تملكني منذ زمن الاعتقاد بأن ردة ثقافية شهدتها الساحة المصرية منذ عشرينيات القرن الماضي، تواكبت مع تنامي جرعة الفكر الديني التي انطلقت في أعقاب الإعلان عن حل الخلافة الإسلامية العثمانية في تركيا، وغلبة الشعور العام بإنفصام عٌرى المجتمع الإسلامي، ومحاولة إحياء روابطه من خلال تصورات عدة كالحديث عن “عصبة الأمم الشرقية” لعبدالرزاق السنهوري باشا 1925، أو إعلان قيام جماعة الإخوان المسلمين 1928 كنواه لمجتمع إسلامي ينتهي أهدافه عن الإعلان عن قيام دولة الخلافة الإسلامية من جديد، مع ضرورة الإنتباه إلى ذلك الفارق الشاسع في برجماتية ونضج التصور لصالح الطرح الأول.
كما برز ذلك في التنامي المُطرد للتيارات الرجعية المحافظة دينيا وحركيا والتي لعبت دور المنافح في وجه دعوات التحديث والتغريب، والوقوف موقف المعادي لجهود الباحثين الغربيين والمستشرقين التي لم تكن بطبيعة الأمر بريئة في كثير من الأحوال، كان لكل هذا تأثيره الكبير على المزاج الثقافي العام بما دفع بالكثير من رواد الجيل الثاني من مفكري عصر النهضة إلى مٌسايرة الحالة العامة بتقديم عدد من الكتابات الإسلامية فكتب طه حسين (على هامش السيرة 1933)، و تبعه القدير مٌحمد حسين هيكل بكتابيه ( حياة محمد 1934)، ثم (في منزل الوحي 1937)، ثم توالت إصدارات طه حسين ذات الطابع الإسلامي ابتداء من (الفتنة الكبرى عثمان1947)، (الوعد الحق 1950 ) ثم الجزء الثاني من (الفتنة الكبرى علي وبنوه 1953)، و (مرآة الإسلام 1959)، و (الشيخان 1960) ، ثم تبعهما الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي بمؤلفه الشهي (محمد رسول الحرية 1962 )، وبنت الشاطىء بموسوعتها عن نساء بيت النبوة.
غير أن النظر الدقيق في هذا التحول سيكشف عن مسار هام في تاريخ الثقافة العربية عموما والإسلامية على وجه الخصوص، إذ يبدو واضحا أننا أمام مشروع لإعادة قراءة السيرة النبوية وفق منهجيات البحث التاريخي الحديثة في أولى تطبيقاته العملية على التاريخ الإسلامي، وهو ما يعني الانتقال بالعقل العربي والإسلامي من فكرة التصديق الغيبي المطلق النابع من الإيمان إلى التفكير العلمي المنهجي البعيد عن المرويات التي خضعت للمبالغة والتهويل على مدى عقود تربو على القرن من الزمان، من المرويات الشفهية التي تأسست عليها المحاولات الأولى لكتابة وتدوين السيرة النبوية بعد ما يفوق القرن من الزمان غلب فيها التدوين الشفاهي والذاكرة الشعبية.
كانت الحاجة مٌلحة لظهور مثل هذا اللون من كتابة السير، فإذا كان المحدثون قد نجحوا في وضع منهجيتهم لاستخلاص (الحديث النبوي الشريف) الصحيح وانتقاءه من بين عشرات الألاف من المرويات الزائفة والمدسوسة بفعل أتباع الديانات القديمة الذين دخلوا الإسلام على غير قناعة ذاتية، وأبناء الحضارات البائدة المنصهرة في بوتقة الحضارة الإسلامية الوليدة تلك التي يعبر عنها ب(الحركات الشعوبية)، أو بعد الانعكاس الواضح للصراع بين بني أمية وبني هاشم على مرويات الحديث إلى الحد الذي يجعل محمد بن نصر البخاري صاحب أهم كتب الحديث يروي عن نفسه أنه صادف من الحدايث المتدولة ما يربو على الستمائة ألف حديث لم يصح عنده منها سوى أربعة آلاف حديث أي لم يصح لديه من بين كل مائة وخمسين حديثا سوى حديث واحد.
