كل الذين ربطتهم بالأدب العربي رابطة، عرفت أيديهم الطرق على باب شقة تقع في البناية رقم ثلاثة بشارع مصدق بحي الدقي بمحافظة الجيزة ، حيث كان يعيش العالم الجليل الدكتور الطاهر أحمد مكي محمد سلطان.
أجمع الذين تشرفوا بزيارته بأن هو الذي كان يفتح لهم الباب ويقف في شرف استقبالهم ويأخذ بيد الواحد منهم لا يتركها إلا بعد أن يختار الضيف مكان جلوسه، ولم يكن ينادي زائره إلا مسبوقًا بلقب ” ولدي “.
تأكلني الحسرة الآن لأني لم أتشرف بالمثول بين يديه ، كانت مهابته تمنعني من اقتحامه ،ومن العجيب أنهم قالوا في وصفه : إنه لم يكن يرد زائرًا وكان ألين من الماء وأرق من النسيم مع ضيوفه!
عربي عريق
في اليوم السابع من أبريل من العام 1924 ولد الطاهر منتسبًا لأسرة من عرب المطاعنة تسكن محافظة قنا بصعيد مصر ، والمطاعنة قبيلة عربية عريقة ، غادرت جزيرة العرب أثناء الرحلة الهلاليّة إلى تونس، ثمّ عندما انتهت رحلة بني هلال عادت المطاعنة ولكنها فضلت الاستقرار في صعيد مصر .وقد حافظت القبيلة على عاداتها العربية وعلى رأسها نطق العربية الفصحى، وقد تشرّب قلب الطاهر الفصحى من أفواه أبناء قبيلته.
طفولة الطاهر كانت كطفولة معظم أبناء جيله ، قاسية خشنة ، فعن مجال التعليم يقول مؤرخو حياة الطاهر: إن قرية الطاهر التي تدعى كيمان المطاعنة وهى من قرى مدينة إسنا بمحافظة قنا ، لم تكن بها مدرسة واحدة ، وحدث أن زار سعد باشا زغلول تلك النواحي في عام مولد الطاهر 1924وكانت كيمان المطاعنة حريصة على أن ينزل بها زعيم الأمة ، ولكن ما سيكون مبرر قيام الزعيم بزيارة تلك القرية المنسية ؟.
سعد باشا زغلول
قرروا إقامة مدرسة على عجل لتكون تبريرًا معقولًا لزيارة صاحب المعالي فكانت تلك المدرسة هى الأولى في تاريخ كيمان المطاعنة !
أسرة الطاهر لم تلتفت لتك المدرسة ودفعت بولدها إلى الكُتّاب فحفظ القرآن الكريم كاملًا وختمه وهو ابن تسع سنوات .
بعد ختمه للقرآن لم يكن أمامه سوى الأزهر الشريف فالتحق به وحصل منه على الشهادة الابتدائية، وتلك كانت كافية لأن يصبح موظفًا مرموقًا.
كُتّاب أرشيفيه
أثناء دراسة الطاهر في المعهد الأزهري الابتدائي، كانت تصل إلى قريته من بين مئات المطبوعات نسختان فقط واحدة من الأهرام والأخرى من مجلة الرسالة، كان طاهر يقرأ النسختين ثم يعيد القراءة لمن يريد من أبناء قريته. تلك الحصيلة ستكون خير معين للطاهر في قادم أيامه.
يروي لنا الباحث الأستاذ ممدوح فرج النابي ما وقع للطاهر بعد حصوله على الابتدائية الأزهرية فيقول:” حرام أن تَبقى في هذه المدينة. أنت مكانك في القاهرة” هكذا نطق الشّيخ محمد كمال عجلان الأستاذ بالمعهد الديني بمحافظة قنا، مبديا إعجابه بتلميذه الطاهر أحمد مكي آنذاك، وبجودة عباراته وصقل لغته في موضوعات الإنشاء التي يكتبها”.
ممدوح فرج النابي
تغريبة القاهرة
سمع الطاهر وصية شيخه وشد الرحال إلى القاهرة ، حيث العلم والغربة ، حصل على الثانوية ليلتحق بكلية دار العلوم وكانت المنافس الأول للأزهر في تدريس علوم اللغة والأدب ، أثناء دراسته عرف الطاهر الطريق إلى الصحافة .
