فن

«رامي» لا يمثلني

قبل اغتياله بفترة قصيرة نسبياً ألقى داعية الحقوق المدنية الأمريكي المسلم مالكولم اكس خطاباً عده بعض المؤرخين خطابه الأهم على الإطلاق، وهو الخطاب الذي بات معروفاً باسم “العبد المنزلي وعبد الحقل”.

انطلق اكس في خطابه من حقيقة تاريخية وهو أنه طيلة فترة تجارة الرقيق في الولايات المتحدة أي ما قبل عام ١٨٦٥ كان هناك نوعان من السود المستعبدين من قبل البيض.

كان الأول هو العبد المسخر للعمل في الحقل وخاصة لجمع القطن، وكان يعاني أشد المعاناة من جشع ومعامله السيد الأبيض حيث كان يعمل من شروق الشمس وحتى مغيبها، وكان يتعرض للجلد في حال لم يفي بقدر معين من الحصاد، ولذا كان يبغض السيد الأبيض، ويسعى للثورة عليه أو في الحد الأدنى الفرار منه كلما واتته الفرصة.

في المقابل، كان هناك العبد الذي يقوم على خدمة السيد وأسرته في منزلهم، كان مجرد ابتعاد هذا العبد عن العمل في الحقل أمر يثير سعادته ويشعره بالتميز عن بني جلدته من السود، حتى وإن كانت إقامته في منزل السيد تقتصر على نومه في العلية وإن كان طعامه هو مخلفات السيد.

كان العبد المنزلي- وفقاً لاكس- يحب سيده الأبيض أكثر مما يحب ذاته أو رفاقه السود، وكيف لا وهو وفقاً لمنطقه الأعوج ولي نعمته الذي من عليه بوضعه في المنزل، ولذلك كان دائما يسعى للتشبه بالسيد وجمع نفسه به من خلال استخدام الجمع “نحن” بداع وبغير داع، والذي كان يبدو مضحكاً في بعض الأحيان مثل أن يقول العبد المنزلي لسيده “لدينا حقاً بيت جميل يا سيدي”.

 مشهد من فيلم جانجو الحر الذي جسد فيه الممثل صامويل آل جاكسون نموذج عبد المنزل

مشهد من فيلم جانجو الحر الذي جسد فيه الممثل صامويل آل جاكسون نموذج عبد المنزل

وأشار اكس إلى أن عقلية العبد المنزلي لاتزال قائمة بين السود الأمريكيين، وفي كثير من المستعمرات السابقة التي نالت استقلالها، وتظهر هذه العقلية لدى قسم من أبناء هذه البلدان حين يتحدثون بلغة المستعمر أو يسعون جاهدين لفصل أنفسهم عن بني وطنهم والتشبه بالبيض الذين احتلوا بلادهم ذات يوم.

تذكرت هذه الخطبة البليغة وأنا أشاهد المسلسل التلفزيوني “رامي” الذي كتبه وقام ببطولته الممثل الأمريكي ذو الأصول المصرية رامي يوسف، والذي قامت دعايته قبل العرض على فكرة مفادها أنه يقدم صورة أسرة مسلمة تعيش في الولايات المتحدة وما تواجهه من تحديات.

كانت الدعاية مغرية لمشاهد عربي مثلي لمتابعة المسلسل بشغف، خاصة وأني شاهدت بطل المسلسل من قبل خلال دراستي في الولايات المتحدة في عرض كوميدي وأثارت نكاته استحساني آنذاك.

لكن مع انتهاء الموسم الأول من المسلسل شعرت أن الدعاية كانت مضللة للغاية، إذ لم أشاهد إطلاقا ما يمت لثقافتي كمصري وعربي ومسلم بصلة، بل شاهدت محاوله بائسة من عدد من الممثلين العرب أو ذوي الأصول العربية لنيل الاستحسان الأمريكي ولو على حساب ثقافتهم الأصلية.

تداعى إلى ذهني ما ذكره اكس عن العبد المنزلي وأنا أشاهد رامي في الحلقة تلو الحلقة، يسمع الجمهور الأمريكي- الأبيض تحديداً- ما يريد سماعه، وهو أنه يحدوه شوق لا حدود لأن يكون مثلهم ولكن ديانته تمثل قيداً يمنعه من ذلك.

