ثقافة

الحب في المنفى.. وثيقة بهاء طاهر التي تحكينا (1-3)

الرواية رصدت بتمكن الوقائع الحزينة التي صاحبت الغزو الإسرائيلي للبنان

هذه رواية بديعة ومُثيرة ومؤثرة، ومن فرط جمالها وما تحمله من إبداع مدهش ودقة في السرد وصدق في الانتماء وجدت نفسي قارئاً لها أكثر من مرة!

كانت المرة الأولى فور صدورها في عام 1995 ضمن سلسلة “روايات الهلال” هذه الدار المصرية العريقة، أما المرة الثانية والثالثة لقراءة هذه الرواية الرائعة هي فكانت خلال الأيام الراهنة، وبالتحديد في شهر ديسمبر من العام الماضي، لم يفصل بين القراءتين سوى بضعة أيام، وكان دافعي لذلك أولا: هو التيقن من بعض الوقائع، ورغبتي في قياسها أو مُضاهاتها بأحداث سياسية خطيرة وردت في نص الرواية مثل الإنقلاب العسكري الدموي في شيلي بأمريكا الجنوبية، الذي قاده الجنرال ” بينوشيه ” في خريف عام 1973 ضد سلطة وحكومة الرئيس المنتخب ” سلڤادور الليندي ” الذي مات مقتولاً عندما قصفت طائرات الجيش القصر الرئاسي، وخلال وقوفه في شرفة القصر مُخاطباً الآلاف من شعبه، فمات ومات معه المئات!!

الانقلاب العسكري في تشيلي عام 1973
الانقلاب العسكري في تشيلي عام 1973

وثانيا: التدقيق في تلك الوقائع التي صاحبت انقلاب الرئيس السادات على نهج سلفه الكبير بالإطاحة بعدد من رجال ومعاوني الرئيس جمال عبدالناصر في مايو 1971 والتي يصفها الكثير من الوطنيين المصريين بإنقلاب مايو، فيما يصفها إعلام  السادات بـ”ثورة التصحيح”!

أما الحدث الأبرز والأخطر والذي توقف عنده الأستاذ ” بهاء طاهر ” طويلاً، فهي تلك الوقائع الدموية والحزينة والقاتلة التي صاحبت الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف عام 1982، والتي ضربت مصداقية الحكومات العربية وكرامتها في مقتل !

فقد تم تدمير عشرات من المدن اللبنانية وسحق المئات من القرى، والقضاء على مؤسسات تلك الدولة العربية المُسالمة، وقتل عشرات الآلاف من مواطنيها ومن الفلسطينين المقيمين عَلى أرضها منذ العام ٤٨، دون أن تحرك الحكومات العربية وزعمائها ساكناً!

الغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢
الغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢

فالقنابل وقاذفات الصواريخ والغارات الجوية الإسرائيلية لم تفرق بين لبناني وفلسطيني أو أي مواطن عربي شاء حظه العاثر أن يكون زائراً أو سائحاً أو مُقيماً، فتلك الحرب المجنونة استمرت أكثر من مائة يوم، بغرض الانتقام من لبنان الذي كان يحتضن المقاومة الفلسطينية آنذاك، وبتهمة كاذبة وهي محاولة  اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن على أيدي عناصر عربية، فقد بدأت الحرب غداة تلك الأكذوبة، فقد شُنت في الثاني من يونية، واستمرت إلى نهاية سبتمبر من العام ١٩٨١، والتي انتهت بمذبحة مخيمي “صبرا وشاتيلا” بضواحي العاصمة بيروت، تلك المذبحة التي فاقت في دمويتها ووحشيتها كل جرئم النازية الهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية!!

هذه الوقائع الخطيرة والتي تناولها “بهاء طاهر” باقتدار في روايته الرائعة، والتي يمكن وصفها بأنها أقرب إلى الوثيقة التاريخية ، امتدت على طول مساحة زمنية تزيد عن عشر سنوات، بدأت مع مايو 1971 في مصر، وانتهت في خريف عام ١٩٨٢في لبنان، مروراً  بمأساة سقوط “سلڤادور الليندي” في شيلي في نهاية 1973

من هنا أعتبر تلك الراوية وثيقة تاريخية أخذت شكلاً إبداعياً، تحكي عن جيل ووطن وعالم امتدت أحداثه لأكثر من عشر سنوات، واتسعت فشملت دولاً وشخصيات وعواصم كبرى ومناطق وقارات شملت أمريكا اللاتينية وقلب أوروبا حيث كان يقيم المؤلف، فضلاً عن الشرق الأوسط بكل تعقيداته وزعمائه وحروبه وضحاياها!

سلڤادور الليندي أثناء هجوم المتمردين على القصر الرئاسي ورفضه الهرب أو الاستسلام
سلڤادور الليندي أثناء هجوم المتمردين على القصر الرئاسي ورفضه الهرب أو الاستسلام

ولذلك حرص ” بهاء طاهر” في لفتة ذكية أن يؤكد مصداقية ما جاء في روايته البديعة من وقائع ، ففي الصفحة الأخيرة من روايته ” الحب في المنفى “رقم 249 ” وتحت عنوان ” كلمة ختامية ” أراد أن يقول بالنص:

” أن هذه الرواية أساسها الخيال، ولكن مع ذلك هناك أشياء حقيقية  منها تعذيب بيدرو ايبانيز ومصرع شقيقه فريدي في شيلي وهو ماورد في الفصل الأول من الرواية ، وكذلك شهادة المُمرضة النرويجية عما حدث في مخيم عين الحلوة ولبنان على نحو ماجاء في الفصل السادس، وكذلك ما ورد من وقائع حقيقية بمثل ما جاء على لسان صحفي أمريكي وناقد أدبي أوروبي عند الحديث عن المجزرة التي وقعت في مخيمي صبرا وشاتيلا خلال تلك الحرب الإجرامية الإسرائيلية في صيف عام 82 على لبنان، وهو ما جاء ذكره في الفصلين العاشر والحادي عشر.

هذا عن الرواية ،في خطوطها العامة، أو تحديداً عن إطارها الزمني والتاريخي ، فماذا عن المُبدع ” بهاء طاهر” وتلك الوقائع الإنسانية التي جاءت في روايته البديعة والرائعة والمُثيرة، والتي أعتقد أنها تجسد في الكثير من جوانبها بعضاً من السيرة الذاتية لمؤلفها، والذي عاصر بعضاً من تلك الوقائع وشاهدها وكتب عنها خلال سنوات عمله في المقر الأوروبي للأمم المتحدة في چنيف مابين عام 1981 حتى سنة عودته إلى مصر في نهاية عام 1995، وهو العام الذي اختتم فيه تلك الرواية الوثيقة، وهي السنوات التي جعلته مُفضلاً الجانب الإنساني منها عن ماوّردّ  فيها من وقائع قتل واغتيال وحرب وتعذيب، مُنحازاً الى تلك المشاعر الإنسانية التي جعلت من قصة حبه ل ” مرجريت شيفر ” تلك الفتاة النمساوية الباهرة الجمال، وتبلغ نصف عمره، عنواناً لقصة حب إنسانية مُتعددة الأبعاد والمشاعر والأحاسيس بل والتعقيدات، قصة ” حب في المنفى ” بين رجل في خريف العمر، وفتاة في ربيع العمر!

*المقال نقلا عن صفحة الأستاذ صلاح زكي أحمد على فيسبوك

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock