نقلا عن: صفحة الكاتب على فيسبوك
تم نشر المقال بالأهرام السبت 11/7/2020
ثمة ظواهر متتالية ومناظرة تدفعنا إلى أن نتأمل تغيرات تحدث في مجتمعنا، تمر عابرة دون أن نلتفت إليها كثيراً، ولكنها تشكل في الواقع مجتمعاً جديداً هو مجتمع المستقبل. ولقد انشغلت خلال العامين الماضيين بملاحظة ظواهر متفرقة محاولاً أن أجد بينها رابطا يفسرها جميعًا ويضعها في سياق أشمل وأعم. سوف أسوق هذه المشاهدات أولاً لكي يكون الحديث نابعا من الواقع. المشاهدة الأولى تتعلق بالمبالغة الشديدة في أشكال المعمار المخصص للسكن أو للمصايف، وكذلك الأسعار التي يباع بها المعمار الجديد، وينضاف إلى ذلك المبالغة في رسوم المدارس الخاصة. المشاهدة الثانية تتصل بظاهرة الاستهلاك الترفي المرتبط بانتشار المطاعم المقاهي التي لا تناسب الشخص العادي، كما لا تناسب أبناء الطبقة الوسطي جميعهم، بل هي مخصصة لفئة من هؤلاء تنفق بغير حساب وتمتلك الكثير من الشغف بالطعام والشراب وصنوفه المتنوعة.
تتمثل المشاهدة الثالثة في بعض أنماط السلوك المنحرف التي تصدر عن بعض الشباب في المناطق السكنية الراقية، والتي تبدو غريبة وشاذة، والتي يكتنف إدارتها من قبل صانعيها وذويهم قدر من الاستقواء والتحدي (قد تكون حادثة التحرش الأخيرة نموذجاً، ولكنها ليست الوحيدة). والمشاهدة الرابعة تأتي من متابعة بعض المسلسلات الرمضانية، التي قرأت فيها إصرار على تصوير المشاهد في فيلات فخمة أو مزارع أو قصور، ومبالغة شديدة في تقديم «طلات» جسدية وأساليب خطابية مختلفة، وأنماط من العمل الذي تتداخل فيه العلاقات الشخصية بالعلاقات الرسمية، وأنماط من الفكاهة ليس فيها روح بحيث تبدو المشاهد وكأنها مصنوعة صناعة. وأسواق أخيراً مشاهدة خاصة ترتبط بلغة الإعلانات وموضوعاتها، والتي تشي إما بغرابة غير مفهومة بحيث يتعثر على المشاهد العادي فهم محتوى الإعلان، أو النزول بالكلام والمشاهد إلى الدرك الأسفل من الذوق أو الشعور بالحساسية الأخلاقية، وهو يظن في الحالتين أنه يخاطب كل فئة بلغتها،
وتبدو هذه المشاهدات وكأنها مشاهدات متفرقة لا رابط بينها، ولكننا عندما ننظر إليها بعمق نجد أنها ترتبط بفئة معينة تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، ويبدو الأمر وكأن نوعاً من التغير الكبير يحدث عند قمة هذه الطبقة يحتاج إلى أن نلتفت إليه وأن نرصده؛ وأن نكتشف بعض معانيه ودلالاته وآثاره المحتملة على تشكيل التكوين الاجتماعي للمجتمع أو على الأقل للطبقة الوسطى في المستقبل. وتحقيقاً لهذا الهدف سوف أنفق ما تبقى من هذا المقال في طرح بعض الدلالات والمعاني التي قد تؤشر عليها هذه المشاهدات، وبعض اثارها علي تكوين الطبقة الوسطي.