بل إن شخصية رامي نفسها تبدو متناقضة إلى حد بعيد، وهو التناقض الذي فسره صناع المسلسل بمنطق شديد السذاجة، وهو أنه يعاني من صراع داخلي بين رغبته في أن يكون ملتزماً بتعاليم دينه وبين أن يحيا كأمريكي.

يتبدى تهافت هذا المنطق من خلال الحقائق التاريخية، فكون المرء مسلماً معتزاً بعقيدته لا يتناقض إطلاقا مع كونه أمريكيا، إذ لم يشكل الإسلام عائقا أمام أسطورة الملاكمه محمد علي، أو لاعب كرة السلة كريم عبد الجبار، أو عضو مجلس الشيوخ الأمريكي كيث اليسون، فهذه النماذج استطاعت الاندماج في المجتمع الأمريكي الذي يحتفي بها حالياً، دون أن تقدم تنازلات فيما يتعلق بعقيدتها.

أما رامي فعلى العكس تماماً، يمارس الجنس في كافة الحلقات، بل لا تكاد تخلو حلقة من الموسم من مشهد يجمع رامي بفتاة ما في غرفه نومها، أما “الصراع” المزعوم فيتم التعبير عنه بسذاجة حين يرفض رامي المخدرات التي تقدمها له الفتاة التي يقيم علاقه معها.

كما أن حرص رامي على واجباته الدينية الذي تحدث عنه صناع المسلسل لا نرى له أي أثر في الأحداث بل أن رامي لا يتورع أن يترك صلاه التراويح في المسجد في شهر رمضان ليقيم علاقة مع سيده مسلمة متزوجة التقاها في المسجد!

ولا تعجب أن قدمت هذه السيدة على هذا النحو، فكل الشخصيات النسائية في المسلسل يتم إبرازها كنساء يعانين من كبت، وعلى استعداد تام للاستجابة لأي اغواء خارجي، فشقيقة رامي “دينا” التي لا تمانع في إقامة علاقة مع شاب أمريكي أبيض، ولا يمنعها من إتمام العلاقة مانع ديني أو ثقافي وإنما ببساطة إدراكها أن عشيقها الأمريكي لا يراها كأمريكية مثله، بل كعربية، وهو ما كانت تسعى للهروب منه دائما!

ووالدة رامي التي تعاني من إهمال زوجها تعمل كسائقة “اوبر” فتلتقي برجل فرنسي ينبهر من اتقانها التام للغته، وتبدو الأم (هيام عباس) على استعداد أيضا للاستجابة لإغواء هذا الرجل، ولا يمنعها- أيضا- أي اعتبارات أخلاقية، وإنما اكتشافها أن صديقها” الفرنسي متزوج.

هنا تجدر الإشارة إلى شخصية هامة وهي الخال نسيم (ليث نقلي)، وهو خال رامي الذي يمثل -بالنسبة له- كل ما لا يريد أن يكون عليه، فهو نهم أكول وفظ إلى أقصى حد، عنصري قح وبطبيعة الحال فهو، كما تريده الدعاية الأمريكية، كاره “للشواذ” جنسياً، ولكن المسلسل لا يرجع هذه الكراهية أو هذا الموقف من الشواذ إلى عقيده الخال نسيم، أو حتى إلى ذكوريته الفجة، وإنما يستعير مشهداً من فيلم “الجمال الأمريكي” للمخرج سام منديز ويرجع السبب إلى أن نسيم نفسه “شاذ”!

ولا تتحسن الأمور حين يزور رامي مصر في نهاية الموسم٫، حيث أن أقاربه المصريين شخصيات كاريكاتيرية إلى أبعد الحدود٫ فهم جشعون يتطلعون إلى ما جلبه معه من هدايا، وجهلة يتحدثون دون علم عن سياسة بلاده الخارجية انطلاقاً من نظرية المؤامرة التي يعتنقونها جميعاً.

الحقيقة أن مسلسل “رامي” الذي قدمه صناعه باعتباره محاولة لإنصاف العرب والمسلمين في بلاد العم سام، شوه صورتهم بأكثر مما فعلت هوليوود في أي من أفلامها، ولعله نموذج مثالي لاجتهاد العبد المنزلي في تشويه صورة ذاته وقومه لكي يرضي سيده الأبيض..

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock