( … حرصت في كل مناسبة ، عامة أو خاصة ، ندوة كُنتْ مُشاركاً فيها ، أوجلسة خاصة جمعت أصدقاء أو أبناء ، أن أشير الى ثلاثة أعمال إبداعية بالغة الأهمية لمن يُرِيد أن يدخل الى هذا العالم السحري من الفن الروائي الجميل ، أوالسرد القصصي الذي يأخذ بناصية العقل واهتمام الروح والنفس !!
الكتب الثلاثة هي
-” الأيام ” للدكتور طه حسين .
-” ويوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم .
-” المرايا ” لنجيب محفوظ .
” الأيام ” نعرف منها كيف تُكتّبْ السيرة الذاتية ، ورغم أن هذا النوع من التأليف فيه من الجاذبية ما يكفي ، لكي نحرص على قراءته ، بل واقتنائه ، فهو مع ” الأستاذ العميد ” فيه من جمال اللغة العربية وسحرها ما لايجود الزمان بمثله ، وعلى الأقل في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر .
رواية الأيام
اما عند الأستاذ “توفيق الحكيم ” فالأمر يختلف كل الإختلاف ، فجمال اللغة موجود بلا شك ، ولكن الانسيابية في الكتابة ، والسرد الجميل التلقائي هو الأعلى صوتاً ، فتجد نفسك تنتقل من صفحة الى أخرى ، حتى تنتهي من تلك الرواية البديعة ( يوميات نائب في الارياف) في بضع ساعات ، والتي فيها الكثير من الجمع بين التاريخ الحقيقي، والسيرة الذاتية ،بل والطابع الشخصي من حياة المؤلف …
رواية يوميات نائب في الارياف
تُذهل كقارئ من طريقة الحّكيْ ، وتجد نفسك انتقلت من مواقع تراچيدية شديدة الْحُزْن ، الى مواقف ضاحكة ومُفاجئة لا تتوقف تجاهها عن الضحك بصوتٍ مسموع ، أو الإكتفاء بإبتسامة هادئة !!
عند ” نجيب محفوظ ” الأمر لا يختلف عن سابقيه ،من حيث جمال اللغة ، أو انسيابية اللغة ، فهو يحمل من چينات [أُستاذيه] الكثير مما برعوا فيه ، ولكنه أضاف إليهما من الفن الروائي ما يُعد فتحاً ، فقد عّرّضّ ثلاثيته على الدكتور ” طه حسين ” في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ، ليقرأها ويُبدي رأيه فيها قبل نشرها ، فاذا به يفاجئ بنشر الأستاذ العميد بحثاً مطولا عنها في جريدة الأهرام ، يُبشر فيه بمولد روائي كبير في الأدب العربي ، بل مولد رائد فن كتابة الرواية العربية الحديثة …
أما أستاذه الثاني ” توفيق الحكيم ” فقد سجل رأيه في ابداعه الأدبي وفق تلك الكلمات الموجزة والمُعبرة ، عند إهداءه كتابه ” مصر بين عهدين ” :
” كل سنة وانت طيب ، الى عبقري الرواية نجيب محفوظ ، الذي أقام للرواية العربية طوابق شامخة ، بعد أن وقفنا نحن عند الطابق الأول ، مع المحبة والإعجاب والتقدير ” توفيق الحكيم ، والتاريخ هو ١٢ ديسمبر ١٩٨٣ ، وهو مايتوافق مع عيد ميلاد ” محفوظ ” . وذلك وفقا لما جاء في المذكرات الجميلة للأستاذ ” محمد سلماوي ” والتي تقع تحت عنوان ” يوماً أو بعض يوم ” والصادرة عن دار نشر ” الكرمة ” سنة ٢٠١٧.
