مشهدان سينمائيان يستحقان التوقف عندهما: الأول من فيلم «غزل البنات» وهو مشهد شديد الطرافة والدلالة في نفس الآن، حيث يدلف المدرس المطحون أستاذ حمام -المبدع نجيب الريحاني- إلى قصر الباشا -سليمان نجيب- ليكون مدرساً لابنته -ليلى مراد- لكنه لا يلتقي الباشا مباشرة وإنما يدخل في حوار كوميدي مع مربي الكلب، الذي يبدو شديد الوجاهة والأناقة، ويصدم الأستاذ حمام حين يدرك أن مربي الكلب يتقاضى راتباً يفوق مرتبه أضعافاً مضاعفة وهو مربي الأجيال.
مشاهد من فيلم غزل البنات
يقول حمام بلهجة تملؤها المرارة حين يسأله مربي الكلب عن مهنته: «لا أنا حيا الله بتاع كتب.. بتاع علم»، ثم يصدر من شفتيه صوتاً نستخدمه نحن معشر المصريين للدلالة على التفاهة أو عدم الأهمية.
بعد أكثر من ستين عاماً على هذا المشهد الذي أُنتج عام ١٩٤٩، تُطالعنا السينما بمشهد مشابه في فيلم «فبراير الأسود» عام ٢٠١٣ للكاتب والمخرج محمد أمين، ففي أحد مشاهد الفيلم يؤكد بطله الأكاديمي د. حسن -المبدع الراحل خالد صالح- أنه وكل من هم مثله من أهل العلم لا قيمة لهم على أرض المحروسة، التي صار الآمنون فيها -على حد تعبيره- هم أهل الثروة أو السلطة فقط لا غير.
مشاهد من فيلم فبراير الأسود
هذا التشابه الذي يصل إلى حد التطابق بين المشهدين، رغم ما بينهما من سنوات طوال من شأنه أن يفند أكثر من فكرة، أولها الفكرة التي يتم الترويج لها منذ ما يقرب من عقد كامل وهي أن مصر في العهد الملكي «١٩٢٤- ١٩٥٣» كانت أفضل من وضعها الحالي. وثانيها أن ثورة 23 يوليو ١٩٥٢ هي السبب في الوضع الحالي، فاذا سلم المرء جدلاً بهذا المنطق كتفسير لحالة حسن فكيف يكون تفسيراً لوضع حمام المزري ويوليو لم تقع بعد؟.
ثورة 23 يوليو 1952
هنا يبدو الربط بين المشهدين منطقيا، فما أنتجته فترة الانفتاح التي عرفتها مصر في سبعينيات القرن العشرين لم يكن أمراً جديدا، وإنما كان ببساطة إحياء لقيم طبقة مندثرة تحت وطأة سياسات ثورة 1952، تلك الطبقة التي كانت خير عون للمستعمر الإنجليزي، وكانت قيادة يوليو تدرك ذلك فجعلت أول همها تفكيك تلك الطبقة من خلال قوانين الإصلاح الزراعي التي سحبت منها مصدر نفوذها وهي الأراضي الزراعية التي تملكها أغلبهم كمكافأة من قبل الاحتلال بعد سيطرته على مصر عام ١٨٨٢.
لم تكن سنوات السبعينيات وما لحقها سوى إعادة إنتاج لمفاهيم تلك الفترة، أي ما قبل ١٩٥٢ وأخلاقيات «نخبتها»، حيث لم تكن قيم «الفهلوة» و«الشطارة» و«شيلني وأشيلك» وغيرها قيما وافدة وإنما ببساطة قيما مستعادة!
وهنا أيضا، يمكن فهم ترحم البعض على عصر الملكية البائد، حيث أن أثرياء ما بعد 1974 هم امتداد طبيعي لأثرياء ما قبل 1952، والتي لا يرى فيها كليهما سوى «انقلاب».
كلاهما طفيلي متسلق يتعالى على بسطاء الشعب الذين يمثلون أغلبية الشعب المصري الساحقة، ولذا فإن انتماؤهم إلى الوطن هو انتماء اسمي لا غير، ولذلك أيضا يحرصون على إبعاد ذواتهم عن بقية الشعب من خلال «الرطن» بلغة أجنبية أو نسب أنفسهم لوطن أخر أو سب شعبهم أو التقوقع في مجمعات سكنية خاصة بهم لا يرون فيها بسطاء الوطن ولا يحتكون بهم.
نعم بالفعل، عرفت مصر انقلاباً، ولكنه لم يكن ليلة الثالث والعشرين من يوليو 1952، لقد كان انقلاباً صامتا متدرجاً لم تطلق فيه رصاصة ولم يتحرك فيه جندي واحد، بدا هذا الانقلاب في عام ١٩٧٤ بعد أن صمتت المدافع على جبهة القناة وكان هدفه واضحاً: إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ١٩٥٢.
وكان لهذا الانقلاب ما أراد، فتم تفكيك القاعدة الصناعية التي أنشأها ابن مصر البار الدكتور عزيز صدقي، تحت مسمى الانفتاح تارة وتحت مسمى الخصخصة تارة أخرى
عزيز صدقي
وتم إعاده جزء ليس بالقليل من أراضى الإصلاح الزراعى إلى ملاكها القدام او ورثتهم سواء بأحكام القضاء أو بموجب قانون المالك والمستأجر الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي.
كما تم تكريس نظام اقتصادي قلب سياسة يوليو رأسا على عقب، فبعد أن كان الهدف هو تذويب الفوارق بين الطبقات، صارت السياسة الاقتصادية سبباً في صعود فئات اجتماعية بعينها والهبوط بأخرى، ليعود المجتمع مرة أخرى وتدريجياً إلى مجتمع «النصف في المائة»، أي مجتمع الأقلية المسيطرة على مقدرات الأمور والتي كانت موضع انتقاد قائد يوليو بشكل مستمر.
إن أي محاولة لإصلاح الأوضاع في هذا الوطن، في رأيي، لابد وأن تبدأ بتفكيك هذه المنظومة القيمية، وإعادة الاعتبار لمنظومة أخرى مثلها في كلا الفيلمين المشار إليهما شخصيتي «حمام، وحسن»، تلك المنظومة التي أهدرتها سنوات الانقلاب الحقيقي لا سنوات يوليو.