رؤى

إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب (4 – 4)

التحرر من عقيدة «من ليس معنا فهو ضدنا» الأمريكية أمر مهم في طريق مكافحة الإرهاب..

كان التعاون الأمريكي على الأرض في مناطق الصراع في أفضل حالاته، عندما لم يكن يُنظر إلى الولايات المتحدة كقوة استعمارية، وإنما ككيان لتسهيل تلبية الاحتياجات المحلية الملحة، لكن هذا تطلب ظروفا توجه إرادة المجتمع واهتماماته وقدراته نحو ضمان سلامة وازدهار هذا التعاون.

فريق إعادة الإعمار الإقليمي وتهيئة الظروف للقوة الناعمة للعمل على المستويات الشعبية القاعدية

لقد تراجعت خطورة هجمات «الأخضر على الأزرق»* في مناطق الصراع إلى درجة كبيرة عندما حاز هؤلاء الذين يعملون مع الأمريكيين، سواء في مشروعات عسكرية أو مدنية، قبولا مجتمعيا بعد أن قبل أعضاء الأسر والقبائل تحمل مسئولية دمجهم في المجتمع فيما يشبه “عملية زرع” وسط الجماهير.

وبرغم أن النتائج النهائية غير مضمونة، إلا أن النماذج الناجحة تتضمن بعض وحدات العمليات الخاصة، مثل وحدة الكوماندوز في الجيش الوطني الأفغاني، وقوات العمليات الخاصة التابعة لإدارة الأمن الوطني، ووحدة مكافحة الإرهاب العراقية، والعلاقة الأمريكية مع القوات الكردية السورية.

وحدة مكافحة الإرهاب العراقية
وحدة مكافحة الإرهاب العراقية

لقد عاش المديرون والمدربون ومسئولو الاستخبارات والمستشارون الأمريكيون الخاصون في داخل هذه الوحدات وعملوا عبر مهام ممتدة ومتكررة، كان أفضلها على الإطلاق عندما لم تكن هناك جدران حماية كبرى، وارتبط وجود هؤلاء بوجه عام بتحقيق مكاسب اقتصادية وتوافر خدمات الرعاية الصحية وتحسن مستوى التعليم، وغير ذلك مما كان له صدى في المستويات القاعدية الشعبية.

أما الأقل نجاحا فكان تدريب خط الإنتاج لدى قوات الجيش والشرطة التقليدية في كل من أفغانستان والعراق، وأيضا المشكلات التي واجهتها الجهود التدريبية الأمريكية في المجتمع اللبناني متعدد الإثنيات في ثمانينيات القرن الماضي.

كان المرشحون لهذه الوحدت لا يتمتعون سوى باتصالات قليلة مع بعضهم البعض، ولم يكونوا بالضرورة ينتمون إلى جنسية مشتركة، ولم يتم تقييمهم عبر أعضاء من مجتمعاتهم يعرفونهم على المستوى الشخصي، وإنما من خلال عمليات بيروقراطية من قبل غرباء، وكان المستشارون والمدربون الأمريكيون، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، في الغالب زوارا لمرة واحدة، ولم يقيموا أي علاقات أو اتصالات، وحافظوا على مسافة فاصلة تأمينا لأنفسهم. ونظرا لسهولة اختراق هذه المؤسسات من قبل المتمردين والجماعات المتطرفة، سواء كانت “طالبان”، أو “شبكة حقاني طالبان”، أو “تنظيم الدولة الإسلامية”، أو “حزب الله” اللبناني، أو الجماعات المتعددة الموالية لتنظيم القاعدة، فقد تكرر فيها وقوع هجمات “الأخضر على الأزرق” كما حققت أدنى مستويات النجاح الملموس.

كان الهدف من تأسيس “فرق إعادة إعمار الأقاليم” (‪The Provincial Reconstruction Teams‬) الأمريكية، بالتعاون مع الشركاء الدوليين، في كل من أفغانستان والعراق هو جلب موارد قوة ناعمة تكميلية لمحاربة الإرهاب على المستوى المحلي. لكن مفهوم “فريق إعادة الإعمار” كافح من أجل إيجاد توازن يمزج بين المنظمات العسكرية، والمدنية المختصة بإعادة الإعمار، ومنظمات الإغاثة، كانت المشكلة هي أن هذه الفرق، التي خضعت لقيادة عسكرية في أفغانستان ومدنية في العراق، بدت كقوة احتلال منعزلة تقتصر مهمتها على تسهيل الغارات الليلية ضد كل من الأصدقاء والأعداء على السواء، وليس وحدات صديقة جاءت لتقوية القاعدة الشعبية ودعم استقرارها ورخائها.

 إحدى فرق إعادة الإعمار يعطون أطفال أفغان لوازم مدرسية
إحدى فرق إعادة الإعمار يعطون أطفالًا أفغان لوازم مدرسية

في الواقع،على المستوى العملي، كانت “فرق إعادة الإعمار” في كثير من الأحيان رهينة للضرورات العسكرية والحماية الأمنية المتشددة ضد التهديدات، ومع ارتدائهم الزي العسكري الرسمي، وتدجيجهم بالسلاح كان من الصعب تمييز أعضاء “فرق إعادة إعمار الأقاليم” – الذين جاءوا لكسب القلوب والعقول – عن قوات التحالف العسكري المحتلة.

وفشلت النماذج الأمريكية التي سعت إلى إعادة فرض التخطيط الحكومي المركزي، والقيادة والهيمنة على الميزانية في التوافق مع الحقائق التاريخية والثقافية على الأرض، وسهلت تفشي الفساد وإعادة توجيه الموارد، وبدلا من غرس إحساس أعمق بالتلاحم الوطني، أدى الفساد إلى تفاقم الخلافات والمنافسات والضغائن التي كانت تضطرم تحت الرماد منذ فترة طويلة، إضافة إلى تقويض مشاريع إعادة إعمار الأقاليم، لكن ترتيب الأولويات قد يفسر أيضا أسباب الفشل في تحقيق نجاح أكبر.

بغض النظر عن تقويض الجهود المدنية “لفريق إعادة إعمار الأقاليم” في كثير من الأحيان للأهداف العسكرية، لم يتم التشكيك في فائدة مشروعات البنية التحتية عالية التكلفة، في الوقت الذي كان يجب فيه منح الأولوية للمشروعات المرتبطة بالصحة والتعليم والمشروعات التجارية الصغيرة التي تشكل بفاعلية العقلية والبيئة في المستويات القاعدية، وتعالج الظروف التي تغذي التطرف، وتجذب الشعوب نحو الاستقرار والنظام اللذين وفرتهما جماعات مثل طالبان وتنظيم الدولة والقاعدة.
ثَم قول مأثور يعرفه جميع الجواسيس عن ظهر قلب، وهو “الصحة والثروة والأسرة هي الأدوات التي تزيد من تأثيرك في الآخرين”.

إن النهوض بمستوى معيشة مجتمع محلي عبر تحسين الرعاية الصحية والتعليم وتنمية المهارات المهنية لمعالجة مشكلاته الاقتصادية على المدى القصير والطويل كان من شأنه أن يحقق فائدة أكبر للتأثير الأمريكي من بناء ميل من الطرقات أو جسر، أو تدشين غارة ليلية أو ضربة بالطائرات المسيرة، وبالمثل كان من شأن القروض الصغيرة والتركيز على مساعدة المجتمعات على تطوير وسائل مستدامة للدخل أن تترك أثرا أعمق على قابليتها للتطرف.

إن تمكين المجتمعات من التوسع في الزراعة وفتح ورش لإصلاح السيارات، ومراكز لتعليم الكمبيوتر، ومحلات البقالة يوجهها نحو الاستثمار في الاستقرار، لكن – لسوء الحظ – يبقى ذلك أقل إثارة من مقاطع فيديو لإرهابيين تم تفجيرهم في سيارتهم بصواريخ “هيلفاير” (‪Hellfire‬) الأمريكية.

هجمات أمريكية بطائرات الاباتشي تطلق صواريخ هلفاير في معارك بالعراق

لا يمكنك هزيمة الإرهاب في الفراغ

هناك ترابط وثيق بين التنافس بين القوى العظمى، ومكافحة الإرهاب، والصحة العالمية، وتغير المناخ، وأمن الطاقة، والتقدم السيبراني والاقتصادي، وتمثل التكنولوجيا والتشابك الاقتصادي الرابط الأهم بين هذه العناصر جميعا.

على هذا النحو، لا يمكن معالجة أي قضية في الفراغ دون اعتبار التشابك بين العناصر الأخرى، لكن القوى العظمى غالبا ما تنظر إلى مكافحة الإرهاب من خلال منظور سياسي منحرف، وليس كتهديد واسع النطاق.

