مختارات

حياة الفقراء مهمة

بائعة الخضر، تعرض بضاعتها بالقرب من المدارس والهيئات الحكومية أو مخارج محطات المترو حيث توجد أغلبية النساء العاملات. عند موعد الخروج تتحلق حولها الزبونات لشراء خضر مقشرة ومقطعة معدة للطبخ، تعود بائعة الخضر بما يكفى بالكاد قوت أهل المنزل. لكنها لا تحظى بأى تأمين ضد المرض لها ولأبنائها. ولا معاش إذا ما تجاوزت الستين. فى زمن الكورونا تعانى تلك السيدة أضعاف معاناة زبوناتها. أغلقت المدارس والكثير من الهيئات الحكومية، مع استمرار صرف مرتبات العاملين، ما صرف عنها معظم الزبونات. كما تضطر الأسر إلى تقطيع الخضر بأنفسهن لدواعى التعقيم، وتفضل الشراء عبر الهاتف من المحلات الكبرى تفاديا لالتقاط العدوى. بل والاستغناء عن مساعدة المدبرات المنزليات وربما قطع أو خفض أجورهن. قبل كورونا، كان الأجر الذى تحصل عليه تلك السيدات لا يكفى لأن تترك تماما حياة الفقراء. وبعد كورونا اكتشفن أنهن لا تملكن أيضا أى مظلة حماية اجتماعية تقى دخولهن من الانهيار إذا ما توقفن عن العمل، أو إذا ما التقطن العدوى خلال ركوب المواصلات المزدحمة.

هذه الحلقة الاقتصادية من اعتماد ذوى الدخول الأقل على ذوى الدخول الأعلى دون تدخل الحكومات تعرض الأغلبية إلى البقاء فى دوائر الفقر المفرغة. ولكن ما العمل إذا حتى هذه الحلقة الضعيفة انكسرت؟ يزداد الفقر بسرعة متزايدة وينكشف غياب الدور الحكومى فى إحلال العدالة الاجتماعية.

يزداد الفقر فى مصر فى سنوات السراء كما فى الضراء، خلال العشرين عاما الماضية. وبسبب كورونا، يمكن رصد ثلاثة قنوات تصب الملايين الجدد فى نهر الفقر. البطالة (جزئية أو كلية)، تراجع مستوى الدخول وارتفاع الأسعار.

تشير الدراسات الصادرة عن أروقة حكومية أن معظم العاملين فى مصر ينتمون لتلك الحلقات التى لا تتمتع بحماية اجتماعية.

ما لا يقل عن ١٥ مليونا يعملون بلا حماية اجتماعية، سواء لدى أنفسهم أو لدى الغير. تعرض هؤلاء إلى آثار كورونا الاقتصادية أكثر من غيرهم لفقدان عملهم وانخفاض دخلهم؛ حيث قدرت وزارة التخطيط زيادة عدد العاطلين بـ١,٢ مليون حتى نهاية ٢٠٢٠. والأغلب أن تكون الصورة أكثر قتامة. إلا أن البطالة ليست هى الأثر الوحيد للأزمة.

حيث تأثرت أعمال نصف الإناث وثلثى الذكور العاملين فى مصر بسبب كورونا. ربعهم فقد عمله تماما، بينما يعانى الباقون من انخفاض ساعات أو أيام العمل. الظاهرة عالمية؛ حيث فقد العالم ١٤٪ من عدد ساعات العمل منذ مارس الماضى، أو ما يوازى ٤٠٠ مليون وظيفة بدوام تام. وفى مصر كما حول العالم تأثرت الشرائح الشابة أكثر من غيرها.

وفى حين تدخلت دول عديدة بإعانات بطالة، ومساعدات وتجميد إيجارات وفواتير كهرباء، يعانى فى مصر ثلاثة من كل أربعة عاملين من انخفاض الدخل خلال الفترة من مارس إلى يونيو، بحسب دراسة قيمة للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن آثار كورونا. وتتوقع نصف الأسر أن ينخفض دخلها مجددا خلال الأشهر الثلاثة القادمة. ويتوقع البنك الدولى تراجع تحويلات العاملين فى الخارج إلى أسرهم فى منطقتنا العربية بنسبة ٢٠٪.

