السوفيتية: «إن مصر تشعر كلها أنها دون حماية، وإن مئات العمال والمدنيين قد قتلوا، وإنه من الضرورى إيجاد وسيلة لتمكين مصر من الوقوف فى وجه التفوق الجوى الإسرائيلى، وهذه الوسيلة لا تتحقق إلا بواسطة الدفاع الجوى»، وبعد مناقشات مكثفة مع الجانب السوفيتي وافق هذا الأخير على إمداد مصر بفرقة دفاع جوى كاملة بأطقم سوفيتية تتكون من 32 كتيبة صواريخ أرض جو طراز سام 3 وثلاثة ألوية جوية بعدد 84 طائرة طراز ميج 21 المعدلة، وعدد 50 طائرة قاذفة طراز سوخوى و4 أجهزة رادار بـ 15 لرفع كفاءة الإنذار الجوى ضد الطيران المنخفض، كما تم الاتفاق على تدريب أطقم 3 ألوية دفاع جوى فى الاتحاد السوفيتى على تشغيل واستخدام صواريخ سام 3.
عبد الناصر يزور موسكو 1970
تسارعت الأحداث في الأشهر التالية مع قيام العدو الصهيوني باستهداف العمق المصري من خلال قصف أهداف مدنية، مثل مصنع أبو زعبل في فبراير عام ١٩٧٠ والذي أسفر عن استشهاد سبعين عاملاً.
مصنع أبو زعبل للحديد والصلب 1970
ثم ارتكاب مجزرة بشعة بحق أطفال مصر من خلال استهداف مدرسة بحر البقر المشتركة في قرية تحمل نفس الاسم في محافظة الشرقية والذي أدى إلى مقتل 30 طفلاً وإصابة 50 آخرين.
ردت مصر من خلال إقامة كمائن للقوات الصهيونية شرق القناه كلفتها عشرات القتلى والجرحى.
كان العدو عازماً على وقف استكمال مصر دفاعاتها الصاروخية وصرح رئيس الأركان الإسرائيلي في ذلك الوقت حاييم بارليف الذي حملت التحصينات الصهيونية شرق القناه اسمه [خط بارليف] لمجلة تايم الأمريكية: إن إقامة هذه الصواريخ سيوفر لمصر قدرات هجومية، كما قال الجنرال الصهيوني إيجال ألون: إن السيطرة الجوية فوق منطقة القناة ضرورة وإن خطتنا هي الاستمرار في القصف الجوي لمنع إقامة شبكة الصواريخ.
إلا أن صباح الثلاثين من يونيو جاء بما لا تشتهيه نفوس الصهاينة، حيث أسقط الدفاع الجوي المصري 2 طائرة فانتوم و2 طائرة سكاي هوك وتم أسر ثلاثة طيارين صهاينه وكانت هذه أول مرة يتم فيها إسقاط طائرة فانتوم. وعلى مدار الأسبوع التالي استمر تساقط الطائرات إلى درجة دفعت قائد سلاح الجو الصهيوني الجنرال موردخاي هود لأن يخبر رئيسة الوزراء غولدا مائير إن سلاح الجو لا يملك حلا فوريا لمشكلة الصواريخ.
بدا لكلا الجانبين الصهيوني والأمريكي أنهما لم يحققا أهدافهما على مدار سنوات ثلاث فلا النظام الوطني المصري انهار، ولا قبل بالتسوية، بل إن المعركة زادت من الوجود السوفيتي في المنطقة على عكس ما كانت تأمل واشنطن.
وفي ١٩ يونيو 1970 تقدم وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز بمبادرة تحمل اسمه لوقف اطلاق النار لمدة تسعين يوماً وخلال هذه الفترة تسعى الولايات المتحدة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ القاضي بسحب إسرائيل قواتها من الأراضي التي احتلتها في 1967 وهي المبادرة التي قبلها كلا الجانبين المصري والصهيوني.
وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز
رأت مصر في المبادرة فرصة لاستكمال وإتمام تحصينات وإنشاءات حائط الصواريخ ستعداداً لمعركة التحرير القادمة، أما الصهاينة وعلى حد تعبير العميد ماتي بيليد عضو هيئة أركان الجيش الصهيوني فرأوا في وقف إطلاق النار «قشة أُلقيت إليهم». توقف نزيف خسائرهم الفادحة.
وبالفعل جاءت اللحظه المنتظره في السادس من اكتوبر عام ١٩٧٣ ووفر حائط الصواريخ للقوات المصرية العابرة إلى سيناء المظلة الجوية التي احتاجتها بمسافة من عشرة الى ١٢ كيلومتر وتمكنت من ردع قوات الجو الصهيونية، ومع تساقط طائرات العدو لم تجد قيادته العسكرية سوى توجيه تعليمات إلى الطيارين الصهاينة ألا يقتربوا من القناة لمسافة أقل من ١٥ كيلومتراً.
إن الثلاثين من يونيو الذي اختارته مصر عيداً لقوات دفاعها الجوي الباسله يصلح بحق لأن يكون عنواناً لمسيرة شعب رفض الهزيمة وأبى الاستسلام واستطاع بصموده وتلاحمه مع قيادته السياسية ومع جيشه أن يحيل النكسة الى انتصار.