يقول مؤرخو حياته: إنه عمل محررًا لإحدى الصحف التي يمتلكها تاجر شاي يروِّج لبضاعته، ثم انتقل بعد ذلك ليعمل مصحّحًا في مجلة “الغرفة التجارية” وكانت البداية لاستقلاله الماديّ حيث كان يُصحِّح مقالاتها مُقابل خمسة جنيهات وكانت الخمسة جنيهات مبلغا خرافيًا في ذلك الوقت ، وقد تعرف في هذه الفترة على الزجال الشهير محمد مصطفى حمام الذي كان قريبًا من النحاس باشا وفؤاد باشا سراج الدين، فعرض على الطاهر أنْ يعمل مصحّحًا في مجلة “النداء” الأسبوعيّة التي أصدرها واحد من آل سراج الدين.
ثم بدأ الكتابة في جريدة «الكتلة» لمكرم عبيد باشا، وكذلك “الزمان”. وعندما رسخت كتابته راح ينشر في الأهرام.
(لاحظ أننا نتحدث عن طالب، ولكن هكذا كانت همة طلاب ذلك الزمان).
الكتابة في جرائد تنتمي لحزب الوفد لم تجعل الطاهر وفديًا، لقد كان في تلك المرحلة من عمره قريبًا جدًا من جماعة الإخوان!
وأصل القصة أن مؤسس الجماعة حسن البنا قد زار قنا ونزل ضيفا على قبيلة الطاهر وكان ذلك في العام 1938، ويومها عرف الطاهر البنا ، وعندما سكن الطاهر القاهرة صاحب البنا وأصبح وثيق الصلة به ، وظلت علاقته متينة بالبنا حتى العام 1944 ثم لا يعرف أحد ماذا وقع بين الجماعة والطاهر حتى أنه تركها مرة واحدة وإلى الأبد منتسبًا إلى أقصى اليسار.
الباقي من تلك العلاقة هو مقال أقرب للدراسة كتبه الطاهر عن البنا ونشره في الثمانينات ، ويومها هز المقال الجماعة هزة عنيفة .
مغامرة حدتو
مر بك أن الطاهر أزهري المنشأ حافظ للقرآن الكريم كله ، درعمي ( خريج دار العلوم ) ، يكتب في صحف الوفد ، قريب من جماعة الإخوان ،وصاحب لمؤسسها ، فما الذي جعله ينخرط في صفوف تنظيم ماركسي هو تنظيم حدتو الشهير؟.
المحامي زكي مراد احد اكبر قيادات حدتو مع المناضل نبيل الهلالي
أظن أن الشاب كان يبحث عن مظلة سياسية ينادي من تحتها بالعدالة الاجتماعية وبالتحرر من الاحتلال الإنجليزي ، -وقد خاب أمله في جماعة الإخوان – فذهب إلى أقصى اليسار عضوًا في تنظيم حدتو ، وظل فاعلًا بالتنظيم إلى أن وقعت نكبة فلسطين في العام 1948 ، فيومها كان تنظيم حدتو يرى أن للصهاينة حق إعلان دولتهم ، بينما يرى الطاهر أن الصهاينة هم جماعة عنصرية تغتصب حقوق الفلسطينيين ، وعلى خلفية هذا الخلاف ، طلق الطاهر التنظيمات السياسية طلاقًا بائنًا ، ولم يعرف عنه سوى انتسابه للعلم وللعلم فقط .
هنري كورييل مؤسس تنظيم حدتو
ولكن تركه للتنظيمات السياسية لم يحل بينه وبين الكتابة في الصحف والمجلات الكبرى مثل الأهرام والرسالة ، فهو كان دائمًا يحتاج لنشر رأيه في مختلف قضايا الشأن العام.
بالتزامن مع ثورة يوليو 1952 حصل الطاهر على شهادة دار العلوم بتقدير ممتاز.
ولأن عين العناية الإلهية لا تغفل ولا تنام فقد كافأت السماء الطاهر جزاء ما قدم من جهد في سبيل العلم ، يحكي الطاهر عن تلك اللحظة الفارقة من عمره فيقول :” في أحد الأيام كنت على المقهى أتصفح صحيفة «البلاغ» فقرأت إعلانا عن منحة من إسبانيا لدراسة اللغة الإسبانية فتقدمت لها، وحين ذهبت لاجتماع الترشح للسفر، وقرا على المستشار الإسباني في القاهرة أن شهادتي “ليسانس لغة عربية بدرجة ممتاز”، قال لي المستشار بلغة مكسرة: «مبروك أنت يروح»!
ما الذي جعل المستشار يوافق على المنحة لدارس العربية؟.
بل ما الذي جعل الطاهر الصعيدي الأزهري الدرعمي يسافر إلى إسبانيا لدراسة لغتها؟.
إنها الترتيبات (الإلهية ) التي تعلم مستقبل الطاهر وتعلم كيف سيتدفق علمه على أبناء أمته، فور عودته من البعثة.
جرح اسمه (نانا)
هل كان الطاهر يعرف لغة غير العربية قبل سفره ؟.
لا أظنه كان يعرف شيئًا ، ومثله في ذلك مثل الناقد الكبير الدكتور محمود الربيعي نائب رئيس مجمع اللغة العربية الذي سافر في أول شبابه إلى لندن للحصول على الدكتوراه ولم يعد إلا وقد نقل من الإنجليزية إلى العربية أحد أهم الكتب عن القصة القصيرة ، هؤلاء الأفذاذ كان للواحد منهم عزيمة قاطعة كالسيف.
في سنوات دراسته للدكتوراه عرف الطاهر سبع لغات ، وهي: الإسبانية، والبرتغالية، والفرنسية، والإيطالية، والإنجليزية، واللاتينية ، والقشتالية.
طبعًا إتقان تلك اللغات جاء بعد سنوات البعثة ، ولكن معرفته الأولية بها كان في سنوات دراسة الدكتوراه ، اللهم إلا الإسبانية التي أتقنها في فترة دراسته بإسبانيا .
حدث أثناء الدراسة أن لبى الطاهر نداء قلبه ، سيحكي هو عن تلك الفترة فيقول :” عشت قصة حب مع فتاة إسبانية، والدها كان مستنيرًا، ووافق وقال إن الحب لا يعرف الحدود، لكن أم الفتاة قالت: نحن أسرة متدينة!.
لا أنكر أنني قد تشاءمت، وعدت إلى القاهرة، وفي رأس السنة اتصلت بها لتهنئتها بالعام الجديد فأخبرتني والدتها بأنها دخلت الدير وأصبحت الراهبة السادسة في العائلة، ومن ثم انقطعت الصلة بيننا”.
الذي يعرف حياة الطاهر سيدرك أن الأمر لم يمر بسلام كما توحي اعترافات الطاهر به ، وذلك لأن القصة ظلت بداخل الطاهر كأنها الجرح الذي لا يندمل.
فقد ظهرت الراهبة في إهداءات بعض كتبه ، فمرة يكتب :” إلى نانا … إنها تعرف لماذا “.
ومرة يكتب :” إلى راهبة.. إلى قلب كبير.. وعقل ذكي.. وسعني ذات يوم.. حين ضاقت بي الدنيا”.
ثم بعد جرح نانا تعرض قلب الطاهر لجرح جديد ، قص هو قصته فقال :” تعرفت إلى فتاة فلسطينية من غزة وتقدمت لوالدها فوافق، وبعد خمس سنوات عندما جئنا لنكمل الزواج، قالت إنها ستذهب لتقابل والدتها في غزة ثم تعود، ولأن الأصدقاء الذين يعرفون الأمور نصحوني باصطحابها قبل سفرها إلى الشهر العقاري للعقد عليها، فالأجنبيات لا يحتجن إلى مأذون، فأخبرتها بذلك، لكنها سافرت ولم تعد؛ حيث ظهر لها ابن عم وتزوجها رغما عنها!”.
بعد هاتين القصتين نفض الطاهر يديه من الأمر كله ، فلم تظهر سيدة في حياته ولم يتزوج قط ، وأصبح راهبًا في محراب العلم ، لقد خسر هو حبيبتين وربحنا نحن عالمًا فذًا كان يمطر عارفيه بكريم أخلاقه.