الرحلة ليست مجرد انتقال من موضع إلى آخر، وإنما هي عند البعض تبدو كجزء أصيل من رياضة ومجاهدة النفس، وممارسات وآداب السلوك مع الله، ففي الرحلة تحرر من العلائق وخلاص من التعلق، فأنت إذا حللت في بيئة جديدة لا تاريخ لك لتذكرَه، ولا مال لتُكثرَه، ولا رغبة لتشبعها أو نار حقد لتطفئها، فأنت مولود جديد، أو كما وصفها إمام موريتانيا ومجاهدها ماء العينين «موادعة الأكوان، ومقاطعة الأقران، ومهاجرة الأوطان، رغبة في الوصلة بالرحمن»، وهي امتثال للأمر الإلهي بالسير في الأرض والنظر والتأمل في خلق الله «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ»، وامتثال للأمر النبوي (سافروا تصحوا).
للصوفي رحلتان
والصوفي إبن رحلتين إحداهما أفقية ذات بعد جغرافي ينتقل فيها من أرض إلى أرض ومن وطن إلى وطن، والثانية روحية رأسية يسلك فيها العبد طريقه إلى الله حين تعرج روحه إلى السماء، ويكاد يكون خوض الأولى سببا مباشرا في تحقيق الثانية. فالمريد تزداد معرفته بربه بمقدار معرفته بخلق ربه، إذ المسافر يشاهد كل يوم تجليا جديدا من تجليات الله متمثلة في خلائقه وما وضعها فيه من هيئات وصفات، و قد يسمونها السياحة، والسياحة وفق قواميس اللغة هي «التَّنَقّلَ مِنْ بَلَدٍ إلى آخَرَ قَصْدَ الرَّاحَةِ والتَّنَزُّهِ وَحُبِّ الاسْتِطْلاعِ»، وقد أفردت الكثير من كتب المتصوفة كالقشيري في الرسالة، والغزالي في الإحياء، والسهروردي في عوارف المعارف أبوابا في آداب السفر وأحكامه، وأطلق على بعض طوائفهم (الفقراء السائحون)، و(الصوفية المسافرون).
غير أن رحلة وحيدة جمعت الخيرين ووحدّت السبيلين، وهي تلك التي كان العابد الصوفي يقطعها قديما في طريقه إلى الحج، قبل أن تظهر وسائل النقل الحديثة، فيحمل زاده ويمتطي دابته في رحلة شاقة تنتهي بالطواف حول بيت الله الحرام، وتجديد العهد مع الله بالإيمان.وأكثر ما تميزت به تلك الرحلات هي الانتظام في موعدها من كل عام في خطوط سير معروفة ودروب مسلوكة، حيث تتحرك قوافل الحجيج من مختلف أصقاع العالم الإسلامي فتنتقل من بلد إلى أخرى حتى تضع رحالها في أرض الله الحرام. وكثيرا ما خلّفت حولها ألوانا من التمازج بين الشعوب والحكايات، وقاربت ما بين مدارس العباد من المشرقيين والمغربيين، وفتحت أبواب التعارف والتلاقح فيما بينهم.
اقرأ أيضا:
الحج.. تأملات في المعنى والدلالة via @aswatonline https://t.co/ixCyX1502g
— أصوات Aswat (@aswatonline) August 9, 2019
رحلات الأولياء
في رحلة حج الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الذي ولد بالأندلس، تنقل من بلدة إلى أخرى حتى وصل إلى أرض الحجاز، وهناك أدركه الفتح الرباني فكتب سفره الأعظم (الفتوحات المكية) في مكة حين جاور البيت الحرام حاجا وعابدا، وفي رحلة العودة من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه زار مصر، وقضى فيها مدة من الوقت، قدّم خلالها نقدا ووصفا دقيقا لحال المتصوفة المشرقيين ،لاسيما في مصر، ففي رسالته (روح القُدُس) انتقد فيها الكثير من مظاهر التصوف المصري الطرقي، والتي لم تكن معروفة في بلاد الأندلس، كالموالد والحضرات العامة. ثم انتقل إلى سوريا سنة 620هـ 1223م في عهد الملك المعظم عيسى بن العادل الأيوبي، وسكن حي الصالحية موئل الصالحين على سفح جبل قاسيون حتى وفاته في عام 638 هجرية.
أما الشيخ أبو الحسن الشاذلي المولود ببلاد تونس، فقد رحل في البداية إلى بلاد المغرب ليتعلم آداب السلوك والطريق على يد شيخه ومربيه عبدالسلام بن مشيش، ثم ارتحل إلى الاسكندرية ليؤسس هناك أهم مدرسة صوفية طرقية في العصر الحديث ممثلة في ابن عطاء الله السكندري، وياقوت العرش، والعز بن عبدالسلام، وابراهيم الدسوقي وغيرهم، ثم شد رحاله عازما الحج إلى بلاد الحجاز على الرغم من معرفته بأن رحلته إلى الحج لن تكتمل، ففي الطريق ما بين شمال مصر وجنوبها قال لرفيقه ومريده عبارته الشهيرة (في حميثرة سوف ترى) حيث صعدت روحه إلى السماء ليدفن في حميثرة على البحر الأحمر .
وقد ولد السيد أحمد البدوي في (فاس بالمغرب) ثم سافر به أبوه إلى الحجاز، لينتقل بعدها إلى طنطا في دلتا مصر، حيث أصبح تلك الأسطورة الشعبية التي لم تفارق خيال وحب المصريين طوال ثمانية قرون، وحاز نحو 39 لقبا مختلفا ارتبط بعضها بدوره في الحروب ضد الصليبيين والمغول وعلاقته بسلاطين المماليك، فالقول المأثور( يا بدوي جاب اليسري).. عني به أن السيد أحمد البدوي هو الذي حرر الأسري وأطلق سراحهم في معركة حربية قرب المنصورة ضد الصليبيين, وهي المعركة التي انتصر فيها المصريون وتم خلالها أسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا، حيث تحول البدوي بذلك لبطل شعبي.
ويندر أن تجد من بين المتصوفة من دفن في مسقط رأسه، فالانتقال من المغرب إلى المشرق أو العكس كان سمة أساسية لأئمة التصوف طوال التاريخ الإسلامي، وتتنوع أسباب الرحلة وملابساتها من صوفي إلى آخر، فالبعض هرب لوقوع الفتنة ومحاصرته وخوفا من بطش السلطان كما هو حال الحكيم الترمذي، والبعض رغبة في التخلي والتحلي حيث توصف له تلك الأرض وذلك الزمن بموعد الفتح الرباني، والبعض جعل من السياحة دون هدف دأبه وديدنه حتى تتحرر جذوره من الأرض فيسهل صعودها وعروجها إلى السماء.
في الرحلة حكايات عديدة بداية من الأسباب والدوافع، والملابسات التاريخية منها الفرار والهرب حفاظا على النفس نتيجة وقوع الافتتان وايقاع الفقهاء بين كبار المتصوفة وبين السلاطين مما يضطر المتصوفة للرحيل، ومنها امتثال للأمر المباشر للرحيل حيث الفتح الرباني، ومنها معاصرة الهجمات المختلفة على العالم الإسلامي كالحملات الصليبية أو التدفق المغولي مما يضطر الصوفي للرحيل بحثا عن موطن آخر، وخط سير الرحلة كثير ما يمتلىء بالحكايات والأسرار و الأساطير التي تحمل دلالات رمزية في بعض الأحيان، ويشهد خط السير تحقيق الذات بترك الآثار كترك مدرسة صوفية ممثلة في طريق أو لقاء مع حاكم وتقديم النصح مما يغير من واقع البلاد، أو التعرض للفتن حيث لا تخلو حكايات المتصوفة من الدراما والفانتازيا في بعض الأحيان، وأخيرا المستقر وهو الأرض التي سيختارها الصوفي أخيرا للبقاء فيترك أثره الخالد الذي به اشتهر وعرفناه، وهي الأرض التي يبشر فيها بصعود روحه إلى السماء ليتخذ موضعه على خريطة جغرافية باطنية للكون، ليمارس وظيفته التي ارتهنت بها ولايته، وظيفة لا تتحقق إلا لمن سما وصفا وذاق فعرف.