المرايا نموذجا للابداع الروائي
اعود الي موضوع المقال وهي رواية ” المرايا ” والتي أرىّ فيها أكثر من جانب من جوانب الإبداع والتأريخ ، فضلاً عن السيرة الذاتية للمؤلف ذاته …
-فمن حيث الإبداع ، ف ” المرايا ” لا تأخذ بالشكل التقليدي للرواية من حيث البداية ، والوقائع ، أي جسم الراوية ، ثم الخاتمة …
رواية المرايا
” المرايا ” هي عبارة عن ” 55″ نصاً أدبياً جميلاً ومُتفرداً ، هي شخصيات من لحم ودم ، كتبها ” محفوظ ” عَلى نمط ” البورتريه ” في عالم فن الرسم ، أو ” البروفايل ” الخاص لكل شخصية ، شخصيات تضم :
” الأستاذ الجامعي الواعد والذي يتحول طيلة حياته الى ذلك الصنف من المفكر الذي لا يهتم بأي قضية ، ولا ينتمي إلاّ لنفسه ، هو “اللامنتمي” بامتياز ، وذلك المُفكر الكبير الذي يظل عَلى مبادئه مهما طال به العمر وواجه من التحديات والمصاعب ، والبلطجي الذي لايعرف للعنف حدوداً ، والوطني الذي أحب سعدا ومات كمداً وحزناً عَلى انكسار الوفد بخروج مكرم عبيد والنقراشي عن حظيرة الحزب ، والشاب الجامعي الذي أُستشهد في شوارع القاهرة دفاعاً عن دستور ٢٣ الذي أوقفه اسماعيل صدقي ، والزوجة الخائنة التي لا تعرف حدوداً اخلاقية فاصلة فهي تُعاشر صديق زوجها ولكنها لا ترى في الأمر عيباً ولا حراماً ، والمرأة الباحثة عن الحب الحقيقي والتي تُشارف السبعين رغم وجود الزوج والأبناء ولاتجده ، والثائر عضو حركة الضباط الأحرار الذي يبدو لا هياً وعابثاً فيُفاجأ الجميع ببطولته ووطنيته ، والمُفكِر الذي بات أسطورة بعد موته ، حيث مات مقتولاً وهو يقاوم الشرطة عند لحظة القبض عليه ، والمرأة المهووسة بالجنس ، حتى يصير آفة لا يترك جسدها المُتهتك إلاّ عند وقوعها فريسة التسول والفناء ، والشيوعي الصلب الذي لا يعرف غير الصدق والصرامة فيما يقوم به من مهام ، وما يؤمن به من معتقدات ، والفنانة التشكيلية الشيوعية والجميلة ، التي لا تعرف للإبداع حدوداً ، وكذلك لا تعرف للحب عنواناً أو شاطئ ، والتاجر الذي يُتاجر في كل ماهو حرام ، من الربا الفاحش الى التجارة في الخمور ، والحريص دوماً عَلى أداء صلاة الجماعة في وقتها ، وأن يقوم إماماً لصبيانه وموظفيه ، وفي الغالب يأخذ من مخزن الخمور الذي يملكه ، مُصلَّى ومُقاماً !!
غير أن هذا التنوع في الشخصيات ، والى هذا الحد المُذهل ، يزداد جمالاً وعبقرية ، في قدرة ” محفوظ ” عَلى الربط الدرامي بين هذه الشخصيات رغم اختلافها وتنوعها عَلى كل صعيد !!
فإذا قرأت الشخصية الأولى مثلاً وتصورت أنك ألمّمّتْ بكل جوانبها ، تُفاجأ بعودتها مرة ثانية وثالثة ورابعة عند اطلاعك عَلى حكاية شخصية جديدة حتى لو جاء ذكرها في الصفحات الأخيرة من الرواية !!
قدرة عبقرية بلا شك ، ومهارة في الكتابة وكفاءة في البناء المعماري الفني ، أشُكْ أن يصل اليها أحد.
حتى أنني أنصح من يقرأ هذه الرواية بغرض الإستمتاع أن ينتقل من شخصية الى أخرى دون أن يتوقف كثيراً عند طبيعة علاقتها بالشخصية التي تأتي بعدها ، فقد قرأت هذه الراوية البديعة عَلى مرحلتين ، الأولى فور صدورها في سنة ١٩٧٢، عند صدورها عن ” دار مصر للطباعة : سعيد جودة السحار وشركاه ” وتصل صفحاتها الى ٣٣٠ صفحة ، وكانت هذه القراءة بغرض المُتعة والتذوق ، وأما الثانية ، وقد قرأتها في طبعة دار ” الشروق ” المصرية ، حيث كان الهدف من القراءة الثانية ، هو العودة اليها بغرض دراستها ، والبحث عن العلاقة الفنية التي تربط بين هذه الشخصية أو تلك ، مما أرهقني أيما إرهاق !!