الطبقة الوسطى، د. أحمد حسين حسن
من أول هذه المعاني وأهمها ما يرتبط بهذه المشاهدات من رغبة عارمة في الصعود إلى أعلى في نوع من الحراك المكاني والمادي. ويبدو هذا الصعود وكأنه ضرب من الجري أو الهرولة التي يتنافس فيها المتنافسون، والتي ترسي دعائم قيم جديدة للاستهلاك والتمدرس وتذوق الفنون، وهي قيم مادية في الأساس. لا يؤشر الصعود والتنافس الذي يصاحبه على بناء قيم مهنية أو ممارسات إبداعية مختلفة، وإنما تتوارى كل القيم الرمزية والمعنوية أمام طغيان المادة وعنفوان النقود. ويدل هذا النوع من الهرولة المادية إلى أعلى على رغبة عميقة في بناء وسط معيشي مخالف ومتميز يحمل في طياته رسالة واضحة مفادها:الصحاب هنا مختلفون في اهتماماتهم وقدراتهم الشرائية ونوعية حياتهم، وذائقتهم الفنية، ولهم أيضاً همومهم ومشكلاتهم وأساليب عملهم. ولاشك أن هذا السعي إلى التمايز الطبقي يضمر في داخله قيماً معينة تتصل بترسيخ آليات للتباعد الاجتماعي لا عن الطبقات الأخرى، ولكن عن نفس الطبقة التي نشأوا فيها والتي أوصلتهم إلى أعتاب ما هم فيه.
من الواضح أن هذا التباعد ليس تباعداً مادياً فقط ولكنه تباعد ثقافي ورمزي أيضاً، ينعكس في الطريقة التي تطل بها الذات التي تنصهر داخل هذه الفئة المتربعة على قمة الطبقة الوسطى من حيث بناء أجسادها ورموز أزيائها ولغة خطابها ونمط العلاقات التي تدخل فيها وحتى أشكال الفكاهة التي تضحكها (مشاهد فكاهية مصنوعة للبيع مثلها مثل السلع التي تباع في المحلات أو العقارات التي تشكل الشبق الأول في غرائز الاستهلاك). ومن شأن هذا السعي نحو الصعود، وهذا الدأب نحو التمايز والتباعد، ان يعمل على تشكيل وعي مختلف لسان حاله يقول إننا بحاجة إلى أن نتعامل بشكل مختلف، وأن ما نملكه من مظاهر مادية لابد وأن يمنحنا قوة إزاء المجتمع وإزاء الآخرين، أحاول هنا أن أجد تفسيراً للسلوكيات الغريبة التي قد تعكس نزعة نحو التحدي وعدم الاكتراث بالقانون والناس. وإذا كانت معظم هذه السلوكيات تأتي من شباب فنحن بحاجة إلى أن نتأمل نموذج التنشئة الاجتماعية الذي تعتمده هذه الفئة لأبنائها (أفكر في هذا السياق في عمليات غرس الشعور بالقوة والتفوق والاختلاف وتغليظ العصا).
وقد يسأل القارئ هنا ما المشكلة في كل ذلك، إنهم أناس يستمتعون بما يملكون من ثروات وبطريقتهم؟ لاشك أنه سؤال منطقي، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليهم حقوقهم ورؤيتهم للحياة، ولكن علم الاجتماع يعلمنا أن للأفعال نتائج غير مقصودة، وهي تظهر على مدى طويل وقد يكون لبعضها آثار سلبية ضارة، كما يعلمنا أن العمران البشري لا يستقيم إلا بقدر من التجانس الاجتماعي والثقافي على ما فيه من اختلاف وتعدد في أساليب الحياة. ولذلك فإنني سوف إنهي هذا المقال بالإشارة إلى بعض الآثار التي يمكن أن تترتب على ما يحدث هناك عند قمة الطبقة. إننا هنا بصدد خلق حياة مختلفة بعيدة مجافيه لروح العمران المصري وحضارته؛ كما أننا بصدد عملية تفكيك وتشظي للطبقة الوسطى، أو لخلق طبقة وسطى جديدة منزوعة من جلد المجتمع، تبحث عن عوالم غريبة وتصفد الحياة بغلظة المادة وادائيتها؛ ناهيك عما يحمله هذا الاتجاه المهرول نحو الفوق من ضغوط ومشقة لدى الفئات الأدنى من نفس الطبقة ولدى الطبقات العاملة والكادحة، أولئك الذين يتركون في حالة يأس فينسون كل مفاتيح الحياة ذات المعنى ويتعلقون بمفاتيح المادة، فيكون المظهر أسبق على الجوهر، والنجاح المادي أسبق على النجاح المهاري والمهني، وتكون القيمة النهائية للحياة: التملك أو الموت.
مشهد من مسلسل أبو العروسة