إجمالا، تتوقع دراسة صادرة عن معهد التخطيط زيادة فى أعداد الفقراء تتراوح بين ٥,٥ مليون نسمة و١٢ مليونا، بحسب السيناريوهات المختلفة لشدة تبعات الجائحة.

ارتفاعات الأسعار خاصة بالنسبة للغذاء قد تؤدى أيضا إلى تدهور معيشة جديد. يجىء صندوق النقد ليضيف إلى الجائحة نكبة؛ حيث دائما ما يضغط من أجل إضعاف العملة المحلية مقابل الدولار. ويعنى ذلك فى الحالة المصرية زيادة أسعار المواد الغذائية (معظمها مستورد)، لقد بدأت أغلبية الأسر المصرية بالفعل مواجهة نقص الدخول بتقليل كميات الغذاء واستبدالها بنوعيات أرخص، بحسب الإحصاءات الرسمية. فأين الإجراءات الحكومية لحماية الناس؟

أسمع كلامك..

أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أغضب.. فى تلك الأوقات العصيبة، أعلنت الحكومة عن حزمة مالية تقدر بـ ١٠٠ مليار جنيه، معظمها عبارة عن إعفاءات لصالح الشركات الكبرى والمقترضين من البنوك.. بينما تختار الحكومة أن تخفض الدعم التموينى بـ ٤ مليارات جنيه. وفقا لوزارة المالية، هذا المبلغ يغطى نفس كميات العام الماضى (وكميات أقل إذا ما انخفض الجنيه)، أى توقيت هذا للتوفير؟ ولماذا لا يكون هذا التوفير من الدعم الموجه للهيئات الحكومية؟ نعم يذهب نصف الدعم والمنح تقريبا إلى جهات حكومية ــ على حساب الأسر الفقيرة ــ وبعض تلك الجهات تحصل على مليارات وبعضها سرى غير شفاف، بحسب ورقة «رغم الوباء، خطط الحكومة للعام ٢٠١٩ – ٢٠٢٠ خالية من الكورونا»، الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. فماذا عن الأسر المصرية؟

خلال الفترة الماضية لجأ نصف المصريين إلى الاقتراض، و١٧٪ منهم إلى «أهل الخير». ورغم ذلك اضطرت نصف الأسر المصرية إلى تقليل كميات الطعام أو عدد الوجبات. فى نفس الوقت الذى تملك فيه الحكومة بيانات ٨٠٪ من الأسر كما تملك خريطة تمركز الفقر، وتستطيع بسرعة وسهولة توزيع مواد غذائية إضافية على كل هؤلاء. خاصة وأن ٥٪ فقط من الأسر استفادت من منح العمالة غير المنتظمة، بحسب دراسة جهاز الإحصاء.

جدير بالذكر أيضا أن الحكومة استمرت فى تحدى الدستور، مستخدمة نفس التبريرات، وذلك تحت مرأى البرلمان. وظل الإنفاق على الصحة أقل من الحد الأدنى الدستورى ومن أقل نسب الإنفاق على مدى السنوات الثمانية الماضية. رغم الوباء. ورغم زيادة تقدر بـ٢٠ مليار جنيه فى الإنفاق على الصحة، لم تعلن الحكومة ما هى أوجه صرف ثلاثة أرباع هذا المبلغ، مما يصعب علينا نحن دافعو الضرائب محاسبتها على أولوياتها ولا على التزامها بوعودها. لم تكن ظروف الوباء إذن فرصة لإعادة ترتيب الأولويات وتوسيع دائرة النقاش العام بل الإصرار على الاستمرار فى درب سياسات الإفقار.