فالتنافس بين باكستان والهند يؤدي إلى تعقيد تحقيق سلام دائم في أفغانستان وجميع أنحاء جنوب آسيا، حيث ينظر كلا الطرفين إلى المسألة في الغالب من خلال منظورهما الثنائي. فقد نجح جيش إسلام أباد في تقليل الخطر على بلاده بفتح جبهة للهند بطول حدود أخرى من خلال العلاقات الثنائية والعسكرية مع جمهورية أفغانستان الإسلامية المعترف بها دوليا والمدعومة أمريكيا، ومن جانبها تتطع الهند إلى إحداث نزيف في الجسد الباكستاني من خلال هجمات المتمردين من الجماعات التي تتخذ من المساحة التي لا تطالها سلطة الحكومة، أو التي تسيطر عليها الحكومة الأفغانية ملاذا لها.
وبرغم أن المنطق يوحي بأن روسيا والولايات المتحدة ستتعاونان ضد التهديدات المتبادلة الناجمة عن الإرهاب بوجه عام، وعن تنظيم الدولة الإسلامية على وجه الخصوص، بمعزل عن الرأي السياسي أو الصحافة الحرة حتى في حالة تزايد الهجمات في روسيا، إلا أن مقاربة الرئيس فلاديمير بوتين تقوم بالأساس على أن ما يضر واشنطن ينفع موسكو، بما في ذلك آفة الإرهاب.

ففي غمرة حماسته لمغادرة القوات الأمريكية أفغانستان المجاورة، تزعم تقارير صحفية نشرت في أواخر يونيو 2020 أن موسكو قدمت مكافآت سخية لطالبان نظير هجماتها ضد القوات الأمريكية، بما يعكس بجلاء أولويات بوتين، ويتضمن هذا استنزاف أمريكا وتصفية الحسابات الخاصة بأحداث أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، وحادثة عام 2018 عندما خلف دفاع القوات الأمريكية عن نفسها في سوريا أعدادا كبيرة من القتلى في صفوف المرتزقة الروس.

https://www.youtube.com/watch?v=xvtvYCz6P2M

وتحدد الديناميات الأمريكية – الإيرانية والصراع العربي الإسرائيلي المسار في الشرق الأوسط تماما مثلما تحد السياسات الحزبية من قدرة الولايات المتحدة على الحركة في الداخل.

إن مكافحة التطرف ومحاربة الإرهاب تشبه في كثير من تفصيلاتها رقعة الشطرنج متعددة المستويات التي تتطلب تعاضد الحركات وتوقع النتائج غير المقصودة قبل حدوثها بعدة خطوات.

وكذلك يتطلب الحل الدائم لأفغانستان التعاطي مع ملف العلاقات الباكستانية – الهندية، تماما كما أن السلام في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الملف الإيراني وإيجاد حل سلمي لمحنة الفلسطينيين.

يعني هذا أن المقاربات التحويلية لم تعد خيارا مثاليا، ولكنها يجب أن تعمل بشكل متزايد كهدف أساسي، وكمقياس للنجاح الأمريكي.

واليوم يبدو أن التهديدات التي تشكل خطرا على الأمن ونمط الحياة الأمريكيين تتضاعف بوتيرة متسارعة وتطل برأسها من جميع الجهات، وقد حان الوقت لتعديل المسار الأمريكي في مكافحة الإرهاب عن طريق استخدام كافة أدوات القوة، ورؤية العالم على حقيقته، وليس كما يتمناه الأمريكيون، والتحرر من عقيدة “من ليس معنا فهو ضدنا”، ومن ثم يتعين تغييره أو التخلص منه، أو تغيير النظام.

في حين سيكون هناك خصوم للولايات المتحدة يحتمون عليها استخدام القوة والردع، إلا أن أغلب من “ليس معنا” لا يحتاجون سوى إلى سبب للتعايش السلمي. سيكون هذا أقل تكلفة بكثير من ناحية الدم والمال، وأكثر استدامة.

*هجوم الأخضر على الأزرق: هو تعبير يصف هجمات قام بها جنود شرطة أفعان على حلفائهم من الجنود الأمريكيين في أفغانستان.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

بقية الاجزاء:

إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب (1 – 4)

إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب (2 – 4)

إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب (3 – 4)

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock