من المتعاطفين مع الإسلاموية من يصفها بأنها حركة عادة ما تتوافق مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك، حتي و لو بمفردات قد تبدو مختلفة، ومنهم من يشير إلى أن ثمة تيارين يتواجدان ويتصارعان داخل جماعات الإسلام السياسي، أحدهما يتوافق مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك والآخر مناهض لهذه القيم، و أنه من السابق لأوانه معرفة لمن ستكون الغلبة في نهاية الأمر، ومنهم من يعتقد أن الإسلاميين في طريقهم إلى التحول إلى التوافق مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك، على الرغم من التحديات الكثيرة التي تنتظرهم في هذا الطريق. هؤلاء المتعاطفون مع الإسلاموية يفترضون – ولو ضمنيا – أن عدم توافق الإسلاموية مع القيم الأساسية للمواطنة و العيش المشترك مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقبل الأخر و قبول التنوع ليس بمشكل بنيوي يكمن داخل في فكر حركات الإسلام السياسي على وجه العموم.
ثمة حقائق وملاحظات معاكسة لهذا الفهم غابت عن هذا التيار الغربي المتعاطف مع الإسلاموية:
الدولة أساس الدين
أولا: تجاهل أن النصوص المؤسسة للإسلاموية ترفض التنوع وتجنح للاعتقاد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فميل المعتقدين لنبذ القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك لا جدال فيه، بل نستطيع القول بإن اللجوء للعنف من طرفهم ضد الآخر مؤكد، ولا بد أن يظهر عاجلا أو آجلا، فالإسلاموية هي رؤية شمولية سياسية حركية للدين، تعتقد أن هناك نموذجا معدا مسبقًا يجب على المسلم اتباعه، وغير مسموح بالبحث عن نموذج “إسلامي” آخر غير نموذجهم.
يتجاهل هؤلاء أن نموذج الإسلاموية أو فهمها الخاص المفعم بالسياسة للإسلام وضعه بشر، ولكن يلبسونه رداء القداسة و يتماهي فيه الديني بالسياسي بدرجات مختلفة تبدأ بتأصيل العلاقة بين الديني والسياسي، مروراً بتقديس تلك العلاقة نهاية بتسييس كلي للديني. لذلك يتعارض هذا النموذج كليا مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك كما تبين الاستشهادات التالية لأهم منظري الإسلاموية؛ فحسن البنا منشيء الجماعة ومرشدها الأول يربط بين الدينى والسياسي ولشمولية نمط تدينه الذي يقدمه كأنه الإسلام ذاته فيقول :« نحن نعتقد أن أحكام الإسلام شاملة تنظم شؤون الحياة في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحى مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعباده ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية وعمل ومصحف وسيف. »، ويكمل عبد القادر عودة أحد أهم المنظرين في جماعة الإخوان المسلمين في نفس الاتجاه محدثا الدمج الكلى للسياسي في الدينى وللدين في الدولة فيصبحا شيئاً واحداً لا يقبل التجزئة فيقول: «أصبحت الدولة في الإسلام هي الدين وأصبح الدين في الإسلام هو الدولة».
ثم يتعدي القرضاوي مرحلة ربط الدين بالسياسة وحتى مرحلة تقديس تلك العلاقة بجعل الدين السياسي (الإسلاموية) ديناً يحتوي الدين نفسه، فيقول إن الإسلام (يقصد الإسلاموية أو فكر الحركات الإسلامية ) أوسع من كلمة “دين” و يفصل ذلك قائلا: “و لذا فقد جعل علماء الأصول المسلمون الدين إحدى الضرورات الست التى جاءت الشريعة لحفظها».
تلك الرؤية الشاملة للعالم world view التي تتبناها الإسلاموية تجعل من الفضاء الدولتي فضاء دينيا بامتياز، فالدولة تصبح هنا ضرورة دينية، و حتي الفضاء العام يجب أن يكون مشبعا بالديني تمام التشبع و مصادرا بالكامل من طرف الديني.
أما المصادر الرئيسية لشرعية نظام الحكم بحسب تلك الرؤية فتتمثل في التوافق التام مع نمط التدين الإسلاموي، والذي يمثل فيه نمط التدين الخاص بجماعات الإسلام السياسي تحديدا هو المصدر الوحيد للشرعية السياسية للدولة.
أخيرا تنظر الإسلاموية للتشريع لا باعتباره اجتهاد بشر، ولكن من خلال ما تعتبره أنه شريعة الله، وهي في الحقيقة فقهها وفتاويها الخاصة التي حولتها بمرور الوقت إلى “أصول الدين” ..
إنها عملية هوياتية بامتياز ومبدأ تأسيسي للاجتماع البشري في دولتهم “الثيوقراطية” حيث شريعتهم ورؤيتهم الخاصة للدين تصبح هي الأساس الذي يقوم عليه النظام السياسي والدولة. لا يمكن إذا أن تتوافق تلك الرؤية للعالم مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك.
اللهم أمتنى على الإخوان
ثانيا: تتجاهل تلك الرؤية الانعكاس الفعلي لتلك الرؤية للعالم على سلوكيات حركات الإسلام السياسي التي تقدم نفسها بصفتها طائفة دينية ذات أهداف خاصة، فرأينا من يقول من المنتمين إليها «اللهم أمتنى على الإخوان»، ومن يقول أنه « لا يصح الزواج من غيرالإخوانية لأنها أدنى» …الخ”، ومنهم من يصف مخالفيه في الرأى من أبناء وطنه حتى المسلمين منهم قائلا : “هؤلاء خصومنا و نعلم أنهم خصومنا، و لكن لم نباشرهم بعداوة ظاهرة لأن غايتنا أبنائهم ونسائهم وأحفادهم، نحن لا نرغب في هؤلاء ، نحن نرغب في أبنائهم، و أبنائهم عندنا اليوم، وغايتنا أن نفصل أبنائهم عن رأيهم و الحمد لله أن الله و فق في ذلك”. وبالتإلى قابلية هذا التنظيم في الاندماج في الفضاء العام الوطني مشكوك فيها، فما بالك بالقول بإن تلك الجماعة يمكن لها أن تتوافق مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك ويروج لها على أنها البديل الديمقراطي لبعض الأنظمة العربية كما يفعل هؤلاء المتعاطفين مع الإسلاموية من الأكاديميا الغربية.
متلازمة الإخوان
ثالثا تجاهل “متلازمة الإخوان المسلمين” أي مجموعة من العلامات والأعراض والظواهر المرتبطة مع بعضها تلازم وتنتج عن أي تواجد لهم في الفضاء العام وتتنافي مع القيم الأساسية للمواطنة و العيش المشترك:
– احتكارهم الحقيقة والدين.
– عزلة منتسبيهم الشعورية عن المجتمع.
– الاستعلاء بنمط تدينهم علي المجتمع.
– سيادة شعار “أينما تكون مصلحة الجماعة فثم وجه الله” في ممارستم السياسية.
– تحول المجتمع لحالة الصراع الدائم، ليصبح مجتمعا منقسما علي نفسه وصولا للحروب الأهلية.
– غياب مفهوم المواطنة وسيادة فكرة ولاء الفرد للجماعة و امتدادتها العابرة لحدود الدولة الوطنية.
خلاصة الأمر أنه لتوفير بيئة سياسية تسودها القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك يتوجب تفريغ الفضاء الدولتي من الديني و العقدي والأيديلوجي، فالدولة لا يجب عليها أن تتدين ولا أن تعادي الدين، كما لا يجب أن تكون مؤدلجة ولا أن تعادي الفكر.
وفي الفضاء العام يجب أن تحصر المنافسة بين الفاعلين السياسيين علي من يدير الدولة بشكل أفضل في إطار دولة تنموية، و إخراج الدين من مجالات المنافسة والصراعات السياسية.
في هذا الفضاء العام يكون للحركات والقوى السياسية الحق في اختيار وتبني المرجعية والإطار الأخلاقي؛ سواء أكان دينيًا أو أيديولوجيا، لكن لا ينبغي فرض تقديسها علي الآخرين أو منعهم من نقدها.
فضاء عام سياسي لا تعزل فيه الآلية السياسية للديمقراطية (صندوق الاقتراع) عن معاييرها وشروطها السياسية والفلسفية الكامنة وراءها و التي بدونها لا يمكن للديمقراطية أن توجد.
شرعية الحكم يجب أن تكون قائمة وفقط علي شرعية الإنجاز، و أن ما اتفق الناس عليه لتنظيم شؤون حياتهم هو المصدر الوحيد للتشريع.
تلك المعايير هي وحدها التي تستطيع ضمان القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك، وهي تتعارض كليا مع النصوص المؤسسة لفكر حركات الإسلام السياسي أو “الإسلاموية”.
باقي الأجزاء:
لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟ (1)
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية؟ (2): هل الإسلاموية لاهوت تحرير أم تكفير؟
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية (3): هل الإسلاموية تيار ينتمي إلى ما بعد الحداثة؟
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية؟ (4): هل الإسلاموية هي الإسلام أم هى التيار المتغلب إعلاميا؟