كان نموذج العولقي، القائم على “افعل ذلك بنفسك” لممارسة الإرهاب على نطاق محلي من قبل فاعلين محليين فعالا من حيث التكلفة، وأكثر أمانا لتنظيم القاعدة، فالذئاب المنفردة التي تعمل بشكل مستقل في الحدائق الخلفية لا يمكن تحييدها بعمليات كبرى في الخارج، وعلاوة على ذلك كان من الصعب الكشف عن هوية هؤلاء الإرهابين المنفردين من خلال أدوات وتقنيات إنفاذ القانون محليا، أو جمع المعلومات الاستخباراتية خارجيا، فمن خلال الاستلهام وتلقي التوجيهات الفنية عبر التواصل عبر الإنترنت والمواد المنشورة، لم يكن هؤلاء الإرهابيون المحتملون بحاجة إلى قيادة مباشرة، أو تدريبات، أو دعم شخصي، أو حتى موارد مادية، ففي غياب القدرة على تصنيع المتفجرات، يمكنك شراء مسدس أو بندقية، وفي حالة عدم توافر هذه الأدوات، لن تعدم الوسيلة في الحصول على سكين، أو حتى دهس مجموعة من الأفراد بسيارتك.
استراتيجية الإرهاب الجديدة
إذا كان كل موقع وكل فرد في الولايات المتحدة مستهدفا، كما هو الحال الآن، فكيف يمكن للحكومة الأمريكية حماية كل شيء؟ وإذا كان بإمكان أي مقيم في الولايات المتحدة تنفيذ مثل هذه الهجمات، فكيف يمكنك أن تحدد مَن تراقب؟ وأين هي الموارد التي تسمح بفرض مجتمع المراقبة، وبأي سلطات، وبأي تكلفة على الحريات المدنية؟ وكما يتضح من هجمات الذئاب المنفردة التي وقعت في سان برناردينو، وأورلاندو، وبوسطن، ونيويورك، ربما دون مكتب التحقيقات الفيدرالي بعض الملاحظات الضبابية عن مهاجمي المستقبل، لكن غياب الأدلة التي تجعل الجريمة قابلة للمقاضاة أفقدت القدرة على التحقيق أو المراقبة، أو حتى الاستباق.
وضاعف من التهديدات نشاط المتطرفين المحليين من العنصريين البيض والقوميين المتشددين الذين اتبعوا نفس النهج السلوكي، واستفادوا من الموارد والنماذج الجهادية المتاحة عبر الإنترنت.
وبرغم تباين الأسباب، إلا أن تأثير هؤلاء المتطرفين من شأنه أن يحقق أهدافا مشتركة مع نظرائهم الجهاديين في نشر الكراهية والانقسام والفوضى في المجتمع الأمريكي، وقد تسبب نمو مثل هذه الجماعات واستعداد أتباعها للعمل، والذي تم تسهيله وحمايته بدرجات متفاوتة من خلال بيئة سياسية محتقنة ساعد على تفاقمها الرئيس دونالد ترمب واعتبارات الحريات المدنية من قبل اليمين واليسار على حد سواء، في إعاقة تمرير تشريعات محلية مضادة للإرهاب.
لم يكن نموذج العولقي يعني نهاية الهجمات المخططة مركزيا، فقد تم تزويد خبير المتفجرات في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، إبراهيم العسيري، بالموارد والحرية التي قادته إلى تجربته مع قنابل خرطوش الطابعات، وقنابل الملابس الداخلية والأجهزة المزروعة جراحيا، والتي فشلت في مواقف عديدة فقط عن طريق الصدفة والحظ، أو بمساعدة أصدقاء الولايات المتحدة. ولم يقض مقتل العسيري في عام 2018 في اليمن أثناء عملية مكافحة إرهاب أمريكية، والذي كان وليد الحظ أكثر منه نتيجة تخطيط محكم، على المهارات والابتكارات التي طورها، والتي تضاعفت بعد موته. ويستمر هذا الارتجال من قبل الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة حتى اليوم.
بعض خبراء مكافحة الإرهاب في أجهزة المخابرات، بمن فيهم كاتب هذه السطور، ارتأوا أن التهديد المستمر من العولقي والعسيري ،حتى بعد موتهما، قد انزوى تحت وهج مركزية أسامة بن لادن، لكن في هذه الأثناء يتم الاحتفاء باستراتيجية العولقي وتكرارها وتطويرها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، خاصة بعد خسائره في سوريا والعراق، كما صمدت أيضا الابتكارات التكنيكية للعسيري.
ومن جانبه تبنى تنظيم القاعدة الأم على مضض تصورات ” التفويض”ومنح الامتيازات وتشجيع الذئاب المنفردة، على الرغم من ميل الظواهري وكبار مساعديه في إيران، أبو محمد المصري وسيف العدل، إلى الاحتفاظ ببعض عناصر التحكم المركزي، وقد انعكس ذلك من خلال الاستقلالية المتزايدة التي تمتعت بها الجماعات الموالية التي تنفذ عمليات خارجية مثل “حراس الدين” في سوريا و”تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” في اليمن، “وتنظيم القاعدة “في بلاد المغرب الإسلامي” في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، و”الشباب” في شرق أفريقيا، بغض النظر عن الخسائر التي منيت بها هذه التنظيمات في صفوف القادة في عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية.
ربما لا يزال الظواهري ورفاقه يسعون إلى فرض رؤية وتأثير يستفيدون منه من خلال شرعيتهم الجهادية، واتصالاتهم، وفي بعض الأحيان من خلال ما يقدمونه من تمويلات، لكنهم بوجه عام باتوا أكثر انفتاحا على العمليات الأضيق نطاقا والتي يتم إدارتها محليا، وفي حالة عدم توافر القيادة والهيمنة التكتيكية، فليس أقل من الهيمنة على رؤية الجماعة ورسالتها، ومنح الامتياز والوكالة للجماعات الموالية، كما باتت هذه المجموعة أكثر مرونة في التعاون مع الشركاء ذوي الأيديولوجيات المخالفة بدءا من الملاذ والدعم المقدمين من الثيوقراطيين الشيعة في إيران، ووصولا إلى التعاون الأقل مستوى بين الجماعات السلفية الأخرى، حتى العناصر التي توجد بينها انقسامات وخلافات أيديولوجية.
من الناحية النظرية، تهدف استراتيجية الولايات المتحدة الاستباقية لمكافحة الإرهاب إلى تحقيق الاستفادة الشاملة من جميع أدوات القوة، ليس فقط من أجل تفكيك التنظيمات الإرهابية والقضاء عليها نهائيا، ولكن أيضا من أجل معالجة الظروف والأوضاع التي تشكل بيئة مولدة للتطرف وحاضنة له، وهو ما يولد بدوره الإرهاب، لكن الحقيقة هي أن كفة الإجراءات الحركية وفلسفة المعاملات التجارية قد رجحت بقوة في الاستراتيجية الأمريكية، وأن ذلك لم يكن من قبيل المصادفة.
القوة الناعمة في سياسة مكافحة الإرهاب يتجاوز بناء الدولة وغناء “كومبايا”
تمثل “القوة الناعمة” في ذاتها مصطلحا مشحونا بالسياسة، وهو مصطلح يسخر منه أولئك الذين ينظرون إلى هذه السياسة باعتبارها تمويلات أمريكية ضائعة موجهة نحو بناء الدولة ومشروعات المعونة الدائمة والمؤتمرات التي لا تتجاوز غناء كومبايا* في فنادق الخمس نجوم، لقد أدت هجمات “الأخضر على الأزرق”* ضد المدربين والمستشارين الأمريكيين إلى توتر الكثيرين، تماما كما فعل تصور تحمل أمريكا لنصيب الأسد من التكاليف في الدم والمال.
لفترة من الوقت في أعقاب غزو أفغانستان والعراق، استمالت الولايات المتحدة حكومات وشركات أجنبية للبحث عن فرص تجارية قد تضخ أموالا وتخلق فرص عمل في صناعات من شأنها الاستفادة من الموارد الطبيعية لتلك البلدان، كانت هذه طريقة لتقاسم المسئولية والتكاليف بين الشركاء الدوليين، لكنها لم تكن مدروسة جيدا، إذ أن هذا النوع من الصفقات ينحو عادة نحو نهايات غير سعيدة، وذلك بسبب الفساد أو الترتيبات التي لا تقدم الكثير لإفادة المجتمعات المحلية أو للنزول بالفرص الاقتصادية المستدامة إلى المستويات القاعدية.
فالحكومات والشركات الأجنبية مستعدة دائما للتربح من الموارد الطبيعية لهذه البلاد، لكنها تقاوم تقديم المزيد لمعالجة البنية التحتية الأساسية وتلبية الاحتياجات الاقتصادية، ومع افتقار المجتمعات المحلية إلى الحافز لاحتضان المستثمرين الأجانب وحمايتهم، قوضت الاعتبارات الأمنية أيضا هذه المبادرات.
في سياق مكافحة الإرهاب، تعني “القوة الناعمة” حزمة متكاملة من التدابير والموارد. لا يعني هذا وقف استخدام القوة، وإنما التوازن بين الاستخدام الانتقائي للتدابير الحركية من جانب والاستثمار المالي والمادي، والدبلوماسية، وبناء التحالفات، وحملات التأثير العلنية والسرية، والنفوذ الأمريكي على الشركاء والمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من جانب آخر، إنها تتطلب مقاربة الحملات التي تقود التوجهات وتؤثر على الظروف بمثابرة وعبر مراحل قابلة للتحقيق وأدوات لقياس الفاعلية.
تم التفكير في هذا في سياق خطة مارشال الأقل اعتمادا على الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى إعادة بناء المجتمعات واقتصادياتها، وتركز على المؤسسات الديمقراطية والمبادرات المجانية وحقوق الإنسان، حتى الحملات الناجحة التي أخرجت “داعش” من العراق وسوريا لم تترك خلفها سوى أرضا محروقة ومؤسسات محطمة من المرجح سيعاود التطرف الظهور من خلالها.
يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في الأقاليم التي سلمتها الولايات المتحدة للراديكاليين الإسلاميين ممثلين في الوكلاء السوريين المدعومين من تركيا والذين سيطروا على مناطق في الأراضي التي كانت تخضع في السابق للسيطرة الكردية في شمال غرب سوريا، وفي المناطق المأهولة بأعداد أكبر من السُنة في شمال وغرب العراق.
تبدأ أي حملة من هذا النوع بجمع معلومات استخباراتية تركز على اختراق وفهم الأعداء وخططهم ونواياهم وشبكاتهم والمجتمعات التي يستهدفهونها.
الحقيقة العملية هي أن استخبارات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب تبقى محكومة بتعقب معلومات تتعلق بمواقع جغرافية تمكن عمليات الاستهداف الحركي، ومن ثم، فإن أي فهم لهذه الجماعات، وقادتها وأعضائها ودينامياتها المحلية قد يسهل التوصل إلى مقاربة استراتيجية تؤثر في الأحداث، وتفكك نهائيا المنظمات الإرهابية يتم استنتاجه بالصدفة ومن خلال التحليل وليس بتعمد جمع المعلومات، ويمثل هذا إنعكاسا لعسكرة جهاز الاستخبارات الأمريكي، وبخاصة وكالة المخابرات المركزية (CIA)، التي تتجاهل الكلمات المحفورة في بهوها الرئيسي: “سوف تعرف الحقيقة، وسوف تجعلك الحقيقة حرا”.
الجزء الأول: إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب (1 – 4)
*كومبايا : مفهوم مركب ثقافي وغنائي ولغوي يمكن اختصاره في خلق جسور بين الثقافة الافريقية والانجليزية.
*هجوم الأخضر على الأزرق: هو تعبير يصف هجمات قام بها جنود شرطة أفعان على حلفائهم من الجنود الأمريكيين في أفغانستان.
المؤلف: دوجلاس لندن – أستاذ مشارك في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون
لمطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية: أضغط هنا