يؤرخ كثير من المفكرين لعصر النهضة العربية الحديثة بتولي محمد علي حكم مصر، إذ يعدون هذا التاريخ بداية انبعاث التنوير والتقدم بعد حقب طويلة من الجمود والتخلف الذي ضرب الحياة الفكرية في بلادنا فأصاب انتاجها العلمي والثقافي بالشلل إثر تجاهل أمراء المماليك والعثمانيين لوضع أسس المدنية والحضارة في الدول التي وقعت تحت حكمهم.
مع عودة البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا في شتى المجالات، لمع عدد من نوابغ الآداب والفنون والعلوم، أثرى هؤلاء الفكر والحضارة العربية الحديثة، وأسهموا في نقل ما تعلموه وخبروه في رحلاتهم بالخارج إلى أوطانهم مما ساعد في إقامة قاعدة انطلاق إلى الدولة الحديثة.
حاز عدد من أعلام النهضة الشهرة والمجد، بعد أن سلطت عليهم الأضواء، فصاروا نجوما تتناقل الأجيال قصصهم وأفكارهم وإنجازاتهم، غير أن بعضهم آثر العمل بعيدا عن الضوء، وبعضهم لمع لمعانا خاطفا خلال حياته فلما قضى غاب في أعماق الأحداث.
ينتمي أحمد زكي باشا الملقب بـ«شيخ العروبة» إلى تلك الفئة الأخيرة، التي هضم المؤرخون حقها، ولم ينصفه سوى عدد قليل جدا من الكُتاب الذي تتبعوا آثار أعلام النهضة العربية.
يعد زكي باشا من رواد إحياء الآداب العربية، ومن أهم الباحثين عن ذخائر مخطوطات العرب وجمعها وتصويرها وتحقيقها، حقق عشرات القضايا والمواقف والمواقع والأعلام وأسماء البلدان وكلمات اللغة.
https://youtu.be/l0iWD3TcNI4
البحث عن التاريخ
وبحسب ما أورد الكاتب والباحث أنور الجندي في كتابه «أحمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة»، فأن زكي باشا صاحب «المكتب الزكية» هو أول من أدخل علامات الترقيم في كتابتنا الحديثة، وهو الذي اختصر حروف الطباعة العربية، وهو صاحب النسخة الأولى أو الثانية على الأقل من عشرات الكتب العربية المفقودة، طاف بلاد العالم شرقا وغربا حتى يصل إلى نسخة نادرة من مخطوط أو مجلد عربي.
الكاتب والباحث أنور الجندي، وكتابه «أحمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة»
نشر زكي باشا مئات المقالات في الأدب واللغة والتراث في صحف «المقطم» و«الأهرام» و«المؤيد» و«البلاغ»، وكان أسلوبه في الكتابة يجمع بين العلم والطرافة والفكاهة والسخرية، فاجأ قرائه خلال رحلة بحثه بعشرات الأراء المثيرة التي حققها، ليترك لنا أكثر من ألف مقالة مبعثرة في بطون الصحف والمجلات.
ويضيف الجندي أنه «ليس ثمة عيب يمكن أن يؤخذ على زكي باشا إلا إيثاره نشر آرائه وأبحاثه في الصحف اليومية دون جمعها، ولعله كان حريصا على ذلك ليحقق لها الدوي الكبير والصدى الواسع والوصول السريع إلى كل الأيدي في العالم العربي».
أن تحقيقات زكي باشا من العمق والأهمية بحيث تلفت نظر الباحثين المتخصصين، ولاسيما معجمه اللغوي العربي الكبير الذي كرس له سنوات حياته لكنه توفى دون أن يتمه، وله مؤلفات أخرى أتمها ومثلت رصيدا هاما لباحثي اللغة منها كتابه عن «مدائن الأندلس»، و«مجالس المعددات والندابات».
أعضاء هيئة التدريس الأولى في الجامعة يسنة 1908 يتوسطهم أحمد زكي باشا
وبالرغم من خدمته الطويلة في العمل الحكومي (1889-1921) حيث عمل كمترجم في مجلس النظار «مجلس الوزراء» وسكرتير ثاني، ثم سكرتير عام سنة 1911، إلا أن وظيفته لم تطغى على اهتمامه بالفكر والثقافة والبحث.
عمل بعد أن نال شهادة الحقوق في عام 1887 محررا في جريدة «الوقائع المصرية»، وأثرت تلك البيئة التي عرفت من قبل رفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق ومحمد عبده وسعد زغلول وعبد الكريم سليمان على حياته وتطلعاته، ثم انتقل للعمل كمترجم بمجلس النظار، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل تخطاه إلى العمل في مجال إحياء التراث العربي وبعثه والتنقيب عنه.
