منوعات

السد العالي: الذي بناه (حراجي القط) بعرقه وغربته ودمه

«الجوهرة المصونه

والدره المكنونه

زوجتنا فاطنه أحمد عبد الغفار

يوصل ويسلم ليها

في منزلنا الكاين في جبلاية الفار»

بهذه الصيغه كان حراجي القط، الشخصية التي صاغها قلم الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي لعامل بسيط في مشروع السد العالي، يبدأ كافة خطاباته الموجهة الى زوجته فاطمة التي بقيت في قريتهم الصغيرة في صعيد مصر٫ تحرس الأرض وترعى الأولاد إلى أن يعود حراجي.

كان حراجي كما تخيله الأبنودي واحداً من آلاف العمال الذين تدفقوا من ريف مصر إلى أسوان كي يساهموا في إنجاز مشروع مصر القومي آنذاك الذي اكتمل بناؤه في الحادي والعشرين من شهر يوليو عام ١٩٧٠.

أوضح الأبنودي في مقدمة ديوانه الشعري هذا أنه أحد أكثر دواوينه شعبية وأنه يجد نفسه مطالباً بصفة مستمرة في أمسياته بأن يلقي بعضاً منه وأشار لاحقاً في إحدى أمسياته الشعرية التي استضافها معرض القاهرة الدولي للكتاب أنه قد كتب شخصيه حراجي كواحد من أبناء بنود مثله تماماً.

كان حراجي مثل أي حراجي في مصر على بساطته يدرك أن هذا المشروع الذي يلعب دوراً في إقامته ليس بالهين فقد واجهت مصر من أجل إنشائه دولاً كبرى وخاضت حرباً ضروساً وهذا الإدراك الفطري هو الذي عبر عنه الأبنودي في قصيدة أخرى على لسان فلاح بسيط آخر مثل حراجي بعنوان «من تاني» حيث يقول:

قالوا: «الكنال والسد» عاوزين عرْكة

أنا قلت ميتى القرش جِه بالبركة.

والله البلد ما حتصحى من غير حركة

وأنا إيه معايا أكتر من الجلابية..

والبندقيّة؟

وطِرْت ع النار.. طير.

ويضيف واصفاً تجاه مشروع السد:

«السد..

قلت أبنيه واستنى لُه

ومادمت راجل يبنى خير لعيالُه

الدِّنيا تبقى بخير».

يرصد الابنودي على صفحات ديوانه التطور التدريجي الذي تتعرض له شخصية حراجي، يجد القط نفسه وسط عمال بسطاء مثله جاؤوا من كافة أرجاء المحروسة، يختلط بالمهندسين الحالمين ويشاهد الخبراء السوفييت وهم يمدون يد العون لهم.

يفتح مشروع السد آفاقاً واسعة أمام حراجي تتجاوز بكثير حدود قريته الصغيرة التي كان يتصور أن الدنيا لا تتعداها، ويفصح هو عن ذلك في خطاباته إلى زوجته حيث يؤكد لها انه حتى وان عاد الى داره البسيطة فلن يكون نفس الشخص الذي خرج منها ذات يوم.

صمد حراجي وكل من هم مثله لسنوات وتحملوا صعوبة الطبيعه القاسيه في جبال أسوان وحرارة الطقس ومشقة العمل حتى تحقق الحلم الأول وهو تحويل مجرى مياه النيل عام ١٩٦٤.

ورغم فداحة و مرارة ما حدث في عام ١٩٦٧ إلا أن النكسه لم تفت في عضد حراجي ورفاقه فاستمر العمل في هذا المشروع الضخم حتى تم الانتهاء منه وأعلن الرئيس عبد الناصر في خطابه في ذكرى ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٧٠ أن العمل قد اكتمل رغم كافة الصعاب ورغم أن مصر وجهت كافة امكانياتها على مدار السنوات الثلاث السابقة الى جبهة القتال وإلى إعادة بناء جيشها، إلا أن السد كان ساحة معركة لا تقل في أهميتها ابداً عن جبهة القنال وأحرز البناء المصري فيها انتصاراً تماماً كذلك الذي أحرزه الجندي في سيناء.

خطاب الرئيس جمال عبد الناصر فى إفتتاح السد العالى

ففي كتابه «هل نهدم السد العالي» والذي صاغه رداً على حمله أرادت النيل من السد وصناعه، يفرد الكاتب الصحفي الراحل فيليب جلاب مساحة واسعة لتقرير لجنة هندسية أمريكية زارت السد العالي عقب افتتاحه عام ١٩٧١.

«هل نهدم السد العالي» للكاتب الصحفي فيليب جلاب

وصفت اللجنة في تقريرها المعنون «الناس وتأثير البيئة والسد العالي» السد بأنه «يعتبر ولا شك من عجائب الهندسة الحديثة» وأنه «يلبي احتياجات الشعب المصري» وأضافت «أنه لا يوجد مشروع هندسي آخر غير السد العالي أعطى كثيراً لعدد وفير من الناس كانوا في أشد الحاجة إلى التشجيع والمعاونه».

ثم توجه اللجنة خطابها إلى منتقدي السد قائله «من الأفضل للذين يقللون من شأن هذا المشروع الكبير أن ينظروا إليه من الناحية الصحيحه».

وحددت اللجنة أهم إنجازات السد في كونه «جعل من الممكن الحصول على محصولين في السنة بدلاً من محصول واحد» وأنه زاد مساحة الأرض المزروعة بمليون فدان وأنه بما يوفره من كهرباء أوجد إمكانيه لتعمير وكهربة الريف.

ويؤكد جلاب في موضع آخر من كتابه أن السد نجح في تجنيب مصر مخاطر الفيضانات في أعوام ١٩٦٤ و١٩٧٥ إضافة إلى تجنيب مصر القحط بعد الانخفاض الذي شهده العام ١٩٧٢.

وبعيداً عن لغة الأرقام التي لم يكن حراجي يتقنها، كان كل من هو «حراجي» يدرك تماماً قيمه وأهميه ما صنعته يداه ويعبر عن هذا بقوله:

«عرقي مبدور في الصخر يا ناس

مبدور في الدفا والشمس

اقعد اراعيه

قولي يا فاطمه

قاعد يراعيه

آغلى ما عندي

زارعه في جبال أسوان»

شرح السد العالى من بائع متجول

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock