ثقافة

قاسم حداد: الرؤية تصقل الكتابة والشاعر عليه دائما التمسك بالحلم 

في طريقي لحوار قاسم حداد رجعت إلى ما قاله عن نفسه “هذا شخص مشحون بالتناقضات، اشتهر بالتطرف في كل أشكال حياته، فيما هو عرضة للتلف أمام هبة الريح العابرة، يتظاهر بالصلابة وهو الكائن الهش لفرط حساسيته اليومية‪”

‪ سألت نفسي: لماذا الحوار معه؟ وهو يقول “لماذا يتوجب علي دوما أن أكون قرينا لشخص على هذه الدرجة من الغموض؟

قد يكون لكونه يسمي ما ينجزه من كتابة “التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل” فهو في كل يوم، وأمام أية تجربة جديدة، يبدو كأنه يكتب للمرة الأولى والأخيرة في آن.

قاسم حداد ليس مجرد شاعر، مع أنها تكفي جدا، لأن يكون هناك حوار حول الشعر وماهيته، ودوره، تكفي جدا لأن نصل بالشعر ما انقطع بيينا وبين العالمين، تكفي جدا لأن نكون في حضرة قاسم حداد صاحب  “البشارة، والدم والثاني، قلب الحب، القيامة، عزلة الملكات، والأمل وغيرها.. هذا الحوار قصير جدا، قياسا لمنجز ما أنتجه قاسم حداد من تطرف جميل، في محبته للغة وللشعر وللعروبة والوطن.

لا شك أن قاسم حداد، من أبرز الأصوات الشعرية في العالم العربي، إذ تمتد تجربته منذ سبعينيات القرن الفائت، إلى  الآن، في إطار من تعدّد الصوت الشعري وتنوّعه، فضلا عن كونه أحد المتمردين الكبار على الشكل التقليدي للشعر، والرافضين لفكرة  التصنيف، وأول عربي يدخل الشعر إلى ساحة الانترنت.

يقول صلاح عبد الصبور

“لأن الحب مثل الشعر.. ميلاد بلا حسبان

لأن الحب مثل الشعر ما باحت به الشفتان

بغير أوان

لأن الحب قهّار كمثل الشعر

يرفرف في فضاء الكون لا تعنو له جبهة

وتعلو جبهة الإنسان”

كيف ترى الشعر بدءً من جاسم إلى قاسم ومن الحداد إلى حداد.. علاقتك بالشعر بدأت بتغير الاسم تيمناً وارتباطا بالشاعر الجزائري مالك حداد، ويبدو أن التغيير تيمة أساسية في مشوارك؟

ربما التغيير، أو حلم التغيير، هو السعي الجوهري في محاولات الكاتب، الشاعر خصوصاً، في طريقة كتابته، لكن بعد الطعن في السن والتجربة سيكتشف الشاعر، إنسانياً، التمثل اليومي للإخفاق الفادح في تحقيق ذلك الحلم، لعدم تكافؤ المجابهات بين الشاعر وسلطات الواقع.

فبعد دعوات رامبو وماركس لتغيير العالم، يأتي على الشاعر زمانٌ يتمنى أن يكون قادراً على الحلم. مجرد الحلم في مواجهة الواقع هو من بين أصعب التجارب التي ترى كم من السلطات الضارية التي تصادر حق الحلم من شعوب العالم، والشاعر أضعف الكائنات في هذه الشعوب، على أن لا يتخلى الشاعر عن حلمه، حتى و إن شعر بمحاصرة حقه في ذلك. الأهم أنني غير مجبر على الإعجاب ببرامج وسياسة وما تفعله الأنظمة في بلداننا وحياتنا. الأدب والشعر صوت آخر يستدعي الإصغاء إليه بوصفه غير مقتنع بالجنة، جنتهم على الخصوص.

أرثر رامبو كارل ماركس
أرثر رامبو كارل ماركس

تقول أن النشر الأول ليس فعل جمال بالنسبة للكاتب فحسب، ولكنه خصوصا هو فعل حب يسعفنا لكي نمنح النص شعوراً إنسانيا؟

كلما تذكرت كتابي الأول، قاربت على إدراك الدلالة الرمزية لعنوان (البشارة)، وفِي السنوات الأخيرة صارت طباعة كتاب جديد ونشره إشارة إنسانية لكوني موجوداً في حياة تستحق الاحتفاء.

‪هل بالإمكان الآن النظر إلى سلة مهملاتك.. إلى تلك النصوص القابعة في العتمة؟ هل ستحرضها يوما على الطيران، هل يمكن لنا أن نشهدها حرة بدلاً من تقييدها؟ هل ستعطي لها قُبلة الحياة لتغادر العتمة؟

ما في السلة يظل هناك، المهملات ليست للاستعادة، ثم أنني لم أعد أتذكر نصاً يستحق القراءة، لقد كنت أكتب بهوس الواثق وبلا تريث، وهذا لا يستقيم مع الشعر والأدب، لذا لا أنصح أحدا بتلك الثقة.

”لا تغضض عينيك عن الأخطاء

لا تغفر للعسكر غزوتهم

من يضربك على الخد الأيسر

اضربه حتى الموت”

يبدو أنها دعوة مفتوحة وقديمة، وقد يرى البعض أنها دعوة حالمة في زمن تماهي المثقف مع السلطة.. وهذا ما يشير إليه ما نعيشه اليوم.

وعليه كيف يمكن استعادة دور الشعر.. هل ترى أن ثمة دوراً حقيقياً للمثقف في الحياة السياسية، وإلى أي مدى هناك مسافة بين المثقف والسياسي، وهل نجح السياسي الممثل للسلطة فى تهميش دور المثقف وعزله عن المجتمع؟

قلت لك قبل قليل، لسنا مجبرين على الإعجاب بما تفعله السلطة العربية، ناهيك عن الانسجام مع ذلك والتحزب له، واذا اتفقنا إلى ازدواج المعاني والدلالات الرائج في عالمنا، حيث يعتبرون القناعات الفكرية والسياسية بمثابة اختلاف وجهات النظر، يجري ذلك استتباعاً لازدواج المكاييل الذي يحكم قانون الغابة العام.

https://www.youtube.com/watch?v=b14iLFkSifk

 

ثم ليس من الحكمة الكلام عن المثقف، كما لو أنه كائن خرافي يشكل النموذج المثالي في حياتنا، المثقفون جزء من الحياة، والحياة ليست كما يحلم الشعراء، وحين تشير للتطبيع تريد إلى اعتبار ما قبل الإعلان الرسمي عن هذا، مرحلة صادقة الإيجابية، وحرة من الذهابات الحرة.

يا عزيزي كل هذه الأنظمة العربية منذ سنوات تعاقب شعوبها على جهرها بحلم الحرية والتخلص من نير أنظمتها المتخلفة، فكل هذه الأنظمة عندما تعالج مشاكلها، إنما هي ترمم المومياء التي ماتت وتعفنت منذ زمن، لكن لا تحل تلك المشاكل، فتلك مشاكل غير قابلة للحل، هل سمعت عن المثل الذي يقول ( فالج لا تعالج)؟

يرى البعض  أن قاسم حداد ذهب في مشروعة الشعري إلى إحياء مفردات هي في الأصل معجمية، وما وصلني أن ثمة غرام قديم متجدد لقاسم مع المعاجم، وفي ظنى أنه سرب ذلك الغرام عبر القصيدة.. هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك الغرام، وكيف يمكن للشاعر والكاتب، أن يقف أمام فاشية اللغة وعصيانها وتمردها وموتها أحيانا؟ وكيف يمكنه تطويعها وإحياءها مرة أخرى؟

منذ تولعت بالمنجد الصغير، الذي نصحني به أستاذي في المرحلة الابتدائية، وبدأت اقرأه كما لو كان كتاباً، صار ولعي باللغة العربية ضرباً من العشق، وأظن أنني منذها لم أكن افرّق بين الكلمات، شعرت أن كل كلمات العالم يمكن أن تكون في الشعر، لدرجة أنني أذكر في خضم اندفاعاتي، كتبت قصائد بالعامية المصرية، وبعدها بالشعبية المحلية.

غير أن هذا لم يستمر عندي، لاختلاف الموهبة، وبعد ذلك بزمن قلت أن اللغة مثل الحبيبة، كلما عشقتها وأخلصت لها في ذلك، منحتكَ جمالاتها أكثر، وإذا أبديت لامبالاتك باللغة، شحّت عليك وجفّ نبضها، ولا تكون راوية طرية معك، اللغة صديقة إذا أخلصت لها في صداقتك.

‪متى يبكي الشاعر.. هل تنهمر دموع الشاعر على النكسات التي نعيشها في أوطاننا العربية؟

الشاعر لا يتوقف عن البكاء، ليس خارج القصيدة فحسب، لكن كل شعره بمثابة البكاء العميق في صدر الحبيبة الحنون، الحياة.

 

‪يقول حداد إن الكاتب العربي ابن تراثه بالدرجة الأولى، ولابد أن يحدث هذا الارتباط بينه وبين تراثه بشكل عفوي أو غير مقصود.. على عكس ما يذهب إليه البعض بإعلان القطيعة مع التراث؟

ليس ثمة قطيعة مع التراث، قلت في غير مكان، أن شرط القطيعة مع التراث الذي روّجت له أطروحات الحداثة الأولى، كان ضرباً من الخطأ الذي تحول مع الوقت خطيئة يتوجب تفاديها مبكراً، لقد أخطأنا في ذلك وقتها، لكننا تمكنا من تجاوز ذلك كثيراً، وأتمنى على الأجيال الجديدة أن لا تفرّط في التراث الغني بالابداع في ثقافتنا العربية.

بالحديث عن المواقف المعلنة تجاه قصيدة النثر، ومواقف العداء تجاهها من قبل من يمكن أن نسميهم الكلاسيكيين، واتخاذ موقف القطيعة وعدم الاشتباك معها، والرفض المسبق لها ودعم ذلك من الأنظمة العربية؟

ليس عدلاً القول بنفي اجتهادات الكتابة الشعرية الجديدة، بكل أشكال وأنواع التعبير، يظل ذلك اجتهاد شعري، كلما كان موهوباً وعارفاً لما يصنع، يتوجب علينا الإيمان بحريته في القول والتعبير الحر، أرى في نفي ذلك مساهمة في المصادرات السلطوية التي تحيط بالإنسان في حياته، بالطبع لم أعد أعتقد باستخدام تعبير ( قصيدة النثر)، لكن يحق لكل موهبة أدبية أن تكتب بما يروق وينسجم مع نزوعها الإبداعي، ففي الحياة متسع لكل أشكال التعبير.

جاء كتاب الجواشن كتجربة إبداعية همها الأكبر إلغاء الحدود بين الأنواع الأدبية.. إذا كان هذا ما ذهب إليه قاسم حداد وأمين صالح.. إلى أي مدى يمكن إلغاء الحدود بين الأنواع الأدبية.. وهل هذا يعني أننا أمام نوع أدبي جديد.. وهل تجاوزتَ فكرة الإخلاص لجنس أدبي بعينه؟

قلت منذ سنوات: المبدع هو من يرى في حدود أنواع التعبير آفاقاً لما يذهب إليه من أساليب التعبير، بل أن التطور المتسارع لوسائل و(وسائط) التعبير، يساهم في اتساع الآفاق الفنية في الفنون الادبية والفنية، صوتاً وصورة وكتابة.

‪كيف يتفاعل المبدع مع فكرة الجسد النص في ظل نقيضين متطرفين يبرزان الآن في العالم العربي، حالة الاحتجاج بالعري المطلق في مواجهة المستبد المطلق الذي يريد تحويل المرأة إلى أضحية على مذبح الفكر الأصولي؟

نساء يقدن مظاهرات في لبنان
نساء يقدن مظاهرات التغيير في لبنان

ليس ثمة حدود اخلاقية ( تقليدية) لأشكال التعبير الإبداعي، ثم أن الجسد البشري ليس شيئاً للاستعمال، إنه كيان جوهري الفعالية، لذا يتوجب الإيمان بحرياته العطاء والاخذ معاً، مثلما الحقوق والواجبات، ما دام الصدق.

يبدو لى شخصيا أنه بوجود طفول ومحمد اكتمل الشاعر الذي تريده فيك.. هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن تجربتك مع طفول ومحمد بصفتهما الامتداد الطبيعي للقصيدة وللشعر وللحياة؟

طفول ومحمد جناحان تمكنت من التحليق بهما في السنوات الاخيرة، نشأ الاثنان في الظروف التي ساعدتهما على نمو مواهبهما، وصار ريشهما الجسر الذهبي لهواء العمل الفني الذي نتشارك في إنجازه.

يقرءان معي مسوداتي الأولى لما أكتب، يناقشاني ويخلقان معي ويضعان الكثير من الإضاءات في طريق كتابتي، هل يمكنني الزعم أن من يصغرك بيوم يكون أعلم منك بعام؟ الحق أن الابناء يعلمون ويربون آبائهم في هذا الزمان، وحظي في هذا كثير.

‪يقول الشاعر والناقد المغربي صلاح بو سريف: الشعر دون وعي فلسفي، ودون انشغال بقلق الفكر ومعضلاته، سيكون الخيال فيه، ماء يجري في اتجاه مصب معتم.. وهذا يحرضني على سؤال حول مدى علاقة ما يطرح في المشهد الشعري في وقتنا الراهن والفلسفة وقضاياها، وهل مايجري في قصيدة النثر بمثابة تجديد لفظي؟

الوقت ينضج الشخص، وكلما نضج الشخص ازداد النص نضجاً، سيكون الشعر قليلاً اذا لم يتجوهر بالفلسفة، يتعلم هذا الشاعر فيما يتقدم في التجربة، سناً وكتابة، الرؤية هي التي تصقل الكتابة، وتجعل الفلسفة طاقة نورانية في النص، ولذلك نصحت أن تستعيد الأجيال الشعرية الجديدة الفلسفة إلى الشعر العربي.

الشاعر عبد المنعم رمضان والشاعر والناقد المغربي صلاح بو سريف
الشاعر عبد المنعم رمضان والشاعر والناقد المغربي صلاح بو سريف

‪يقول الشاعر عبد المنعم رمضان.. لايحتاج الشعر إلى لعبة أشكال أو لعبة أجيال ينتصر بها على معاداة السلطات له أو انصراف الجماهير عنه.. هذا يأخذنا إلى سؤال: أي شيء يحتاج الشعر؟

الحب.. الشاعر يصير قلباً مشحوناً بالحب، إذا هو ذهب إلى الكتابة بوعي المستقبل وحرية الحلم.

الشعر أهم من كل السلطات ومن السياسة.

في العمق، الحياة كاملة هي في خلايا الشعر، ولا يحتاج الشاعر للسلطات، بل ربما يتوجب على الشاعر تفادي حاجة السلطات له.

كثير ما واجهك سؤال لماذا تكتب.. وما جدوى الكتابة.. هل وصلت لإجابة تفسر لنا ولك معنى وجدوى الكتابة التي تسبقها عمر من القراءة؟

ليس أن تبحث عن جدوى الكتابة. الكتابة هي الجدوى.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock