إلياس علمي – خبير في الاقتصاد السياسي بجامعة ماستريخت، ومؤلف كتاب
Money Power and Financial Capital in Emerging markets.
آدم ديكسون – أستاذ العولمة والتنمية في جامعة ماستريخت، وباحث أساسي في مشروع SWFsEUROPE”” الممول من مجلس البحوث الأوربي.
عرض وترجمة: أحمد بركات
ها هي رأسمالية الدولة قد عادت.. على الأقل هكذا يخبروننا. فالعديد من الكتب والمقالات التي نشرت مؤخرا تؤكد أن الدور الأكثر وضوحا للدولة في جميع أنحاء الاقتصاد الرأسمالي العالمي يشير بقوة إلى عودة رأسمالية الدولة.
لنأخذ في الاعتبار عمليات الإنقاذ الجماعي التي أعقبت الأزمة المالية في عام 2008، ووباء كوفيد – 19، والتوسع في المشروعات التي تمتلكها الدولة، وصناديق الثروة السيادية، وبنوك التنمية الوطنية والإقليمية، وتجديد السياسة الصناعية ومختلف أشكال القومية الاقتصادية في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، وتعزيز التنمية التي تقودها الدولة في الصين وأماكن اخرى.
بالنسبة إلى كثير من المحللين وصانعي السياسات، تشير هذه التطورات إلى أن رأسمالية الدولة تحتل مرة أخرى موقع الصدارة في الاقتصاد السياسي العالمي.
هذه السرديات عن رأسمالية الدولة الصاعدة تبتعد كل البعد عن البراءة. لنأخذ في الاعتبار الغلاف الأمامي لتقرير خاص نشرته صحيفة The Economist في يناير 2012، والذي يعرض لصورة لينين وهويدخن سيجار. وفي عدد آخر (نوفمبر 2010) تم تخصيصه لعمليات الاستحواذ الصينية المدعومة من قبل الدولة، يصور الغلاف الأمامي صورة لماو يسلم مجموعة من الأوراق النقدية
تضم هذه الصور والتمثلات عددا لا حصر له من الرموز المحملة بالقيمة، التي تحشد تواريخ وسرديات مألوفة. على سبيل المثال، يستدعي اللون الأحمر في الخلفية وصورتا القائدين المهمين تاريخ ’اشتراكية موجودة بالفعل‘ في الاتحاد السوفيتي السابق والصين وغيرهما، لكنها تستدعي أيضا تاريخ الحرب الباردة. وتربط هذه التمثلات ’العودة‘ المعاصرة للدولة بالماضي عن طريق إعادة تنشيط ذكريات الحرب الباردة والشيوعية، في الوقت الذي تصور فيه خيالات مفعمة بالشك والازدواجية. فهذه الأغلفة تشير إلى أنه في رأسمالية الدولة ما يكمن وراء حجاب الأموال والأسواق الرأسمالية – الذي يرمز له بالدولار الأمريكي، سواء في سيجار لينين أو الأوراق النقدية لماو – وهو تركز القوة الاقتصادية في أيدي دول قوية غير ليبرالية. هناك نذير شؤم، وربما خطر جاثم، بشأن حقيقة أن المال لا يتم توزيعه من قبل اليد الخفية للسوق، وإنما اليد الظاهرة لماو.
لا تقتصر هذه الصور على الصحافة الاقتصادية. ففي واحدة من أهم المقالات حول هذا الموضوع، والتي تحولت لاحقا إلى كتاب أكثر مبيعا، يؤكد المنظر السياسي ورئيس مجموعة “أوراسيا جروب”، أيان بريمر، أن صعود رأسمالية الدولة في العالم النامي “يتعارض مع الراسمالية الليبرالية الغربية، ويهدد بدرجة مفزعة بإضعاف أداء السوق الحرة”. وفي كتاب مهم آخر، يؤكد جوشوا كورلانتزيك، الزميل في “مجلس العلاقات الخارجية”، أن عودة رأسمالية الدولة “تقدم بديلا حقيقيا محتملا لنموذج السوق الحرة، وكبديل فإنه يفرض تهديدات حقيقية على الاستقرار السياسي والاقتصادي في جميع أنحاء العالم”. وبالنسبة إلى جيفري ميرون، عالم الاقتصاد بجامعة هارفارد، والزميل الباحث في “معهد كاتو”، فإن “[الصين] لديها رأسمالية الدولة، وليس رأسمالية حقيقية”.
أيان بريمر جوشوا كورلانتزيك جيفري ميرون
ونحن نرى أنه ليس من قبيل الصدفة أن تعاود هذه السرديات والخطابات الظهور في الآونة الأخيرة. بالنسبة إلينا، يجب النظر إلى هذا على خلفية سلسلة من التحولات المترابطة على مستوى كل من الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية، بما في ذلك، تحول مركز جاذبية الاقتصاد العالمي من شمال الأطلسي إلى أطراف المحيط الهادئ، وتشتت الطاقة في الاقتصاد العالمي بعيدا عن مراكز الطاقة التقليدية في الغرب، وتعدد أشكال إعادة تأكيد سلطة الدولة في الاقتصاد والمجتمع.
نتيجة هذه التحولات – على نحو جزئي – اعتادت بعض الدلالات القديمة أن تعطي معنى للسياسات العالمية، مثل التقسيم الجغرافي السياسي (الجيوسياسي) للعالم إلى عالم أول، وثاني، وثالث، أو إلى الشمال العالمي والجنوب العالمي. كما فقدت بعض سرديات ما بعد الحرب الباردة، التي صيغت في سياق ’العولمة‘ و’نهاية العالم‘، جاذبيتها ومصداقيتها. ويضاف إلى ذلك الاستجابات غير الفعالة لأزمة كوفيد – 19 من قبل عدد من الدول الرأسمالية المتقدمة.
نسلم بأن عودة ظهور وإعادة تعريف خطابات رأسمالية الدولة تشارك في البحث عن أطر استطرادية جديدة وخطوط تفكير جيوسياسية من قبل المحللين الاستراتيجيين والقادة السياسيين والمتخصصين في السياسة الخارجية من أجل إضفاء معنى على هذه التحولات التاريخية الفوضوية. بعبارة أخرى، تبرز رأسمالية الدولة بسرعة ’كدراما عالمية جديدة‘، أي سردية جيوسياسية بسيطة ومباشرة تعمل كإطار مرجعي للخطاب والممارسة السياسية. والآن، دعونا نلقي نظرة فاحصة على طريقة عملها.
أولا، تقلل الصور والخيالات عن رأسمالية الدولة حجم التعقيد والتنوع في التحولات السياسية والاقتصادية التي ذكرناها آنفا إلى مجرد تعارض ثنائي واضح المعالم بين رأسمالية السوق الحرة في مقابل رأسمالية الدولة. وتمثل سردية رأسمالية الدولة قصة مألوفة عن أبطال وأوغاد، والتي – من خلال خطابات المنافسة والعداء والتوسع في النفوذ – تبني شعورا بـ “الوضوح الأيديولوجي”. ويمكن بسهولة تحديد البطلين الرئيسيين، وهما النموذجان المختلفان جذريا وغير المتوافقين من الرأسمالية.
ثانيا، تؤسس الفئة الجغرافية (الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية) لهذا المعنى من البساطة والمباشرة والألفة عن طريق إعادة تنشيط السرديات الجيوسياسية الكبرى القديمة، مثل تلك التي ارتكزت إليها المؤلفات التي تناولت الجغرافيا السياسية للحرب الباردة (راجع الأغلفة أعلاه)، وأيضا الخطاب العنصري للإمبراطورية. في الواقع، تشير هذه الصور إلى أن رأسمالية الدولة تقع في مساحات خارج المركز الغربي للاقتصاد العالمي، وتبني في الوقت نفسه تفرد وشذوذ رأسمالية الدولة في مقابل نموذج عالمي مفترض للمنظومة السياسية الرأسمالية المهيمنة في الغرب. يتضح هذا في رواية بريمر، التي تضع رأسمالية الدولة بوضوح في مقابل رأسمالية السوق الحرة الليبرالية الديمقراطية (التي يهيمن عليها الغرب)، وفي توصيف ميرون لرأسمالية الدولة الصينية كنوع غير نقي من الرأسمالية.
إن توصيف الرأسمالية غير الغربية باعتبارها ’غير نقية‘ و’منحرفة‘ (المحسوبية والفساد والتدخل السياسي المختل) يمثل ملمحا أساسيا في الخطابات الإمبريالية العنصرية، ويسمح بإنكار حقيقة أن هذه السمات هي جوانب محتملة في الرأسمالية الغربية أيضا، التي يتم تمثيلها في الوقت نفسه على أنها نسخة ديمقراطية عقلانية نقية من الرأسمالية. ومن ثم، فإن هذه الراسمالية الغربية لم تتشكل باعتبارها متفوقة أخلاقيا فحسب، وإنما أيضا باعتبارها المعيار المثالي.
والآن، فإن تدقيق هذه السرديات، والقيم التي تقوم عليها، وسياق إنتاجها لا يمثل مجرد ممارسة فكرية. فهذه السرديات لها آثار حقيقية ملموسة، وتتداخل مع “إعادة الإنتاج الاجتماعي الجاري للسلطة والاقتصاد السياسي”. إن صور رأسمالية الدولة تشارك في البناء الاستطرادي للهوية المهدَدة (الدولة الغربية والكيانات التجارية الفاعلة)، والكيان المهدِد (رأسمالية الدولة الصينية) الذي يتعين السيطرة عليه. على سبيل المثال، بينما تدخل فئة ’رأسمالية الدولة‘ بسرعة في المعجم السياسي الرئيسي، يتم إعادة التركيز على الأمور السياسية بالغة التعقيد باعتبارها مسائل بسيطة تتعلق بالمنافسة مع رأسمالية الدولة المارقة و التوسعية، وهو ما يتطلب استجابة سياسية مناسبة. إن تصوير رأسمالية الدولة باعتبارها ’منافس شرير‘ تستخدم لإعطاء معنى ومبرر سياسي ودعم لسياسات الحماية المتزايدة في تنظيم التجارة والتكنولوجيا والاستثمار في الولايات المتحدة والاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الأخرى.
لنأخذ على سبيل المثال “استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية لعام 2018″، و”استراتيجية الأمن القومي لعام 2017”. إن تصوير الصين كنموذج لقوة رأسمالية الدولة، الذي يمتلك طموحا عالميا في سياق حرب باردة جديدة، يسمح بتوفير مبررات للتشدد الحالي في الدبلوماسية الأمريكية والسياسة الخارجية الأمريكية. وبهذه الطريقة، يتم تقديم تعديلات السياسة المتشددة كرد فعل حسن النية وعقلاني للتهديد الأيديولوجي العالمي، وليس كمحاولة تبذلها قوة مهيمنة متراجعة لاحتواء صعود منافس تزداد قدراته يوما بعد يوم.
مثال كاشف آخر هو “الاستراتيجية الصناعية الجديدة” في ألمانيا لعام 2030، إضافة إلى خطتها الاقتصادية التي أعلنت عنها مؤخرا لمواجهة عالم ما بعد كورونا. تتميز هذه الخطط بدعوات غير مسبوقة للحصول على إعانات من الدولة، ومشاركة مباشرة منها في الشركات، وإصلاح سياسات التنافس داخل الاتحاد الأوربي، وكل ذلك يبرره مخاوف من أن الشركات المتعثرة والأصول الاستراتيجية الأقل قيمة في ألمانيا وأوربا يمكن استهدافهما من قبل مستثمرين مفترسين من خارج أوربا ينتمون إلى معسكر رأسمالية الدولة.
ولا يمكن أن يفوت القارئ مدى المفارقات التي تنطوي عليها هذه السرديات، والتي تتمثل في التهديد المتصور بأن رأسمالية الدولة في الشرق يتمخض عنها رأسمالية الدولة في الغرب. إن التشكيك في شرعية المنافسين المنتمين إلى رأسمالية الدولة، وبالتحديد الصين، يبرر تدخل الدولة وفرض سياسات الحماية محليا. وكما أشرنا في موضع آخر قد نكون جميعا الآن تابعين لمعسكر رأسمالية الدولة.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا