نكمل تناول مذكرات الفنان الكبير محمد رشدي التي نشرها الكاتب الأستاذ سعيد الشحات عن دار ” ريشة ” تحت عنوان ” موال أهل البلد غنوة “.
كانت ثورة يوليو قد رسخت، وكان رشدي أحد كبار مؤيديها، فلكم تغنى بها وبمنجزاتها، ولكن بقي في نفس رشدي شيء، تجاه الغناء كله، إنه نفسه السؤال المؤلم:” مّنْ أنا وماذا أريد؟”
وما أشقى هؤلاء الذين يبحثون عن هويتهم وعن بصماتهم الخاصة الدالة عليهم.
في سنوات يوليو الأولى كان رشدي مشهورًا، لقد قدمه الإذاعي الكبيرعليّ فايق زغلول إلى الإذاعة المصرية التي كان يعد الوصول إليها معجزة، وفي الإذاعة كان هناك أسدها الحارس، الإذاعي الجليل محمد حسن الشجاعي الذي لا يتهاون مع أدني مخالفة، أصبح رشدي من مطربي الإذاعة التي كانت المتنفس الوحيد للمطربين إضافة إلى الحفلات المباشرة .
كان رشدي وقتها مشهورًا بأغنيته ” قولوا لمأذون البلد ” ولكن كان من المحتم أن يصطدم به رجل له ذائقة الشجاعي الذي قال له ذات يوم :” شوف يا ابني، أنا بقال عنده صنف اسمه عبدالوهاب، وصنف تانى اسمه أم كلثوم، وصنف تالت اسمه عبدالمطلب، ولو بعت اتنين من صنف عبدالمطلب أبقى بتاجر فى الخسارة، إذا كنت عايز تبقى محمد رشدى هقف جنبك، وبعدين بطل تتأفف وتتتنك زى عبدالمطلب كده”.
https://www.youtube.com/watch?v=Yn_PLGHQdu0
بعض المحن منح
ترك رشدي مجلس الشجاعي ليعود لضياعه، مطرب شاب وسيم صاحب قدرات صوتية جبارة لم يعثر بعد على بصمته الخاصة.
يخصص الكاتب الأستاذ سعيد الشحات فصلًا كاملًا ليقص علينا تفاصيل المحنة التي كادت تقضي على رشدي.
في الأول من يونيو من العام 1959 كان رشدي وآخرون يحيون حفلًا بالقرب من مدينة السويس، مضت الحفلة على خير، وفي طريق العودة صعد الفنانون إلى أتوبيس ليعودوا إلى القاهرة.
يقول رشدي: كنت أجلس بجوار الفنانة نادية فهمى، وتبادلت معها المقعد بناءً على طلبها، ثم فجأة تعرض الأتوبيس لحادث مروع، فورًا لفظت نادية أنفاسها الأخيرة، كانت رحمها الله تشبه أسمهان في صوتها، وكانت لها أغنيات من تلحين محمد الموجي ومحمود الشريف.
أصيب كل الذين كانوا في الأتوبيس بإصابات خطيرة جدًا، نقلوني إلى المستشفى العسكري في السويس، ومن شدة الألم طلبت من جندي أن ينهى حياتي، لم يغادرني مشهد تبادل المقاعد بيني وبين نادية، وكأننا فعلنا ذلك من أجل أن أعيش أنا وتموت هى.
لقد أصبح الفنان الشاب الوسيم مقعدًا لا يقوى على الوقوف على قدميه، أما وجهه المبتسم فقد تعرض لإصابات خطيره تركته شبه مشوه.
في سنوات ضياعه كان رشدي قد تزوج بسهولة، وأصبح أبًا بسهولة وطلق بسهولة ، تلك السهولة التي كان ينتهجها في رسم مسار حياته كانت تجعله فيما بعد يوبخ نفسه بأشد العبارات وأقسى الألفاظ، الآن هو متزوج من الثانية والأخيرة ، ولم يكن قد مر على زواجه الجديد سوى ستة أشهر فقط ، قال لزوجته في جلسة مصارحة قاسية:
“أنا معي سبعة جنيهات ونصف، وخدى ساعتي ودبلتي، وهو ده كل ما أملكه في الدنيا، أنا لن أنفع فنان مرة تانية، وجهى يحتاج إلى عملية تجميل، وعندي شعور بأني لن أقف على قدمي من تاني.. يا بنت الحلال أنا مش ممكن ألزمك بحياتي الصعبة دي، فكرى كويس في كلامي”.
ردت الأصيلة بدون تردد: “أنا معك لآخر العمر، ومهما كانت الظروف”.
إن كانت السيدة زوجة رشدي أصيلة فإن مصر هى أم الدنيا وأم كل أصل وكرم، لم تترك الدولة المصرية رشدي يواجه المحنة منفردًا.
يقول رشدي:” لقد انهالت التبرعات تلقيت من المشير عبدالحكيم عامر وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة 500 جنيه، وتلقيت من إبراهيم نوار رئيس تحرير جريدة الجمهورية 500 جنيه، وقررت الفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن التبرع لى شهريا بمائة جنيها حتى الشفاء الكامل، وقدم لي بليغ حمدي دعمًا ماديًا لا أنساه، ولأن الجرح كان عميقا في وجهى بحثت عن طبيب تجميل، وقرأت في الصحف أن طبيبا مصريا للتجميل اسمه جمال بحيرى ذاع صيته في العالم، اتصلت به، وأجرى العملية ونجحت.. استغرق الأمر شهورا طويلة زادت عن عامين”.
ثم كشفت المحنة عن جانبها المضيء، كان رشدي يكاد لا يغادر بيته فهو بعد كل العمليات التي خضع لها يسير معتمدًا على عكاز، سيتذكر تلك الأيام القاسية مع الشحات فيقول :”كنت أقضي وقتي في البيت تحاصرني الأسئلة.. كان هناك حوار دائم بيني وبين نفسي، حوار قربني من حاجات كنت أجهلها.. قرأت كما لم أقرأ من قبل.. تابعت الشأن العام بعين مختلفة.. ثقفت نفسى بنفسي.
أعدت تقييم تجربتي كلها من طفولتي في دسوق حتى حضوري للقاهرة.. اقتربت أكثر من الله، سألت نفسي: من أنا؟. ماذا أريد من الغناء؟.هل أنا مقتنع بما أغني؟.أين أنا بالمقارنة مع غيري؟.”
يواصل رشدي قائلًا : “واجهت نفسى بكل هذه الأسئلة وكانت إجابتي عليها: أنني كذاب..نعم كذاب..كذاب لأنى أغنى غير مقتنع بما أغنيه لا بالكلام ولا باللحن، وبهذه الطريقة لم يصدقني أحد، كذاب لأنى كنت أقضى وقتي في الغناء كوظيفة أحصل منها على أموال لأعيش.. حوارى مع نفسى قربني من حاجات كنت أجهلها .. اقتربت أكثر من الله، نفضت نفسي، أصبحت إنسانا جديدا، لكن كيف سأكون؟”.
الصحوة
يرحم الله محمود درويش قال :” لا بد من نثرٍ إلهي لينتصر الرسول ” والمعني لا بد من مدد وعون ، فالإنسان لا ينتصر بمفرده مهما عظمت قدراته ولا يستطيع الجواد الأصيل قطع الشوط لمنتهاه إلا بفارس مدرب حنون، في زمن المحنة عرف رشدي شيئًا مهمًا عن العوامل التي ساعدت رفيق دربه عبد الحليم في التربع على القمة، تلك العوامل تمثلت في جماعة الناصحين، وكان حول عبد الحليم حشدًا منهم.
هؤلاء الناصحين أطلق عليه الأستاذ الشحات وصف ” الظهير الثقافي” المكون من أسماء بارزة ظل رشدي يتذكرهم بكل محبة وخير حتى رحيله، منهم الكاتب الصحفي والروائي محمد جلال ثم رجاء النقاش، أحمد بهاء الدين، صلاح حافظ، محمود سالم.
قال رشدي للشحات: هؤلاء ساعدوني، ثقفوني، علموني، قالوا لى:
اقرأ كذا ..اعمل كذا..متعملش كذا..خد بالك من كذا..متنحرفش.
كان رشدي يتماثل للشفاء عندما طلبه الشجاعي العظيم وقال له: هذه فرصتك ولو ضاعت فلن تعرف النجاح أبدًا.
قدم إليه الشجاعي “موال أدهم الشرقاوي”.
جن رشدي فها هو البطل الشعبي بين يديه، طاف رشدي أنحاء البلاد ليعيد سماع الموال من أكابر مغنيه، بل جعل من مسكنه ورشة عمل دائم لشهور، يأتي بمغنيّ الموال ويتدرب معهم، وبكل الفرق التي تعرف غناء هذا الموال الشعبي التاريخي، لقد صنعت الفرق ضجة هائلة حتى أن جيران رشدي تقدموا بشكوى ضده للأمن.
بعد شهور شاقة من التدريب والسماع غنى رشدي كما لم يغن من قبل، لقد عثر أخيرًا على هويته وعلى بصمته الخاصة، غزا صوت رشدي مغنيًا الموال الأشهر لا مصر فحسب بكل كل أرجاء الوطن العربي.
أخيرًا أصبح رشدي هو الأول في هذا اللون من الغناء .
لقد كان زمن الستينات الذي شهد انتفاضة عظمى في كل مجالات الحياة في مصر، من بدء التصنيع الثقيل إلى تجديد دماء الموسيقى العربية والغناء العربي.
بعد موال الأدهم حدث اللقاء التاريخي بين الأبنودي شاعرًا ورشدي مغنيًا، من البداية ورشدي يحلم بأن يغني للحبيبة التي يعرفها، يغني لبنت من بنات الشعب، وليس أحسن من الأبنودي في التقاط تلك النماذج، لقد عاش الأبنودي قصة حب مع مدن القناة عامة ومع مدينة السويس خاصة، وفي السويس رأي ممرضة ستكون بطلة أغنيته الشهيرة جدًا ” تحت السجر يا وهيبة ” كان الأبنودي مصرًا على أن يكتب ” السجر ” لا الشجر فهكذا ينطقها أهله في الصعيد .
قرأ رشدي مطلع الأغنية الذي يقول :
تحت السجر يا وهيبه.. ياما كلنا برتقان
كحلة عينك يا وهيبه.. جارحه قلوب الجدعان
الليل بينعس على البيوت وعلى الغيطان
والبدر يهمس للسنابل والعيدان
يا عيونك النايمين ومش سائلين
وعيون ولاد كل البلد صاحيين.
فأدرك أن مغارة الأبنودي السحرية قد فتحت له أبوابها ليغترف منها كما شاء.
يقول الأستاذ سعيد الشحات: لحن عبدالعظيم عبدالحق الأغنية، وغناها رشدي في حفل في شهر مايو 1964، وصارت أكبر نقطة تحول في حياته.
قال رشدي للشحات:” كانت “وهيبة” وش السعد، الباب اللى اتفتح لي، وضعتني على السكة اللى ربطتني بالناس، أنا كان جوايا حاجة مستنية حد يطلعها، وعملها الأبنودي معايا، كلمات الأغنية كانت فتحا جديدا في الشعر الغنائي، كلمات جديدة، لغة جديدة، رائحة جديدة “.
بعد النجاح المدوي لوهيبة ، جاءت مرحلة بليغ حمدي ليعرف الغناء العربي الثلاثي الخطير، رشدي والأبنودي وبليغ وفي العام 1965 قدموا أغنيتهم الكبرى ” آه يا ليل يا قمر، والمانجة طابت على السجر”.
كل واحد من الثلاثة وجد بغيته لدى الآخرين، فتشبثوا بتجربتهم وحققوا نجاحًا جعل مكانة عبد الحليم تتراجع، فقرر خطف الاثنين بليغ والأبنودي، وكانت هذه ضربة قاسية لرشدي، الذي لم يستسلم وقدم مع حلمي بكر ملحنًا وحسن أبو عتمان شاعرًا أغنيته الشهيرة ” عرباوي “
بدايات الحصار
ظل نجم رشدي في صعود وتوهج حتى مات عبد الناصر، شعر رشدي باليتم، كان عبد الناصر الأب وصانع الأحلام التي صدقها رشدي بكل يقينه وغنى لها مقتنعًا بها ومبشرًا بغد عربي حر وعادل ومشرق.
لقد فسد الهواء الذي كان يتنفسه رشدي .
شيء ما في المعادلة التي بينه وبين السلطة قد أختل، الأبنودي أصبح من أشرس معارضي السادات، وبليغ غارق في العمل مع وردة وعفاف راضي، ورشدي يشعر بأن غرابًا يرفرف بجناحيه الأسودين فوق رأسه.
ثم جاءت كامب ديفيد، فأدرك رشدي أن الغراب قد حط فوق قلبه، ففلسطين لم تكد عند رشدي وجيله من الفنانين همًا سياسيًا، لقد كانت همًا أخلاقيًا في المقام الأول، أن تساند المظلوم وتتصدى للظالم، وتلك هي القضية.
عن تلك الأيام النحسات يروي الأستاذ الشحات:” أمسك رشدي بيدي فجأة. أوقفني عن السير معه في شارع “الحسن” بحي المهندسين وقال بحسرة: “ليه كده يا عبدالناصر”؟!
بدا السؤال تعبيرا عن الغضب من الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، ولأنى أعرف حبه الشديد له، وأعلم جيدًا أن صعوده الفني ارتبط به، وأن قصة حياته الفنية كلها مرتبطة بقصة ثورة يوليو ،١٩٥٢ وزعيمها جمال عبدالناصر، ولأنى أعرف كل ذلك، سألته متعجبا: “ليه يا أستاذ بتقول كده؟”.
رد: “خلانى حلمت.. جريت ورا الحلم.. وفى الآخر غيرنا هم اللى كسبوا”.
كان نظام السادات يسعى بكل طاقته لحشد الفنانين لتأييد كامب ديفيد، كانت أم كلثوم قد ماتت وكذا فريد وكذا عبد الحليم، هؤلاء نجوا بموتهم من الفخ ومن مرارة التجربة، بقى من الكبار رشدي الذي لا يستطيع المعارضة ولكنه لا يستطيع المباركة، فذهب إلى كهف الصمت.
في مثل تلك الظروف يفسر الصمت ضد صاحبه، وكأن السلطة تقول للصامت: صمتك يعني عدم موافقتك وإذا كنت تريد الصمت فسنجعلك تصمت.
وهذا ما جرى مع رشدي، لقد تجاهلته كل الدعوات الرسمية بل وشبه الرسمية عن عمد وجرى وضعه في جب النسيان.
تحمل رشدي جب النسيان ولكن السلطة لم تتحمل فقد نفد صبرها عليه.
يقول رشدي للشحات:”جاء لي مسئول أمنى كبير ليناقشني، جلس على الكنبة دى (أشار إليها).. كلمني على إغراءات كثيرة مقابل إعلاني التأييد والغناء.. كانوا بيحاولوا حشد الفنانين، لكنى تحدثت معه بحدة، وكان الرد هو زيادة الحصار الفني على”.
تغريدة البجعة الأخيرة
ظل الحصار قائمًا ، حتى رحل السادات وتولى الإذاعي الكبير فهمي عمر رئاسة الإذاعة فعهد إلى رشدي غناء مقدمة ونهاية مسلسل ” لا إله إلا الله “
https://www.youtube.com/watch?v=vY3hMSfgySU
رشدي ابن الموالد وسرادقات القطب إبراهيم الدسوقي سيلجأ إلى مخزونه الثري وسيغني بطريقة ساهمت في نجاح المسلسل.
ثم بعدها جاءت انتفاضة الحجارة الفلسطينية فألقى رشدي بثقله خلف أطفال الحجارة الذين كانوا يواجهون بصدور عارية جيش الصهاينة، طاف رشدي أرجاء الوطن العربي داعمًا للانتفاضة، وعاد صوته للتألق كأنه لم يغب سنوات عن الساحة.
ثم بدأت مؤشرات الرحيل، مات عبد الوهاب في أول التسعينات ولحق به بليغ، كان رحيل بليغ ضربة قاصمة لظهر رشدي، لأن العلاقة بين الاثنين تجاوزت علاقة الصداقة لقد كانا قلبًا واحدا مقسمًا بين جسدين، سيبكي رشدي بليغ كثيرًا ثم سيركن إلى الصمت، حتى يلتقط الشحات دموع الأبنودي وهو يودع رشدي إلى مثواه الأخير في الثاني من مايو من العام 2005