ففقدت المُتعة ، لكن تعلمت الدرس …
المرايا بين ثنائية التاريخ والسيرة الذاتية
اذا كان ماسبق يتعلق بالإبداع والفن الروائي ، في تلك الرواية البديعة ، فيبقى عندي جانبين هما ، التأريخ ثم السيرة الذاتية …
اولا : التاريخ :
فالفترة التاريخية التي يتحرك فيها هذا النص تبدأ مع سنوات العشرينيات من القرن الماضي والتي يدخل فيها الراوي ، أي ” محفوظ ” المدرسة الابتدائية خلال سنوات الطفولة عندما كانت عائلته تقيم في منطقة ” بيت القاضي ” والحسين والجمالية والدراسة ، ثم انتقالها الى العباسية عند بداية المرحلة الإعدادية والثانوية والجامعية ، وهي المرحلة التي عايش فيها ” محفوظ ” أصداء ثورة ١٩، لا الثورة نفسها ، وزعامة سعد للحكومة والبرلمان والإنقلابات الدستورية وحكومات الأقليات ، حكومات اسماعيل صدقي ومحمد محمود ، وانشقاقات حزب الوفد ، واندلاع الحرب العظمى الثانية ، وتظاهرات العمال والطلبه ضد اتفاقية ” صدقي / بيڤن ” في سنة ٤٦ ، وحريق القاهرة ، وقيام ثورة يوليو ٥٢ ، وحرب العدوان الثلاثي في عام ٥٦ ، وقوانين يوليو الاشتراكية في سنة ١٩٦١، وهزيمة يونية ٦٧ ، وحرب الإستنزاف ، ثم تتوقف أحداث الرواية عند سنة ١٩٧٠ حيث وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، فلا نجد حرفاً واحداً يتخطى هذا التاريخ ، مع ملاحظة عدم ورود اسم الرئيس ” ناصر ” في أي صفحة من صفحات الرواية ، وفي ظني أن ” محفوظ ” تعمد ذلك ، وهو الأمر الذي يُزيدْ من مكانة ودور عبدالناصر ، ولاينقص منه ، فزمن صدور الرواية يُشير ، وهو عام ٧٢ الى أن برنامجعبدالناصر هو البرنامج المُعتمد آنذاك في مواجهة العدوان الاسرائيلي بإزالة أثاره ، وهو طريق مصر في التنمية المُستقلة ، والصداقة الراسخة مع الإتحاد السوفيتي ، وهي جميعها مفردات التوجه الناصري ، وقبل الإنقلاب الساداتي عليه في أعقاب حرب أكتوبر ٧٣ ، ولعل هذا يفسر لماذا غاب اسم ناصر في حين امتلأت الرواية بأسماء : سعد والنحاس والملك فؤاد وإسماعيل صدقي والملك فاروق والسفير البريطاني وغيرهم ، كحدث تاريخي ، أو شخصيات تاريخية باتت من صفحات التاريخ الذي مضى ولن يعود !!
ثانيا : السيرة الذاتية لمحفوظ
، وهو مايتعلق بالسيرة الذاتية للأستاذ ” نجيب محوظ ” ويمكن الإستدلال عَلى هذا الجانب من عدة شواهد ، أولها عمر الراوي ، والذي نلحظ أن بداية المرحلة الابتدائية في حياته بدأت مع السنوات الأولى من العقد الثالث من القرن الماضي ، أي أعوام ١٩٢٠ وما بعدها ، واذا عرفنا أن ” محفوظ ” من مواليد ١١ ديسمبر ١٩١١ لإستقام الأمر وامتثل السياق في مساره الزمني الصحيح ، فالمرحلة الثانوية والدراسة الجامعية تتفق مع التدرج الزمني لحياة الراوي ، وفي نفس الإطار ، نجد أن الحياة العائلية لأسرة ” محفوظ ” تتفق مع وقائع الرواية ، فقد انتقلت الأسرة من أحياء مصر القديمة العتيقة ، الى حي العباسية العريق ، وضواحيه من الوايلي ودير الملاك ومصر الجديدة ، فضلاً عن معسكرات الجيش البريطاني في صحراء العباسية الشرقية القريبة من بيته ومدرسته ومنازل زملائه وأصدقاءه …
وكذلك نلاحظ الحياة الوظيفية للراوي ، فلا نجد لها تبديلاً ، أو تغيراً من وظيفة الى أخرى ، فسنوات الوظيفة ل ” محفوظ ” هي ، وكما جاءت في الرواية ، لا تخرج عن عمله في سكرتارية الوزارة ، وهي بالطبع وزارة الأوقاف ، والتي لم يذكرها الراوي بالاسم طوال صفحات ” المرايا ” ، فمن المعروف أن ” محفوظ ” كان السكرتير البرلماني لوزارة الأوقاف ، وتعددت صفاته الوظيفية ابتداءاً من العمل مع أستاذه الشيخ الدكتور ” مصطفى عبدالرازق ” وزير الأوقاف خلال العهد الملكي ، الى سنوات انتدابه عند بداية عقد الستينيات رئيساً لمؤسسة السينما وحتى بلوغه سن المعاش عند وصوله العام ١٩٧١….
نجيب محفوظ شابا
وفي ظني أن ما ورد في تلك الرواية عن عالم الفن والتمثيل والأدباء والمفكرين وخصوصاً من معسكر اليسار كان حصيلة تلك الفترة الثرية والخصبة من حياة الأستاذ ” نجيب محفوظ ” والتي ترافقت أيضاً مع تلك السنوات التي فتح خلالها الأستاذ ” محمد حسنين هيكل ” صفحات الأهرام لإبداعات ” محفوظ ” وأشهرها طبعاً روايته الخالدة ” أولاد حارتنا ” وما تلاها من إبداع ، والتي كتب ونشر الكثير منها قبل أن يتعاقد مع مؤسسة الاهرام ككاتب منتظم فيها اثر خروجه من وظيفته الحكومية قبل العام ١٩٧١ .
رواية أولاد حارتنا
هذه الرواية البديعة التي جاء الراوي عَلى ذكر أبطالها خلال سنوات حياته الواعية المُمتدة مابين أعوام ١٩٢١ الى سنة بلوغة سن التقاعد في العام ٧١ هي سيرة حياة الأستاذ محفوظ بكل معنى الكلمة ، غير أنها ينقصها الإفصاح عن أبطالها ، فقد جاءت الشخصيات ال ” 55 ” مُغطاة بأسماء مُستعارة وغير حقيقية ، حتى أن ” محفوظ ” وإمعانا في الغموض لم يسلك سيرته المُعتادة في رمزية الاسم ودلالته عَلى نحو ما جاء في ” أولاد حارتنا ” أو غيرها من روايته الكثيرة …
الأستاذ نجيب محفوظ
وحتي أن القارئ لكتاب الأستاذ ” رجاء النقاش ” رحمه الله ، والذي يقع تحت عنوان ” نجيب محفوظ : صفحات من مذكراته وأضواء جديدة عَلى أدبه وحياته ” وهو كتاب جميل ومُهم ، لن يظفر بالكثير من معرفة الأسماء الحقيقية لأبطال روايته الرائعة ، ولكن في يقيني أن تلك الرواية اذا أضيف اليها كتاب ” محفوظ ” والذي يقع تحت عنوان ” أصداء السيرة الذاتية ” فضلاً عن كتاب الأستاذ ” رجاء ” السابق ذكره فان ثلاثتهم يشكلون بانوراما حياة كاملة وشاملة لهذا الأديب الفّذَ ، والمُبدع الكبير ، والإنسان المصري الأصيل والنبيل … )