والأمر ليس مقصورا على البخاري فلم يصح لدى أبوداوود من بين خمسمائة ألف حديث سوى أربعة ألاف وثمانمائة، ليس الهدف هنا هو التشكيك فيما نقل إلينا من تراثنا الإسلامي بطبيعة الحال – وإنما لفت الانتباه إلى أهمية ما دخل على السيرة النبوية من أغاليط إما بدافع الإيمان والمبالغة في التقدير والتوقير، أو بدافع الكراهية والحقد والكيد للإسلام من داخله، فإذا كان الأمر كذلك مع جامعي الحديث على ما بذلوا من جهد ونجحوا في وضع منهجيتهم الصارمة. فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تصحيحه؟
هذا السؤال الذي يطرحه الأستاذ محمد حسين هيكل في مقدمة كتابه ( حياة مٌحمد) هو مثل الدافع وراءه تقديم مصنفاته التي دارت حول السيرة النبوية، وهو الدافع نفسه إزاء من حذى حذوه في هذا المسار.
وقد جمعت بين سائر تلك المحاولات عدد من النقاط الهامة، أولها البعد عن الترسيخ للجانب الأسطوري وتكرير الخوارق والمعجزات التي لم تبدو بذات أهمية في إثبات نبوة مستقرة ومصدقة بالجوانب الأعجازية المختلفة للنص القرآني، وبمنظومة تشريعية عادلة تبدي كفاءتها مع تطور الزمن، كما سعت إلى تقديم نقد علمي منهجي لبعض النتائج المغرضة لعدد من الباحثين والمستشرقين، كالحديث عن تعرض النبي محمد صلى الله عليه وسلم (لحالة من حالات الصرع والهذيان) أثناء تحنثه بغار حراء، ينتج عنها ذلك الشعور المتهوم بنزول الوحي، وهي القصة التي سيظل يبني عليها العديد من غلاة العقلانيين ومتطرفي التيار العلماني نتائجهم على الرغم من مضي أكثر من سبعين عاما على دحضها وتفنيدها.
كما قدموا النقد التاريخي والمنهجي لبعض الافتراءات التي ألحقت بمؤلفات بعض كتاب السيرة مثل (قصة الغرانيق)، وقد انعكست شخصيات الكتاب وخلفياتهم الثقافية في بعض الأحيان على تقديمهم وقرائتهم للسيرة النبوية ففي كتابه ( محمد رسول الحرية) حاول الكاتب عبدالرحمن الشرقاوي أنسنة تجربة النبوة المحمدية، بتقديم شخصية أقرب إلى المُصلح الثوري الذي كان قدومه ضرورة قصوى لإصلاح الكثير من جوانب العطب والفساد في المجتمع المكي أولا، قبل أن تنتقل الرسالة إلى ربوع العالم.
حوار مع د.عبد الرحمن الشرقاوي يتحدث عن العلم والإسلام
ورغم نبل أهداف التجربة ونجاحها في صياغة حلقة وصل مفتقدة في إعادة طرح السيرة النبوية بعد تدقيقها وتمحيصها وفق منهجيات البحث التاريخي الحديثة، بما يساهم في الانتقال بالعقل المسلم من مرحلة التفكير الخرافي واللاعقلاني – إلى مرحلة التفكير النقدي الواقعي البناء إلا أنها ووجهت بالعديد من الاتهامات سواء من المحافظين الرجعيين الذين عابوا على الأستاذ محمد حسين هيكل أن يذكر اسم النبي (محمد) (صلى الله عليه وسلم) مجردا دون أن يشفعه بصيغة الصلاة على غلاف الكتاب، واتهم عبدالرحمن الشرقاوي بصبغ السيرة النبوية بخلفيته الماركسية.
لم تنل هذه الاتهامات من جماهيرية تلك المؤلفات التي فاقت طبعات بعضها عشرات المرات في انتصار واضح لجيل أكثر عقلانية في التفكير، وأكثر قدرة على استيعاب مناهج الشك التاريخي والنقدي، لكن المٌلفت والغريب انه رغم مضي قرابة القرن من الزمن على إنطلاق هذا المشروع العلمي في قراءة وتنقيح كتب السيرة تموج شبكة الإنترنت بمدونات ومواقع مدعومة من قبل بعض الجماعات والدول الدينية لتعيد طرح السيرة النبوية كما وردت في مؤلفات قدامى كتاب السير دون نقد أو تمحيص، ولعل من أبرز تلك الصفحات موقع (قصة الإسلام) والذي يشرف على تنفيذه طبيب للمسالك البولية لا يجيد مناهج البحث التاريخي، ولا يطبق أدنى معايير المنهج التجريبي التي يفترض أنه ترى عليها في كلية الطب، فالأمر أشبه بالإنحدار من أم كلثوم وعبدالوهاب في الموسيقى إلى صخب أغنيات الأفراح والمهرجانات الشعبية دون تفسير واضح لأسباب هذا الانزلاق .