«مائة يوما من تاريخ مصر، بدأت بحريق وانتهت بآخر، وبين الحريقين سقط نظام وقام آخر، وانتصرت إرادة شعب» .. بتلك العبارة الإفتتاحية وعلى أنغام موسيقى السمسمية التي رافقت نضال أهالي مدينة الإسماعيلية ضد الإحتلال الإنجليزي يصحبنا المخرج عمرو حسين خلال فيلمه الوثائقي «الحريق» برحلة شيقة تمتد لمائة يوم تبدأ بحريق «النافي» بمدينة الإسماعيلية وتنتهي بحريق القاهرة ذلك الحادث الذي مثل فتيل الشعلة التي دفعت الأحداث وأضاءت الطريق لصناع ثورة 23 يوليو 1952.
على مدى خمس وعشرون دقيقة هى مدة فيلم «الحريق» يصحبنا مخرج الفيلم عمرو حسين لنتصفح معه صفحات من التاريخ النضالي لأهالي مدينة الإسماعيلية، غير أن هذه المرة صفحات التاريخي هي التي تأتينا نابضة بالحياة على لسان شهود عيان عاشوا التجربة بأنفسهم أو رافقوا واستمعوا لمن عاش التجربة.
يصحبنا الفيلم لنستمع إلى شهادة الفنان التشكيلي جلال عبده هاشم المولود بمدينة الإسماعلية في 25 يناير 1940 صانع تمثالي الصمود والنصر، تمثال الصمود الذي صنعه من تلك الشظايا الصهيونية التي سقطت على مدينة الإسماعيلية، وتمثال النصر المصنوع من الشظايا المصرية التي سقطت على خط بارليف وكان الفنان واحدا من أبطال المقاومة الشعبية الذين ساهموا في تحقيق نصر أكتوبر 1973.
مخرج الفيلم عمرو حسين مع الفنان التشكيلي جلال عبده هاشم
يروي اللواء صلاح الخضيري الذي شارك بأربعة حروب هى: «حرب اليمن وحرب 1967 وحرب الإستنزاف وحرب 1973» شهادته حول دور أخيه (شيخ الفدائيين ) في النضال ضد الإنجليز والذي أشتهر باسم «غريب تومي» وكان يعمل بالكامب الإنجليزي غير أنه كان يساعد الفدائيين خفية في الحصول على الذخيرة والسلاح من مخازن الإنجليز، وحين تم اكتشاف أمره تم إعتقاله وتعرض للتعذيب الشديد كي يدلي بأي معلومة تساعد الإنجليز على الوصول للفدائيين بمدينة الإسماعيلية، غير أن الفدائي الذي تربي على عشق تراب الوطن كان مثالا للصمود والبطولة والفداء.
سياسيوا واعلاميو الأسماعليه يحتفلوا بـ شيخ الفدائين غريب تومي
لم يكتف مخرج الفيلم بالشهادات الحية لأهالي مدينة الإسماعيلية ولكنه استعان بالإضافة إلى ذلك بشهادة الدكتور خلف الميري المؤرخ ليطرح رؤيته حول إلغاء مصر لمعاهدة 1936 وإندلاع حريقي الإسماعيلية والقاهرة، وغيرها من التفاصيل الحية التي عاشها أهالي مدينة الإسماعيلية خلال تلك الفترة، كما استضاف الكاتب الصحفي محمد الشافعي الذي سبق له وأن عمل في كتب سابقة له على توثيق بعض الشهادات الحية من داخل مدينة الإسماعيلية.
استعان المخرج إلى جانب تلك الشهادات الحية بالعديد من الوثائق التاريخية سواء كانت في صورة فيديوهات أو صور وثقت تلك الوقائع والأحداث أو كانت صحف تتناولها، وفي الحديث الذي أجريته معه في أعقاب عرض الفيلم لأول مرة بساقية الصاوي حرص الأستاذ عمرو حسين على توجيه التحية لكل من أدلى بشهادته الحية بالفيلم وكل من عاونة خلال رحلة عمله، إضافة لتوجيه التحية لذلك الدور الذي يقوم به القائمون على صفحة «تاريخ الإسماعيلية» على فيسبوك تلك التي اهتمت برصد العديد من الوثائق الخاصة بنضال أهالي الإسماعيلية.
بطولات تومي وشزام
استعرض الفيلم تجربة شيخ الفدائيين «غريب تومي» إلى جانب تجربة الفدائي الذي أطلق عليه المحتليين الإنجليز لقب «شزام» ويقصد به الطائر الجارح، نعم كان طائراً جارحاً تمكن على مدى سنوات طوال أمتدت من الإحتلال الإنجليزي وحتى حرب أكتوبر 1973 من الدفاع عن أرض الوطن حتى نال لقب قائد «مجموعة المقاومة الشعبية» خلال حرب 1973 إلى جانب ذلك اللقب الذي أشتهر به خلال مقاومة الصهاينة وهو «كوماندوز».
أشاد المهندس أحمد بهاء الدين شعبان أحد رموز الحركة الطلابية بالسبعينات وصاحب العديد من الكتابات التي أرخت للحركة الطلابية المصرية بفيلم «الحريق» وقدرة مخرجه ونجاحه في نقل صورة حية عن نضال أهالي الإسماعيلية، ذلك النضال الذي لم يقتصرعلى مستوى العمل الفدائي الحربي الذي قام به الفدائيين فحسب وإنما إضافة لذلك كيف أن آلاف المواطنين الفقراء قد تمكنوا من الإعلان في توقيت واحد عن الإضراب عن العمل بكمبات الجيش الإنجليزي على الرغم من فقرهم الشديد وإنعدام وجود فرص عمل أخرى لديهم.
المهندس أحمد بهاء الدين شعبان
كما أشاد بهاء الدين شعبان بجملة الوثائق التي استعان بها مخرج الفيلم مشيرا إلى أنه ورغم إهتمامه الشديد بشأن تلك الفترة من تاريخ مصر وإطلاعه على العديد من الوثائق الخاصة بها إلا أنه قد فوجىء خلال عرض الفيلم برؤيته لصور جديدة لم يرها من قبل، ومن أمثلتها تلك الصور التي وثقت لعملية إنتشال قوات الإحتلال الإنجليزي لقتلاهم الذين تم التخلص من جثثهم بمياه ترعة الإسماعيلية.
مصر ..بين حريقين
عقب إعلان مصر إلغاء معاهدة 1936 مع الإنجليز في أكتوبر 1951 خرجت المظاهرة الحاشدة لطلاب المدرسة الثانوية بمدينة الإسماعيلية تبعهم كافة أهالي المدينة، واجهت قوات الإحتلال المتظاهرين بالعنف الشديد لتنتهي المظاهرة بإشعال المتظاهرين لما عرف «بالنافي» الإنجليزي، وتتوالى الأحداث ليتوجه جيش الإحتلال نحو محاصرة مبني «بلوكمان النظام» التابعة لجهاز الشرطة المصرية، ليسطر الجنودالمصريون صفحة مشرقة في تاريخ النضال الوطني ضد الإحتلال الإنجليزي، عبر تماسكهم ورفضهم الإستسلام رغم نفاد ذخيرتهم، وإصرار قائدهم مصطفى رفعت على الخروج وجنوده مرفوعي الراس في طابور سير عادي وليس مرفوعي الأيدي في حالة إستسلام كما طالبهم قائد قوات الإحتلال التي كانت تحاصرهم.
مظاهرات الطلاب بعد الغاء معاهده 1936
استشهد في ذلك اليوم ما يزيد عن ستين شهيدا إلى جانب عشرات الجرحى لتعم المظاهرات أرجاء مصر، ويندلع حريق القاهرة فيحار الجميع في تحديد من أشعل ذلك الحريق البعض ينسبها إلى الإنجليز وآخرين نسبوها للملك غير أن الفيلم يضيف إليهم إحتمالا جديد يتعلق بكون المتظاهرين أنفسهم من بادروا بإشعال بعض المؤسسات على الأقل في المرحلة الأولى ومن بعدهم جاء دور المغرضون المخربون.
