الكُتيب الذي صدر عن الأستاذ «توفيق الحكيم» في عام ١٩٧٤ وحمل عنواناً لافتاً هو «عودة الوعي» كان بالنسبة لعدد كبير من أبناء جيلي صدمة قاسية ، فقد حمل نقداً مريراً وغير موضوعي بالمرة للتجربة الوطنية والقومية منذ قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ وحتى وفاة الرئيس «جمال عبد الناصر» وانتقاله الى رحاب الله في سبتمبر من عام ١٩٧٠.
هذا الكُتيب الذي هلل له اليمين المصري بكل قوة، نظراً لضحالة هذا القطاع من الناس على صعيد الفكر والثقافة، تّصدىّ له عدد وافر من الكٌتّاب والصحفيين والمفكرين الذين ينتمون الى معسكر اليسار الوطني المصري، وكانت مداخلاتهم وردودهم على الأستاذ «توفيق الحكيم» على قدر عالٍ من الموضوعية والاحترام والتقدير لشخص مُفكرنا الكبير، فهو عند قٍوىّ اليسار المصري والعربي، واحد من جيل العمالقة الكبار الذي رفع راية التنوير في حياة مصر والعرب طوال سنوات القرن العشرين….
فالأستاذ «الحكيم» والأستاذ العميد «طه حسين» والعملاق «عباس محمود العقاد» وباقي تلك السلسلة الذهبية، كان لهم فضل الريادة والقيادة بعد جيل المؤسسين من أمثال «رفاعة الطهطاوي» و «محمد عبده» و «علي مبارك» و «قاسم أمين» وغيرهم، فضلاً عن دورهم الكبير في تجديد فنون الأدب وأصول الفكر والثقافة لتكون مواكبة للعصر الحديث بكل تجلياته وتحدياته…
الحملة الموضوعية والمُحترمة لليسار المصري رداً على كتيب الأستاذ «توفيق الحكيم» تجسدت في أعمال كثيرة وانطلقت من منابر مُتعددة ، أكتفي هنا بذكر بعضها، أولها: ماكتبه عدد من كُتّاب اليسار على صفحات مجلة «روزا اليوسف» الأسبوعية ذات التوجه النقدي اليساري ، وثانيها، ماكتبه الأستاذ «محمد عودة» الكاتب الصحفي والمفكر القومي الكبير، رحمه الله، إذ أصدر كتاباً شاملاً في الرد على الأستاذ «الحكيم» إختار له عنواناً قاسياً، هو «الوعي المفقود» مٌنطلقاً من قول «الحكيم» عن نفسه، بأن «…سحر عبد الناصر وشخصيته الآثرة، الكاريزمية، لم تأخذ بعقله فقط، ولكن سلبت عقل الأمة بأكملها طوال سنوات حُكمه…..»!!!
الوعي المفقود للكاتب والمفكر «محمد عودة»
كلمات وجد فيها الأستاذ «عودة» مُدخلاً لكتابه، الذي أحسبهُ واحداً من أهم ما كّتبّ هذا المفكر القومي الكبير، بالإضافة طبعاً إلى كتابه الرائع عن ثورة يوليو ١٩٥٢، والذي حمل عنواناً مُعبراً هو «ميلاد ثورة»، فالكتابين يشكلان معاً موسوعة تاريخية موثقة لثورة يوليو وقائدها، نجح فيهما الأستاذ «محمد عودة» في الربط بين ثورة يوليو وبين الثورات التي سبقتها في تاريخ مصر الحديث ابتداءاً من الثورة العرابية وحركات النهضة الوطنية والفكرية التي سبقتها، مروراً بثورة ١٩١٩، ووصولاً الى سنوات المواجهة الوطنية الممتدة بين ثورتي «١٩ و ٥٢»، فضلا عن رصد الأستاذ «عودة» لمعارك الثورة وتحدياتها الكبرى طوال سنوات القيادة «الناصرية».
أما المواجهة الثالثة، فقد حمل لواءها الأستاذ «لطفي الخولي» ومجلة الطليعة اليسارية التي كان يرأس تحريرها، والصادرة عن مؤسسة الأهرام العريقة، حيث دعا الأستاذ «الحكيم» الى مناقشته عما جاء في كُتيبه «عودة الوعي» والحوار معه، بوصفه أحد أعلام الفكر والثقافة والتنوير في تاريخ مصر الحديث.
بدأت أعمال هذه السلسلة من حلقات الحوار في شهر ديسمبر من عام ١٩٧٤ وامتدت حتى شهر يونيو من العام التالي، عام ١٩٧٥، وبدأت مجلة الطليعة في نشرها على صفحاتها خلال هذه الفترة، حيث بلغت تسع جلسات من الحوار العميق والمُدعم بشهادات تاريخية موثقة من كلا الجانبين، الأستاذ «الحكيم» وفريق من أعلام اليسار المصري، والذي حرص الأستاذ «لطفي الخولي» أن يضم عدداً كبيراً من رموزه الذين يمثلون تياراته على أكثر من صعيد، فكان منهم الأستاذ الجامعي والفيلسوف والاقتصادي والمفكر السياسي.
ضم الفريق المحاور الأساتذة «خالد محيي الدين» عضو مجلس قيادة ثورة يوليو وصديق عبد الناصر، والدكتور «فؤاد مرسي» الاقتصادي الكبير والوزير السابق والمؤسس التاريخي للحزب الشيوعي المصري نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي، والمفكر القومي «أحمد عباس صالح» رئيس تحرير مجلة الكاتب المصرية ذات الاتجاه العروبي، والدكتور «عبد العظيم أنيس» عالم الرياضيات الشهير والكاتب اليساري الكبير، والدكتورة «لطيفة الزيات» أستاذة الأدب الانجليزي المرموقة، والأستاذ «محمد سيد أحمد» أحد أبرز خبراء السياسة الدولية في تاريخ العرب الحديث، والأستاذ «أبو سيف يوسف» المفكر اليساري المعروف ومدير تحرير مجلة الطليعة، فضلاً عن الدكتور «مراد وهبة» أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس المصرية، وواحد من أبرز علماء الفلسفة العرب على مستوى العالم…
أحمد عباس صالح، لطيفة الزيات، خالد محيي الدين، عبد العظيم أنيس، فؤاد مرسى
مجموعة كبيرة متنوعة ومؤثرة ، وكل منهم يمثل عّلّماً وصرحاً شامخاً في مجاله، غير أن اللافت للنظر أن تلك الحوارات رفيعة المستوى لّقيت في حينها تجاوباً كبيراً من القارئ المُثَقَّف والعادي، الأكاديمي المُتخصص أو صاحب الدرجة التعليمية والعلمية المتوسطة.
كانت تعليقات القراء غزيرة ومتنوعة وثرية، كانت نموذجاً للحوار الموضوعي على كل صعيد، فشهادة الأستاذ «توفيق الحكيم» ترجع أهميتها إلى أنه كان أباً روحياً لثورة ٢٣ يوليو، فضلاً عما كانت تربطه بالرئيس «عبد الناصر» من مشاعر الود والإحترام المُتبادل، فـ«الحكيم» هو القائل عن «ناصر»: «إنه قرأني وتأثر بي إلى حد أن وصفته بعض الكتب الأجنبية بأنه تلميذ أفكاري، وكان من مصلحتي الشخصية، أن استغل هذه الصفة و أضخمها بتضخيم منجزاته…
لكن الأستاذ «الحكيم» يُضيف مُستدركاً بالقول «إن الاشتراكية التي تحققت كانت محدودة، كانت أقل من طموحاته، وآمال الشعب فيه»!!
تلك كانت كلمات الأستاذ «الحكيم» رغم الملاحظات عليها، سواء من حيث المضمون أو حقيقة ما قالهُ على أرض الواقع
عبد الناصر يصافح توفيق الحكيم، أثناء تسلمه قلادة الجمهورية
وفي المقابل، فإن الأستاذ «خالد محيي الدين» والذي ترأس الفريق اليساري المحاور، اكتسبت شهادته قيمتها من واقع أنها رؤية من الداخل، رؤية لضابط أركان حرب في سلاح الفرسان، أي المدرعات، شارك عبد الناصر في حمل هموم الوطن والبحث عن طرق للخلاص والحرية، فكان عضواً مؤسساً لأول خلية شكلها «ناصر» لحركة الضباط الأحرار التي قامت بثورة يوليو، وعضو مجلس قيادتها، فضلاً عن صداقته المُمتدة والدائمة بقائد الثورة حتى السنوات الأخيرة من حياته، وحتى رحيله في عام ١٩٧٠، رغم أنه أحد الذين اختلفوا مع عبد الناصر في تاريخ مُبكر، وترك مكانه في مجلس قيادة الثورة عام ١٩٥٤ وخلال أزمة مارس، تلك الأزمة العاصفة التي دارت حول المستقبل السياسي للبلاد، والتي تمحور الخلاف حولها بين الإختيار، بين الاستمرار بالثورة واستكمال برنامجها كما عبرت عنه في أهدافها الستة، أو العودة الى ثكنات الجيش وتسليم زمام البلاد الى أحزاب فشلت في إنجاز الاستقلال الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية؟
خالد محي الدين
كان ذلك الحوار الموسوعي والشامل لتجربة الثورة، وخلال قيادة «عبد الناصر» لها، هو الحوار الأهم في تلك السنوات العاصفة من عقد السبعينيات، والتي انطلق خلالها الإعلام «الساداتي» في تشويه كل من ينتمي إلى عبدالناصر وثورة يوليو، فقد أخذ الكثير منهم من تلك الحالة الجنونية التي أصابت اليمين المصري من انتصار أكتوبر، منصة انطلاق للهجوم على الإشتراكية والعدالة الاجتماعية وحروب السيادة الوطنية في مواجهة الغطرسة الامريكية، والدعوة الى سياسة الانفتاح «إنفتاح السداح مداح» على رأي كاتبنا الكبير «أحمد بهاء الدين».
أحمد بهاء الدين
وجد هؤلاء من زعماء اليمين وأصحاب الملايين ومروجي الإسفاف في الفكر والثقافة، فرصة لهدم الوطن على رؤوس فقرائه، حتى أسماهم الأستاذ «لطفي الخولي» في أحد افتتاحيات مجلة الطليعة «العابرين مع العبور» موجهاً الإتهام لهم بالمنطق والدليل، أنهم من سرق نصر أكتوبر وتاجروا بدماء الشهداء.
لطفي الخولي رئيس تحرير الطليعة
كان الأستاذ «خالد محيي الدين» هو المُعادل الموضوعي للأستاذ «توفيق الحكيم»… فبقدر ماكان صاحب «عودة الروح» قائداً كبيراً في معسكر التنوير في حياة الوطن، كان «محيي الدين» زعيماً لليسار المصري والعربي، القائد المُختار والمُناضل المُثَقَّف، فضلاً عن كونه «الفارس النبيل» من ثوار ثورة يوليو، وصديق قائدها العظيم…)