بدائل أكثر عدلا

هل رأيتم طوابير الشراء وصفوف المستهلكين فى السوبر ماركت والمولات؟ لا يمثل هؤلاء سوى ١٠٪ من المصريين. تخيلوا لو تلك القدرة الشرائية صارت لدى ٨٠ أو ٩٠٪ من المصريين، تخيلوا حجم الرواج والانتعاش والوظائف التى يمكن للاقتصاد المصرى أن يحققه حينها. هذا هو ما تحققه أجندة للنمو المصمم خصيصا لفائدة الأغلبية، نمو مستمد من تعليم عالى المستوى ومجانى، ومستمد من تقاسم عادل للأجور والأرباح بين العاملين وأصحاب العمل. ومن ضرائب على الأثرياء بدلا من الإعفاءات ومن ترك أبواب التهرب مفتوحة لهم. وبدلا من الضرائب على الاستهلاك التى تعاقب الفقراء. حياة الفقراء مهمة لأحبائهم، ولكن أيضا لفائدة الجميع. لن تجدى محاولات دفعهم خلف أسوار والتظاهر بأنهم غير موجودين، لأن الانهيار الاقتصادى يكون أعنف أثرا على الفقراء، وكلما زادوا كلما كان انهيار الاقتصاد أعنف على الجميع. كما تقول الناشطة البرازيلية آليساندرا أوروفينو «إزاء تهديد وجودى كالجائحة أو زلزال أو أزمة اقتصادية عنيفة، يصبح السؤال الأهم بسيطا للغاية: من ستكون خلال الأزمة التالية؟ من يطلب البيتزا أم عامل التوصيل؟». تفيد البيانات أن ملايين مننا قد يواجهون هذا السؤال. فى البرازيل، قاد هذا التساؤل مجموعة من جمعيات المجتمع المدنى والاقتصاديين وعلماء الاجتماع إلى جمع توقيعات من نصف مليون فرد، أغلبهم من الشباب، يدعون الحكومة لإقرار دخل أساسى للشرائح الأفقر لمدة ستة أشهر، استمرت الحملة ثلاثة أشهر، وتحالف هؤلاء، مدعومين من برامج تحظى بنسب مشاهدة عالية على اليوتيوب، مع أعضاء بالبرلمان لصياغة القانون.

فى النهاية، مع انتشار الڤيروس الرهيب هناك، نجحوا فى إجبار الحكومة على تبنى فكرة لم تكن لحكومة بولسونارو المدعومة من الأغنياء أن تتبناها أبدا.

فى البرازيل ــ كما يحدث فى مصر ــ بدأت الحكومة تصد الاقتراح بدعوى تكلفته المرتفعة، ولكن يوضح تحليل الموازنة العامة فى مصر أن الحكومة ستنفق أكثر من تريليون جنيه هذا العام على سداد القروض والفوائد. وهى مبالغ يمكن تجميد سداد بعضها خلال عام أو اثنين خاصة وأن البنوك المصرية الحكومية هى مالك لجزء كبير من هذه الديون. ولكن بدلا من اغتنام اللحظة لتعديل المسار، اختارت مصر أن تبقى على خططها بلا تغيير يذكر، وأن تنهى الحظر فى لحظة منحنى صاعد لتفشى الوباء، متهمة إجراءات الحظر بأنها السبب فى إفقار البشر. ونزل الناس محشورين فى مواصلات غير آدمية ليواجهوا الموت بالڤيروس بدلا من الموت جوعا. أليست حياة الفقراء مهمة؟

إذا كان من أمر أكيد، فهو أن مئات الآلاف من المصريين هتفوا فى يوم ما مطالبين بالحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية. أمر آخر أكيد: أن الحكومات المتعاقبة منذئذ لم تنجح فى تحقيق هذا المطلب، بحسب بيانات الدخل والفقر. أمر ثالث أكيد: أن هذا الوضع استمراره ليس فقط مؤلم وقاس، ولكنه أيضا بالغ الخطورة. والأمر الرابع الأكيد، هو أن الكوفيد ــ 19 جاء ليجعل الأمر أكثر سوءا والحلول أكثر كلفة وصعوبة.

نقلا عن: الشروق

سلمى حسين

صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock