نقلا عن: مجلة «أحوال مصرية»
العدد (77) – يوليو 2020
فرضت جائحة كورونا وما خلفته من آثار وتداعيات وخيمة على مناحي الحياة في العالم أجمع، أن يكون هناك نهج متكامل من جانب الدول للتفاعل مع تلك الجائحة. ونظرًا للأهمية التي يحتلها المكون الديني في العديد من الدول فقد كان للقائمين على الشأن الديني حضورًا بارز خلال تلك الجائحة. ولذا سعت المؤسسات الدينية بالتوزاي مع مجهودات الدولة المصرية لمواجهة جائحة كورونا إلى بلورة مقاربة دينية تتجاوز حدود النص إلى التفاعل الإجرائي عبر اتخاذ حزمة من الإجراءات الحاسمة كقرارات إغلاق المساجد وتعطيل صلاة الجمعة، والصلاة في الكنائس. والتي كانت لها اصداءها على الصعيد المجتمعي، بل وتلقف هذه القرارات عدد من الدعاة الدينيين المتشددين لإضفاء مزيد من الاستقطاب المجتمعي حول الخطاب الديني الصادر عن المؤسسات الدينية وإضعاف درجة موثوقيته لدى العامة.
وفي سبيل ذلك ساق هؤلاء الدعاة خطاب ديني رافض لتلك الإجراءات استنادًا لاستدعاء الخرافة تارة، والاستعلاء الإيماني بالعصمة من العدوى تارة أخرى. على نحو قاد إلى نشوء حالة جدلية في المجتمع حول الخطاب الديني، وعادت الدعوات إلى تجديد الخطاب الديني مرة أخرى إلى النقاش العام. ويسعى هذا المقال إلى بيان ملامح الخطاب الديني المتفاعل مع الجائحة، ودرجة تطوره خلال الأزمة. وبيان إلى أي مدى نجح في تشكيل درجة استجابة مجتمعية له، خاصة مع إعادة تصدر الدعوة إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني مرة أخرى. بالإضافة إلى تقييم الجانب التوعوي الذي لجأت إليه المؤسسات الدينية في مقارباتها للمواجهة وبيان إلى أي مدى نجح في تجاوز حالة الجمود المعرفي والإدراكي لتصورات الخطاب الديني في تفاعله مع الأزمات المجتمعية، وذلك عبر استخلاص الدروس المستفادة من الأزمة الراهنة.
أولاً: ملامح الخطاب الديني ودرجة تطوره خلال الجائحة
سعت المؤسسات الدينية الرسمية (الأزهر – دار الإفتاء – وزارة الأوقاف – الكنيسة) إلى التكيف مع سياسات الدولة لمواجهة الجائحة، وتعزيز حضور المكون الديني ضمن أطر المواجهة من خلال المساهمة في عملية رفع الوعي المجتمعي حول الجائحة. وجاء ذلك عبر بلورة مقاربة دينية ارتكزت إلى مستويين من التعامل الأول، إجرائي، والثاني، توعوي وتوجيهي.
فعلى المستوى الإجرائي، اتخذت المؤسسات الدينية حزمة من الإجراءات التي تتوافق مع السياسات الوقائية التي تتخذها الدولة، وكان من أبرزها، قرار إغلاق المساجد وتعطيل صلاة الجمعة، والصلاة في الكنائس. وقد عكس استصدار هذه القرارات درجة من التنسيق والتناغم بين المؤسسات الدينية فعلى الرغم من صلاحية الاختصاص القانوني لوزارة الأوقاف باتخاذ قرار إغلاق المساجد إلا أنها سعت إلى توفير الإطار الشرعي لاستصداره من خلال فتوى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف التي أجازت فيه إيقاف صلوات الجُمع والجماعات حمايةً للناس من الفيروس([1]). وقد فرضت وزارة الأوقاف إطارًا رقابيًا لضمان الالتزام بتطبيق هذه الإجراءات، وقامت بإنهاء خدمة عدد من مُقيمي الشعائر لمخالفتهم هذه الإجراءات.