رفاعة الطهطاوي، وفارس الشدياق، وسعد زغلول، ومحمد عبده
اتصل بالمجمع العلمي المصري، وعرف عالم المصريات الشهير مسيو جاستون ماسبيرو وزملائه من رجال الآثار، وفي جو هذا المجمع اتصل زكي باشا بعدد من المستشرقين وطالع أبحاثهم وشهد اهتمامهم بالبحث عن التراث العربي وطبعه في مطابعهم.
كان زكي باشا المغربي الأصل الفلسطيني المنبت المصري الهوية والجنسية والإقامة، مستعدا استعدادا نفسيا كاملا للدفاع عن مقومات الفكر والأدب العربي، وكان هذا المجال جديدا في تلك المرحلة ولم تظهر آثاره إلا بعد وقت طويل، ربما سنة 1911 في مشروع إحياء الآداب العربية وربما بعد عام 1921 في رحلاته إلى سوريا وإلى اليمن وإلى القدس من أجل الدفاع عن القضية العربية.
حياته
في عام 1906 عمل زكي باشا «سر تشريفاتي» الخديوي عباس حلمي الثاني، وفي 1907 عين سكرتيرا لمجلس النظار وظل حتى عين سنة 1911 سكرتيرا عاما لمجلس الوزراء حتى أحيل على المعاش عام 1921.
اختير وهو لم يكمل الخامسة والعشرين بعد ليمثل مصر في مؤتمر المستشرقين الذي عقد في لندن عام 1892 بعد الاحتلال البريطاني بعشر سنوات، وكان ذلك دليل على نبوغه المبكر.
كتاب السفر إلى المؤتمر
تقدم بمشروع لإحياء الأدب العربي إلى مجلس الوزراء، فأقره في جلسته التي ترأسها الخديوي عباس حلمي في 24 من أكتوبر 1910، واعتمد مجلس الوزراء لهذا المشروع مبلغ 9392 جنيها مصريا تحت إشراف المجلس الأعلى لدار الكتب المصرية، وأخرج هذا المشروع عددا من الكتب القديمة بتحقيق أحمد زكي، مثل «نكت الهميان في نكت العميان» للصفدي، و«الأصنام» للكلبي، و«الأدب الصغير» لابن المقفع، و«التاج في أخلاق الملوك» المنسوب للجاحظ، والجزء الأول من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» للعمري.
كتاب «الأصنام» للكلبي، وكتاب «الأدب الصغير» لابن المقفع، تحقيق «أحمد باشا زكي»
لم يكتف الرجل بنشر التراث وتحقيقه، بل وضع رسائل صغيرة في جوانب مهمة، تكشف غامضا وتزيل مبهما، وقد تجاوزت هذه الرسائل 30 رسالة، عالجت موضوعات متفرقة مثل: «اختراع البارود والمدافع وما قاله العرب في ذلك»، و«الطيران في الإسلام»، و«سراديب الخلفاء الفاطميين».
بينت بحوثه أن العرب هم أول من كشفوا منابع النيل، وأول من أثبتوا كروية الأرض قبل الأوربيين بثلاثة قرون، ومن أهم الأعمال التي أسداها للثقافة العربية مشروعان جليلان، هما اختصاره حروف الطباعة العربية من 905 أشكال إلى 132 شكلا و46 علامة، بعد تجارب واختبارات يومية في مطبعة بولاق استمرت لثلاثة أشهر، سبقتها زيارات إلى مطابع ومسابك أوروبا للبحث عن وسيلة يمكن بواسطتها اختصار صندوق الطباعة، وتسهيل مهمة جمع الحروف، وهو ما أدى إلى تحسين في أعمال الطباعة وتوفير النفقات والتكاليف.
علامات الترقيم
أما العمل الثاني فهو وضع علامات الترقيم العربية، باقتراح من وزير المعارف أحمد حشمت، وقد تطلب منه هذا العمل مراجعة أمهات الكتب العربية، والوقوف على ما وضعه علماء الغرب في هذا الشأن، واصطلح على تسمية هذا العمل بـ«الترقيم»، لأن هذه المادة تدل على العلامات والإشارات والنقوش التي توضع في الكتابة. وقد فصل ذلك في رسالة ألفها في هذا الغرض بعنوان «الترقيم وعلاماته باللغة العربية»، سنة 1911.
«الترقيم وعلاماته في اللغة العربية»
ويقول زكي باشا في كتابه أن أول من اهتدى لعلامات الترقيم كان رجل من علماء النحو من روم القسطنطينية، اسمه أرسطوفان، من أهل القرن الثاني قبل الميلاد. وكان شأنه في هذا السبيل شأن كل من يتنبه لأمر من الأمور في مبدئه، ثم توفرت أمم الإفرنج من بعده على تحسين هذا الاصطلاح وإتقانه إلى الغاية التي وصلوا إليها في عهدنا الحاضر، مما يكاد يكون نهاية الكمال في هذا الباب.
ورأى زكي باشا أن «القارئ العربي لا يزال في تلك الحقبة مضطرًّا إلى التعثر والتسكع على الدوام، وإلى مراجعة نفسه بنفسه، إن كان قد أوتي شيئًا من العرفان، وعلى كل حالٍ، نرى أنه مهما بلغت درجته من العلم، لا يتسنى له في أكثر الأحيان أن يتعرف مواقع فصل الجمل وتقسيم العبارات، أو الوقوف على المواضع التي يجب السكوت عندها، فهو يَصل في الغالب رأسَ الجملة اللاحقة بِذيل الجملة السابقة».
وكانت نتيجة ذلك إخلال القارئين — ولو كانوا في طليعة المتعلمين — بتلاوة عبارة، قد تكون سهلة في ذاتها؛ بل كثيرا ما تراهم عاجزين عن إعطاء الكلام حقه من النبرات التي يقتضيها كل مقام؛ بل إننا لو اختبرنا طفلًا عربيًّا لوجدناه يحسن القراءة بلغة أجنبية، أكثر مما يتوصل إليه مع الكد والجد، فيما يحاوله من قراءة العبارات المكتوبة بلغة أمه وأبيه.
دفع ذلك زكي باشا إلى التفكير في إدخال نظام جديد في الكتابة العربية، «تسهيلًا لتناول العلوم، وضنًّا بالوقت الثمين أن يضيع هدرًا بين تردد النظر وبين اشتغال الذهن في تفهم عباراتٍ كان من أيسر الأمور إدراك معانيها، لو كانت تقاسميها وأجزاؤها مفصولة أو موصولة بعلاماتٍ تبين أغراضها وتوضح مراميها».
عهد أحمد حشمت باشا وزير المعارف العمومية إلى زكي باشا مهمة إحياء الآداب العربية، وتدارك النقص الحاصل في تلاوة الكتابة العربية؛ وطلب استنباط طريقة لوضع العلامات التي تساعد على فهم الكلام، بفصل أجزائه بعضها عن بعض، ليتمكن القارئ من تنويع صوته؛ تبعًا لأغراض الكاتب، وتوضيحًا للمعاني التي قصدها، ومراعاةً للوجدان الذي أملَى عليه.
أحمد حشمت باشا وزير المعارف العمومية
راجع زكي باشا محاولات السابقين في الوقف والابتداء، كما رجع إلى ما توصل إليه الغرب في هذا المجال، حتى توصل إلى ضرورة استعمال العلامات الإفرنجية، وإضافة رموز أخرى عليها، مما تدعو إليه طبيعة التركيب في الكلام العربي، «رأيت وجوب الاعتماد على هذه العلامات، بعد تعديل وضعها، بحيث يمكن كتابتها بالقلم العربي، مراعاةً لحركة اليد في الكتابة، من اليمين إلى اليسار».
ويقول زكي باشا في كتابه: اصطلحت على تسمية هذا العمل ﺑ «الترقيم»، لأن هذه المادة تدل على العلامات والإشارات والنقوش التي توضع في الكتابة وفي تطريز المنسوجات. ومنها أخذ علماء الحساب لفظة «رقم وأرقام» للدلالة على الرموز المخصوصة للأعداد. فنقلناها نحن لهذا الاصطلاح الجديد، لما بينهما من الملابسة والمشابهة.
ولعل زيارته للاندلس «الفردوس الإسلامي المفقود» هي التي فتحت أمامه آفاق الحماسة للتراث العربي، وأوقدت في نفسه تلك الشعلة الروحية من أجل الدفاع عن أمجاد العرب فظل يوالي عمله في ميادين ثلاثة:
- إحياء التراث العربي بالبحث عن المؤلفات والمخطوطات ونقلها بالفوتوغرافيا.
- الآثار العربية والبحث عن القبور والمواقع والدعوة لتكريم أصحابها.
- تصحيح أسماء الأعلام والبلاد والوقائع والأحداث في مجال اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا.
مرت رحلة زكي باشا البحثية بمراحل ثلاث:
- المرحلة الاولى وهي مرحلة جمع التراث العربي من مكتبات الآستانة وأوروبا والمشرق والمغرب ونقله ومراجعته والتعليق عليه وطبعه ونشره.
- المرحلة الثانية هي مراجعة هذا التراث ودراسته واستيعابه وتكوين خزانته الزكية والتعليق على ما بها من مؤلفات وإعداد أضابير وجذاذات في مختلف فنون الأدب والتاريخ والجغرافيا والاتصال بالباحثين ومراجعتهم.
- أما المرحلة الثالثة والتي تبدأ بعد إحالته إلى المعاش عام 1921 حتى وفاته في 1934 وهي أخصب فترات حياته حيث نشر عشرات المقالات والأبحاث وتوسع في صلاته بزعماء العالم العربي وتوسط في الخلاف بين اليمن والسعودية وانتدب لتحقيق الخلاف بين العرب واليهود في شأن حائط المبكى وقضية البراق.
الخزانة الزكية
تعد الخزانة الزكية هي العمل الأكبر الذي قام به باشا، بعد وضعه لعلامات الترقيم العربية، ساعده على تكوينها وظيفته المرموقة في الحكومة، ورحلاته المتعددة، وبذله المال بسخاء في سبيل الحصول على ما يريد من كتب ومخطوطات.
بدأ زكي باشا في جمع مكتبته وهو طالب صغير يتردد على بائعي الكتب المعروفين في مصر، وما اشتراه من مكتبات الأعلام الراحلين، بالإضافة إلى ما اقتناه أثناء رحلاته إلى أوروبا والآستانة، التي استطاع في إحدى رحلاته إليها أن يزور مكتبة «سراي طوب قبو»، وكانت مغلقة في وجه أي زائر لقرون عديدة، وأن يبقى بها أربعة أشهر كاملة، نسخ منها عددا من الذخائر العربية.
احتوت مكتبته على مؤلفات فريدة لا نظير لها في مكتبة دار الكتب أو غيرها، فضلا على أكثر من مائة صحيفة ومجلة من الدوريات العربية لا يوجد منها شيء في الدار العريقة، وتضمنت المكتبة أيضا مجموعة الفرمانات الصادرة باللغة العربية بخصوص الحكومة المصرية، ومجموعة الكتب التي صدرت من مطبعة بولاق ومطبعة مدرسة الطب، وعشرات الكتب التي طبعت في الشام والجزائر والمغرب ومالطة.
ومن أهم المجموعات التي اقتناها الكتب العربية المطبوعة في أوربا في مجالات الفلسفة والطب والعلوم والفلك والأدب، «القانون» وجزء من كتاب «الشفاء»، لابن سينا، وقد طبعا في روما سنة 1593م.
تنقلت المكتبة الزكية التي ضمت نحو 18 ألف مجلد و1500 مخطوط من مكان لآخر، حيث استقرت في منزله خلف سراي عابدين بادئ الأمر، حتى وافق مجلس النظار في 1910 على طلب وزير المعارف أحمد حشمت باشا بتخصيص مكان خاص للمكتبة في دار الكتب، وظلت الخزانة الزكية مفتوحة الأبواب كل يوم من الساعة الرابعة بعد الظهر حتى منتصف الليل، وبذلك أتاح مكتبته للراغبين في البحث والاطلاع للتردد عليها والاستفادة من كنوزها.
ثم وقع خلاف بين زكي باشا والحكومة في عام 1921، انتهى بتقاعده من العمل الحكومي، ثم صدر قرار متعسف بنقل المكتبة من دار الكتب، فقرر إهدائها كوقف إلى وزارة الأوقاف، واشترط في وقفيته أن تكون له النظارة عليها مدى حياته، ثم تؤول بعد ذلك إلى وزير الأوقاف بصفته الرسمية، وأن يكون مقرها مدرسة السلطان الغوري، وأن تسمى «الخزانة الزكية» وتبقى مستقلة بشخصيتها، فلا تضاف إلى دار كتب أخرى، وأن تكون المطالعة في قبة الغوري.
صورة للمحقق الأديب محمد عبد الجواد الأصمعي داخل الخزانة الزكية وهي مكتبة العلامة أحمد زكي باشا
ظلت «الخزانة الزكية» قائمة في مكانها حتى وفاته في 5 يوليو من عام 1934، وبعد الوفاة بشهور صدر قرار من وزير الأوقاف بنقلها مرة أخرى إلى دار الكتب المصرية لتكون واحدة من أعظم الدعائم التي قامت عليها شهرتها بين دور الكتب في العالم.