الكاتب الكبير عبد الله السناوي صاحب كتاب «آخيل جريحا» الذي صدر حديثا وآثار الكثير منالنقاش الجاد حول التجربة الناصرية أشاد بفيلم «الحريق» وقدره مخرجه على تقديم نص متماسك وتوقف عند تناوله لحادث حريق القاهرة مشيرا إلى أنه حتى اللحظة الراهنة لم يزل القائم بحريق القاهرة مجهولا لكنه لم يستبعد ذلك الإحتمال الذي طرحه الفيلم من أن يكون للمتظاهرين دورا في إشعال بعض المؤسسات التي كان يملكها الإنجليز بمصر كحالة من تداعي الغضب على تلك الأحداث التي شهدتها مدينة الإسماعيلية.
عبد الله السناوي
غير أن الأستاذ أحمد بهاء الدين شعبان وهو يؤكد على ما قد ذهب إليه الأستاذ عبد الله السناوي من أن حريق القاهرة مازال حدثا يجتنبه الكثير من الغموض إلا أنه يستبعد تماما إمكانية أن يكون للمتظاهرين أي دور بذلك الحدث الإجرامي الذي لم يقتصر على مؤسسات الإنجليز وإنما طال مؤسسات المصريين كذلك، ومن ثم يطرح بهاء الدين شعبان تساؤلا تاريخيا هاما يتعلق «بلماذا لم يقدم قادة ثورة يوليو 1952 على فتح تحقيق لمعرفة ملابسات حريق القاهرة؟».
يستطرد بهاء الدين شعبان في الحديث عن حريق القاهرة مشيرا إلى تعدد الكتابات التي تناولت حريق القاهرة وأنها في مجملها أجمعت على وجود ثلاث عناصر لا رابع لهم كانوا مستفيدون من ذلك الحريق وهم إما جماعة الإخوان المسلمين بوصفهم يرون في محلات الأجانب دعوة للفحش والسفور، أو الملك الذي كان يعاني أزمات عدة وكان إندلاع مثل هذا الحريق بمثابة طوق نجاة بالنسبة له، أم الإنجليز بوصفهم المستفيد الأكبر كي يتمكنوا عبر حدث كبير من التخفيف من حدة العمليات الفدائية التي كان يشنها الفدائيون على قوات الإحتلال بمنطقة مدن القناة.
وماذا بعد؟
أثار الفيلم الذي خاض مخرجه رحلة شائكة داخل ثنايا مائة يوم من نضال شعب مصر ضد الإحتلال الإنجليزي -العديد من القضايا والتساؤلات – إلا أن الأستاذ عبد الله السناوي ومع حرصه على التأكيد على قيمه الفيلم، أنتقد مضي المخرج بفيلمه بعيدا عن حريق القاهرة وصولا لثورة 23 يوليو 1952 وما تبعها من أحداث، حيث رأى أنه كان من الأجدى أن يقف الفيلم عند حدود حريق القاهرة دون الوصول لثورة 1952، غير أن نقده هذا لم يثنه أن يعترف بقيمة الفيلم وما قدمه من جديد ومن ثم أوصى بضرورة الحرص على عرض الفيلم بالعديد من المراكز الثقافية المعنية بالأفلام الوثائقية.
حريق القاهرة
من جانبه أوصى الأستاذ أحمد بهاء الدين شعبان بأن يواصل المخرج عمرو حسين رحلته مع توثيق مجمل بطولات الفدائيين بمنطقة مدن قناة السويس حتى تصبح تلك الأفلام الوثائقية زادا ومعينا للجيل الجديد من الشباب كي يتعرفوا على بطولات أجدادهم ونضالاتهم.
يذكر أن فكرة فيلم «الحريق» قد تولدت لدى الأستاذ عمرو حسين مخرج الفيلم أثناء إعداده لفيلمه السابق والذي حمل عنوان «أوتار مصرية» وكان يتناول موسيقى السمسمية ودورها الوطني بمنطقة القناة منذ القرن التاسع عشر وحتى نصر أكتوبر 1973.
فيلم «الحريق» وفقا لمخرجه يعد الفيلم الأول من سلسلة من ثلاث أفلام ينتوي المخرج مواصلة العمل عليها تهدف لتوثيق بطولات أهالي مدن القناة «الإسماعيلية .. السويس .. بورسعيد» .. ويختتم المخرج فيلمه بأغنية من تراث السمسمية «جاي الصباح يا بلدنا .. جاي الصباح .. والليل روح يا بلدنا .. والليل روح .. أيد بتبني يا بلدنا .. وأيد على الزناد .. والزرع الأخضر يا بلدنا .. عطر وفواح».