ورغم أن هذه الإجراءات جاءت في فلسفتها متسقة مع إجراءات الوقاية التي اتخذتها المؤسسات الصحية من ناحية ضرورة التباعد الاجتماعي ومنع التجمعات. إلا أن كان لها اصداء مجتمعية سلبية أدت إلى نشوء حالة من الجدل المجتمعي حولها نظرًا لتلقف مجموعة من الدعاة الدينيين المتشددين لهذه الإجراءات وساقوا خطاب استقطابي رافض لتلك الإجراءات الوقائية استنادًا إلى تحفيز الحالة الشعورية بالاستعلاء الإيماني الكافي للوقاية من العدوى. ويعد مفهوم الاستعلاء بالإيمان أحد المنطلقات الفكرية التي تعتمد عليها التنظيمات المتطرفة ضمن دائرة التكفير التي تصوبها تجاه المجتمعات. وتقصد التنظيمات بذلك المفهوم بأنه هو تلك “الحالة الشعورية التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون نحو أنفسهم، وفي نظرتهم للآخرين، والتي تتسم بالعلو واليقين الذاتي وعدم الشعور بالضعف والخزي والحزن؛ لأنهم الأعلى، وعلى حق، وغيرهم باطل” وذلك بحسب طرح سيد قطب، أحد أبرز المنظريين الفكريين لجماعة الإخوان([2]).
وقد لجأ عدد من الدعاة الدينيين – ليس في الدين الإسلامي فقط وإنما في الديانات الأخرى – خلال تلك الجائحة إلى تحفيز تلك الحالة الشعورية لدى المواطنين في إطار مقاربة دينية سعوا من خلالها إلى التحايل على إجراءات الوقاية المفروضة من جانب الدولة، والتي تمنع التجمعات من خلال الصلوات الجماعية في دور العبادة والدروس الدينية، ومنع بعض العبادات التي قد تنشر العدوى([3]). وذلك بزعم عصمة الطائفة المؤمنة من العدوى موضع الابتلاء والعقاب الإلهي – وفقًا لتصوراتهم -. على سبيل المثال، اتجه أحد الدعاة بمحافظات الصعيد إلى القول بأن المؤمن مستحيل أن يصيبه فيروس كورونا لأنه “مؤمن وموحد بالله”([4]). كما ذهب أحد رموز التيار السلفي إلى الدفع بعدم الحاجة لغلق المساجد معلل ذلك “بأن الفيروس لا يصيب إلا الكفار”([5]). بينما أوضح أحد القادة الدينين الشيعيين وأحد أنصار مقتدى الصدر في العراق، بأن المسلمين المؤمنين لن يصابوا بفيروس كورونا([6]).
بينما نشأت حالة من الجدل داخل الكنيسة نتيجة رفض بعض القساوسة التدابير الاحترازية للوقاية من العدوى التي تم اتخاذها، وكان من أبرزها، تغيير طريقة طقس التناول بدلًا من التناول بالأدوات التي قد تنقل العدوى، كملعقة التناول، فقد قررت الكنيسة اللجوء إلى التناول باليد، وهي طريقة كانت تتبعها قديمًا. وقد أثار هذا الإجراء موجة من الرفض والاستهجان من جانب رجال الدين ومؤيديهم من المواطنين، حيث اعتبروا الأمر بمثابة ضعف إيمان وتشكيك في قداسة التناول. حيث أكد الأنبا تادرس، مطران بورسعيد والنائب البابوي لإيبارشية سيدني وتوابعها، إن “الكنيسة لن تقدم على أي تغيير يتعلق بسر التناول الذي هو حياة وشفاء للعالم”([7]). بينما أوضح الأنبا رافائيل، الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة، “أن سر التناول هو سر الحياة، وهو الشافي من مرض الخطية، وأمراض الجسد والنفس والروح”، مشددًا على “ضرورة الاقتراب إلى سر التناول بهيبة وليس بفحص علمي”([8]). أيضًا انسحبت حالة الرفض السابقة للإجراءات الوقائية المتخذة من جانب الدولة إلى الديانة اليهودية، حيث دعا الحاخام حاييم كانيفسكي، أحد كبار زعماء التيار الحريدي (المتدين) في إسرائيل، إلى “مخالفة تدابير مكافحة كورونا بشأن إغلاق المدارس الدينية والمعابد في إطار مواجهة تفشي الفيروس”([9]).
وقد تقاطع مع هذا الخطاب الاستعلائي ايضًا الخطاب الصادر عن التنظيمات المتطرفة، والتي حاولت توظيف الجائحة من أجل إثبات صحة ركائزها الفكرية التي تنطلق منها لتكفير المجتمعات، ومنها منطلق “الاستعلاء بالإيمان”. وبرز ذلك من خلال توظيف تنظيم داعش للجائحة وتحفيز هذا المنطلق لدى عناصره دافعًا عبر أحد مقالاته التي جاءت بعنوان “إن بطش ربك لشديد” الصادرة بمجلة النبأ التي يصدرها بشكل اسبوعي وتحديدًا العدد 220 مصورًا الجائحة بأنها عذاب شديد أراد الله أن يُهلك بها المشركين الصينيين – وفقًا لتصوراتهم – جزاءً لشركهم.
وبالنظر إلى عملية التوظيف التي يقوم بها الدعاة الدينيين، وكذا التنظيمات المتطرفة للجائحة من أجل تعزيز شعبيتهم في الأوساط الشعبية الرافضة لكل ما هو مقيد للشعائر الدينية حتى ولو كان في ذلك ضرر على حياتهم الواجب حفظها وفقًا للمقاصد الشرعية التي تؤكدها جميع الأديان. على نحو يُمكن تفسيره في إطار الأمية الدينية المتفشية بين المواطنين، والتي تجعلهم ينقادوا بالعاطفة الدينية المرتبطة بمعتقدات شعبية خاطئة أكثر من تمسكهم بالعقيدة الدينية الأصلية. فالكثير من المواطنين ربما لم يسع إلى البحث عن الأساس الشرعي الذي استند إليه الخطاب الديني الرسمي في صوغ قراره بتعليق الصلاة في المساجد. وتشكل لديهم حالة الرفض انطلاقًا من دافع العاطفة الدينية. وهو ما تستغله التيارات المتطرفة والشخصيات الدينية غير الرسمية من أجل تعزيز الاستقطاب المجتمعي حول الخطاب الديني الصادر عن المؤسسات الدينية الرسمية ودرجة موثوقيته.
وتجلى هذا الملمح بشكل واضح خلال الجائحة عبر استدعاء هؤلاء الدعاة لخطاب الخرافة باعتباره أحد مقاربات المعالجة، وذلك عبر اصباغ الروايات الشعبية الخرافية بصبغة دينية، على نحو تفاعل معه قطاع واسع من المواطنين. على سبيل المثال، ذهب البعض إلى القول بأن من يجد “شعرة في المصحف في سورة البقرة يضعها في الماء ويشربها فهي شفاء من فيروس كورونا”([10]). بينما اتجه بعض القساوسة في أحد الكنائس اللبنانية إلى القول بأن “الوقاية من فيروس كورونا هو مخطط شيطانيًا”([11]). في حين ذهب أحد الحاخامات اليهود إلى “توزيع المشروب الكحولي “كورونا” على المؤمنين، طالبا منهم احتسائها والدعاء إلى الله أن يحد من انتشار الوباء”([12]).
ويفسر علماء الانثروبولوجي الاستجابة المجتمعية لهذه الخطابات القائمة على الخرافة وتمسك الناس بها على حساب التعليم والتوجيهات الدينية الشرعية إلى صعوبة الإطار العقيدي وثباته، حيث “يفضّل المؤمنون التخفّف من الإطار العقائدي الراسخ، في مقابل ما هو مواهبيّ وخارق وخارج عن القانون، ما يجعلهم أكثر قدرة على التحكّم به، لإرضاء حاجة نفسيّة عميقة لديهم، فنجدهم يقبّلون الجدران، أو يشربون المياه من التراب، وربما يرون في الشروح الدينية العقلانية خلخلة لإيمانهم، وربما يخاف بعضهم من التذاكي على الله، إن تعلّموا أو تعمّقوا في ديانتهم أكثر”([13]).
وارتباطًا بتلك الملامح اتجهت المؤسسات الدينية خلال الجائحة إلى تعزيز الخطاب الديني برؤى تدحض تلك التصورات، وذلك من خلال المستوى التوعوي والتوجيهي، حيث لجأت المؤسسات الدينية إلى توظيف أدواتها من أجل متابعة ورصد تلك الخطابات والرد عليها، وذلك من خلال ركائز الخطاب التالية:
تعزيز الخطاب الإفتائي
احتل الجانب الافتائي مساحة رئيسة في الخطاب الديني منذ بدء الجائحة، وذلك في محاولة لتأطير الأزمة بإطار ديني يُسهم في تكييف ممارسة الشعائر الدينية وفقًا لإجراءات الوقاية المتبعة، وعلى النحو الذي يتوافق مع ما أقره الشرع في حالة وقوع وباء أو جائحة، في إطار ما يُعرف اصطلاحًا بـ “فقه النوازل”. ومن ناحية أخرى، استهدف هذا الخطاب تنظيم الجانب السلوكي للأفراد وتفاعلاتها في التعامل مع الجائحة. حيث اتجهت كل من دار الإفتاء والأزهر الشريف بإصدار الفتاوى التي استفسر حولها المواطنين بشأن أداء العبادات، وكذا توضيح أحكام الشرع في المخالفين لإجراءات الوقاية والحظر المفروضة، بالإضافة الاستفسار حول التعامل الشرعي مع حالات وفاة كورونا خاصة في ظل إجراءات الوقاية التي أعاقت اتمام بعض الشعائر الواجب اتباعها في الظروف العادية لاتمام دفن الموتي وفقًا لما أقره الشرع.
ونظرًا لتزامن تلك الجائحة مع شهر رمضان الذي يُطلق عليه “شهر العبادات” فقد زادت مساحة الفتوى، وكان لتلك الجائحة أثرها في اتجاهات الفتاوى الخاصة بالصيام والعبادات خلال شهر رمضان. ووفقًا للمؤشر العالمي للفتوى (GFI) التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، فقد قُدرت نسبة الفتاوى التي نُشرت خلال شهر إبريل الماضي حول فتاوى الصيام والعبادات المرتبطة به ما يقرب من (30%) من إجمالي الفتاوى الصادرة عالميًّا، وانقسمت إلى فتاوى معاد نشرها بنسبة (65%)، وفتاوى صادرة حديثًا بنسبة (35%). ودارت الفتاوى الصادرة حديثًا حول 4 موضوعات رئيسية، أولها صيام المصابين بكورونا وغير المصابين وصيام الكوادر الطبية بنسبة (38%)، يليها صلاة التراويح وكيفية أدائها وحكم الاقتداء بالإمام عبر التلفاز أو الإنترنت بنسبة (30%)، وجاءت الفتاوى المتعلقة بتعجيل زكاة الفطر وإخراج الصدقات بنسبة (20%)، فيما جاءت الفتاوى المتعلقة بكيفية صلة الأرحام وحكم التجمعات وإقامة الموائد بنسبة (12%)([14]).
أيضًا حاولت المؤسسات الدينية رصد وتصحيح ما تروجه وتصدره الكيانات غير الرسمية من فتاوى عكست تأويلات لمضامين شرعية بشكل خاطئ وأخرى سعت إلى توظيف الجائحة في إطار سياسي عبر مساحة الفتوى. وقد أوضح المؤشر أن الفتاوى غير الرسمية شكلت نسبة (40%). وهو ما عمل المؤشر على تفنيده دون أن يلحقه بردود وفقًا لما جاء في بيان المركز الإعلامي بدار الإفتاء المصرية في أبريل الماضي([15]).
إضافة إلى ماسبق، لوحظ وجود محاولات مقترحة من جانب دار الإفتاء المصرية إلى تخطيط دراسات جديدة لتطوير صناعة الفتوى في المساحات المعرفية الجديدة التي كشفت عنها جائحة كورونا. على سبيل المثال، اقترح العدد الرابع من نشرة “دعم” الصادرة عن مركز “دعم البحث الإفتائي” التابع للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، تطوير دراسة حول “مناهج ونظم مؤسسات الفتوى في أوقات الجوائح”. بينما اقترح العدد الثالث من ذات النشرة دراسة حول “المعارف الطبية وأثرها في صناعة الفتوى المعاصرة بين مخاطر الإهمال وضوابط الاعتماد”،
إطلاق حملات للتوعية
سعت المؤسسات الدينية إلى زيادة فعالية خطابها التوعوي وإضفاء الطابع التنظيمي عليه، وذلك من خلال تدشين عدد من حملات التوعية من أجل ضمان تأثيرها في تشكيل الوعي المجتمعي حول الظواهر السلبية التي كشفت عنها الجائحة. على سبيل المثال، دشن مرصد الأزهر حملتي بعنوان “خذو حذركم” و”أذن واعية”، التي أطلقهما بـ 12 لغة، وذلك على منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي. وارتكزت رسائل هذه الحملات على تعزيز وعي الأفراد في التعامل مع المعلومات المتداولة حول الجائحة وتفنيدها، وتوعيتهم كذلك بالواجبات المفروضة عليهم وقت الأزمات. بالإضافة إلى رفع درجة وعي الأفراد في التعامل مع السلبيات التي نتجت عن الجائحة مثل سلوكيات التنمر على المصابين، ورفض دفن المتوفين إثر الإصابة بالفيروس، إلى جانب تعزيز البعد القيمي الديني لدى الأفراد مثل تحريم السخرية والتذكير بتكريم الأديان للنفس البشرية حية وميتة.
وارتباطًا بذلك التوجه، أطلق أيضًا مجمع البحوث الإسلامية حملة توعوية موسعة بعنوان “صحتك أمانة..حافظ عليها”، وذلك على مستوى قرى ومدن ومحافظات الجمهورية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، بمشاركة عدد من الوعاظ والواعظات بالأزهر الشريف. واستهدفت الحملة تعزيز الجانب الثقافي والمعرفي لدى المواطنين في مختلف المجالات الحياتية. كما أطلق أطلق مركزُ الأزهر العالمي للفتوىٰ الإلكترونية حملة توعوية بعنوان “وقاية”، للتوعية بمخاطر الأمراض المعدية والأوبئة، التي تهدد المجتمعات والأفراد، وطرق الوقاية منها.
عالمية الخطاب
عمد الخطاب الديني الصادر عن المؤسسات الدينية خلال الجائحة إلى توسيع دائرة الاستهداف من النطاق المحلي إلى العالمي وإضفاء البعد الإنساني العالمي المتجاوز للتباينات المذهبية والثقافية والعرقية وغيرها على خطابها. وتجلى ذلك من خلال عدة ملامح، من أبرزها، دعم شيخ الأزهر لمبادرة “الصلاة من أجل الإنسانية” التي أطلقتها “اللجنة العليا للأخوة الإنسانية”، بل قامت المنظمة العالمية لخريجي الأزهر الشريف بإطلاق أغنية بعنوان “ربنا هو الرحيم”.
أيضًا حرصت المؤسسات الدينية عبر أدواتها المختلفة على تعزيز درجة انتشار ووصول مقاربتها الدينية في التعامل مع الجائحة على المستوى الدولي، وجاء ذلك من خلال تعزيز ترجمات إصداراتها إلى العديد من لغات العالم. على سبيل المثال، نشر مرصد الأزهر 14 مقالًا وتقريرًا باللغات الأجنبية المختلفة، تناول فيها دور القادة الدينين في أوقات الأزمات، والصيام في ظل كورونا، وصلاة الجنائز، وأثر الجائحة على المسلمين في البلاد المختلفة. كما قامت وحدات المرصد بنشر حوالي 20 خبرًا باللغات الأجنبية تناولت فيها الجانب الإنساني في الإسلام وقت الأزمات، ومتابعات لبعض القضايا التي ظهرت في تلك الفترة مثل شائعات حرق الجثث وقضايا التمييز العنصري ودعوات جماعات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة لنشر العدوى بين ذوات البشرة السوداء، بالإضافة إلى التحذير من انتشار فيروس كورونا وسط اللاجئين فى البلدان التى بها مخيمات للاجئين. إضافة إلى ماسبق، اتجهت ايضًا الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم إلى توجيه خطابات إلى المسلمين في عموم الأرض بضرورة الالتزام بالقرارات الاحترازية وبذل المعروف للمسلم وغير المسلم. كما نبه مؤشر الفتوى العالمي إلى استغلال خطابات اليمين المتطرف جائحة “كورونا” في رفع معدلات الإسلاموفوبيا في الغرب.
شمولية الخطاب لأبعاد الأزمة المختلفة
فرضت تطورات الجائحة من ناحية وتيرة التداعيات المتسارعة لها درجة من تكيف الخطاب الديني مع تلك التطورات، فعلى الرغم من نمطية الخطاب في جانبه التوعوي في بداية الجائحة حيث جاء محمل بمضامين تقليدية ارتبطت بالنقل من التراث فيما يتعلق بفقه النوازل دون أن يتجاوز ذلك إلى محاولة تأطير الأزمة بخطاب ديني يشملها في ابعادها المختلفة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. إلا أنه سرعان ما تكيف مع ما فرضته الجائحة من تداعيات اقتصادية ومجتمعية وخيمة حيث قامت المؤسسات الدينية باستصدار بيانات حول بعض الوقائع التي شاهدناها في الفترة الماضية كواقعة رفض إحدى القرى دفن طبيبة توفيت إثر اصابتها بفيروس كورونا.
أيضًا قامت المؤسسات الدينية بتطويع مضامين الخطاب الديني للحديث حول تداعيات الأزمة وآثارها الاقتصادية على المواطنين والدولة. ومن ثم، الحث على أهمية الجانب التكافلي من جانب المواطنين خاصة في ممارسة أحد الفروض الشرعية الواجبة في شهر رمضان وهي فريضة الزكاة حيث حثت المواطنين على أهمية توجيه الزكاة لمحدودي الدخل من العمالة الموسمية غير المنتظمة، وشراء وسائل الوقاية من الوباء للفقراء. بل وقد ذهبت دار الإفتاء إلى إصدار فتوى بجواز إعطاء الزكاة والصدقة لغير المسلمين من المواطنين المحتاجين إلى العلاج أو الوقاية من عدوى كورونا.
بالإضافة إلى توجيه الدعوة لكل من عزم على عمل عمرة بالتصدق بثمنها على المتضررين من فيروس كورونا، وتم اطلاق حملة بعنوان “كأني اعتمرت والصدقة أولى”، إلى جانب الحث على دعم جهود الدولة في تجاوز تلك الأزمة.
كما شمل الخطاب الديني في مقاربته للتفاعل مع الجائحة أبعادًا اجتماعية أخرى، تمثلت في مواجهة بعض المظاهر السلوكية السلبية التي قام بها البعض عبر استغلال الجائحة من أجل التربح من خلال منع المستلزمات الطبية اللازمة للوقاية بقصد الاحتكار، ومن ثم رفع اسعارها، وهو ما استوجب أن تحذر دار الإفتاء من هذا السلوك والتأكيد على عدم جوازه من الناحية الشرعية.
ثانيًا: الدروس المستفادة
كشفت ملامح الخطاب الديني ومقاربات التعامل التي لجأ إليها القائمون على الشأن الديني في التفاعل مع جائحة كورونا عن درجة من التطور والمرونة في التكيف مع أبعاد الأزمة وفقًا لمقتضيات الحاجة المجتمعية للإرشادات الدينية في مثل تلك الأزمات. بالإضافة إلى المرونة الكبيرة في تطويع إمكانات وأدوات بعض المؤسسات الدينية لتطوير دورها ليتجاوز الإطار التقليدي لهذا الدور في المساحة الدينية إلى دعم جهود الدولة في إجراءات الوقاية بشكل مباشر، وتجلى ذلك عبر إعلان وزارة الأوقاف من خلال المجموعة الوطنية لاستثمارات الأوقاف، البدء في إنتاج الكمامات القطنية، بالإضافة إلى تدشين الخط الأول لإنتاج كبائن تعقيم المساجد بطاقة تقدر بنحو 100 وحدة شهريا.
على الرغم من هذه الجوانب الإيجابية، فقد كشفت الجائحة من ناحية أخرى عن تراجع درجة موثوقية المواطنين في الخطاب الديني الصادر عن المؤسسات الرسمية، وقد يعود ذلك في جانب منه إلى حالة التوظيف السياسي للخطاب الديني التي لجأت إليها بعض الكيانات والشخصيات الدينية غير الرسمية لتحقيق أغراض سياسية وتعزيز حضورها لدى الأوساط الشعبية على نحو أوجد درجة من الاستقطاب حول الطروحات الدينية الرسمية بشكل عزز من انعدام ثقة فئة كبيرة من الشباب في ذلك الخطاب واتجهوا في المقابل إلى خطابات التطرف الديني واللاديني. وهو ما استغلته التيارات الفكرية المختلفة سواء التيارات المتطرفة عبر التسويق لمنطلقاتها الفكرية كالاستعلاء الإيماني أو تيارات التطرف اللاديني (الإلحادية)، والتسويق لفشل الإطار الديني في التفاعل مع الجائحة.
أيضًا غاب عن المقاربة الدينية الطرح العميق حول العديد من المسائل الفقهية التي أثرت عليها الجائحة ولم تُستغل الجائحة باعتبارها فرصة لتعميق المعرفة الدينية. ومن ثم، كان من الأوقع الانطلاق من أرضية الظروف التي فرضتها الجائحة لبلورة طرح جاد وعميق حول مسائل الاجتهاد الفقهي فيما يتعلق بالجائحة ومرحلة ما بعدها.
وعليه، يتوقع أن يتم بالتوزاي مع تلك الجهود القيام ببعض التحسينات المرحلية لأدوات الخطاب الديني، والتي كشفت جائحة كورونا عن قصورها، وذلك من خلال النقاط التالية:
زيادة عملية تطوير الأدوات التكنولوجية للوحدات المؤسسية التابعة للمؤسسات الدينية الرسمية على النحو الذي يضمن حضور الخطاب الديني الرسمي بشكل فعّال في فضاء التواصل الاجتماعي ومنصاته المختلفة، والتي كشفت عن أهميتها الجائحة، وأبانت كيف لعب هذا الفضاء المفتوح دور في تعزيز سيطرة وحضور العشوائيات الدينية من أشخاص وكيانات دينية غير رسمية ونفاذ افكارها إلى المجتمع من خلالها.
العمل على تأهيل القائمين على الشأن الديني من الناحية المعرفية بالعلوم المعرفية المختلفة، بالإضافة إلى ثقل مهاراتهم في التواصل التكنولوجي، وتطوير قوالب جديدة لطرح الرؤى الشرعية بشكل يتناغم مع وسائل العرض الحديثة للمحتوى.
تعزيز الانتاج المعرفي الديني حول الأزمات المجتمعية وكيفية إدارة الأنماط السلوكية لتفاعل المواطنين خلال الأزمات. وذلك في قالب يتجاوز النقل التراثي النصي إلى إحياء النص التراثي بما يتوافق مع مقتضيات الواقع الراهن وفقًا للمتغير الزمكاني.
وهكذا، تبدو أهمية الإسراع في عمليات تطوير الخطاب للحاق بمرحلة ما بعد جائحة كورونا بخطاب ديني معاصر يتوافق مع طبيعة تلك المرحلة التي ستكونُ فاصلاً مهمًا في حياة الشعوب من الناحية الدينيَّة. حيث سيسعي الغالبية من البشر إلى البحث عن ما يُعيد إليهم الأمل، ويُحفِّزهم على العودة إلى دائرة النشاط اليومي والأعمال الحياتية بعد هذا الرُّكُود، ومحاولة ملء الفراغ الروحيَّ لديهم بعد أن فَقَدوا الكثير من أحبائهم بجائحة “كورونا”، وذلك عبر مساحة الدين. ولن يتأتى ذلك بدون إجراءات جادة للتطوير والتجديد في شكل وأدوات الخطاب الديني.
المراجع
[1] هيئة كبار العلماء تجيز إيقاف صلاة الجمعة.. ننشر نص البيان، بوابة الأهرام، بتاريخ 15 مارس 2020. انظر:
http://gate.ahram.org.eg/News/2384235.aspx
[2] علي عطا، من العائلة إلى «الجماعة».. لماذا تتفشى ثقافة الاستعلاء كالوباء؟، أصوات اونلاين، بتاريخ 19 أبريل 2020. انظر:
[3] تمام أبو الخير، بين الجمود والتجديد.. كورونا وضرورة تغيّر الخطاب الديني، نون بوست، بتاريخ 27 مارس 2020. انظر:
https://www.noonpost.com/content/36469
[4] شيوخ وقساوسة يعادون كورونا، وكالة روسيا اليوم، بتاريخ 22 مارس 2020. انظر:
[5] “السلفيين ميكس.. كل حاجة والعكس”.. فيروس كورونا يفضح قيادات التيار.. قيادى بـ”النور”: الوباء لا يصيب إلا الكفار.. ثم يصاب به.. وبرهامى فى فبراير يفتى: عذاب من الله للصين، اليوم السابع، بتاريخ 26 مايو 2020. انظر:
انظر ايضًا:
“كورونا ابتلاء لا يصيب المؤمنين”.. معضلة التجارة بالأديان في زمن الوباء، صوت الأمة، بتاريخ 8 أبريل 2020. انظر:
[6] Raed Ahmed, The Religious Dimension of Iraq’s Coronavirus Response, The Washington Institute for Near East Policy, May 8, 2020. Retrieved From:
https://www.washingtoninstitute.org/fikraforum/view/Iraq-Coronavirus-Religion-Sunni-Shia
[7] إسحق إبراهيم، الكنيسة وجائحة كورونا: أُغلقت الأبواب ولكن ظهرت التشققات، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بتاريخ 14 أبريل 2020. انظر:
[8] إنجي مجدي، “كورونا” يعيد الكنيسة إلى صراع تاريخي بين العلم والإيمان، إندبندنت عربية، بتاريخ 10 مارس 2020. انظر:
[9] إسرائيل.. كيف ساهم “الحريديم” في تفشي كورونا؟، وكالة الأناضول، بتاريخ 31 مارس 2020. انظر:
[10] خرافة أم حقيقة.. من وجد شعرة في سورة البقرة وشربها بماء تشفي من كورونا.. الإفتاء تحسم الجدل، صدى البلد، بتاريخ 23 مارس 2020. انظر:
https://www.elbalad.news/4228062
انظر ايضًا:
بعد انتشار كورونا.. الإفتاء: العض على هذا الأمر بالأضراس ينجيك من المهالك، صدى البلد، بتاريخ 17 مارس 2020. انظر:
https://www.elbalad.news/4216920
[11] المرجع السابق.
[12] توزيع “كورونا” و”ظهور المسيح”.. حاخامات يواجهون الفيروس بوسائل غريبة في إسرائيل، الحرة، بتاريخ 9 مارس 2020. انظر:
[13] سناء الخوري، العبادة في زمن الكورونا: لماذا لا يصدّق المؤمنون أنّهم عرضة للعدوى؟، بي بي سي عربي، بتاريخ 10 مارس 2020. انظر:
https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-51805095
[14] “المؤشر العالمي للفتوى” يعقد مقارنة بين فتاوى المؤسسات الدينية وفتاوى التيارات المتطرفة في العالم .. ويجيب عن كيفية تأثر الفتاوى الرمضانية بجائحة كورونا، بوابة دار الإفتاء المصرية، بتاريخ 27 أبريل 2020. انظر:
https://www.dar-alifta.org/ar/Viewstatement.aspx?sec=media&ID=7106&
[15] المرجع السابق.