بعض المتعاطفين مع الإسلاموية في الأكاديميا الغربية مثل آصف بيات في كتابه “ما بعد الإسلاموية” الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي” يراهنون على أن الإسلاميين سيتغيرون تحت ضغط وإكراهات الواقع نحو الديمقراطية وحقوق الانسان ومبادئ التعايش المشترك وتقبل الآخر.
يطلق هؤلاء المتعاطفون علي ذلك التحول “ما بعد الإسلاموية” كمحاولة لتأطير المفاهيم ووضع استراتيجية لبناء منطق ونماذج متجاوزة للإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية وذلك بدمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالديموقراطية والحداثة، لتحقيق ما أطلق عليه البعض “حداثة بديلة” أو “حداثة من الداخل”.
باختصار يرى هؤلاء أن “ما بعد الإسلاموية” تمثل نوعا من القطيعة مع إرث “الإسلاموية” باعتبارها نوعا من الوصل مع إرث الإصلاح الديني على الطريقة الغربية.
كنت أرد علي هؤلاء المتعاطفين قبل الربيع العربي بأننا نستطيع أن نقول بنفس المنطق أن الإسلامويين عندما تخف الضغوط عليهم بعد أن يصلوا إلى الحكم مثلا، فانهم بلا جدال سيتغيرون أيضا، ولكن في تلك الحالة سيعودون الى نسختهم الأولية من فهمهم للدين للاستقواء بها واحتكار الدين والفضاء العام والدولتي. نسختهم الأولية هذه التي تشكل نظرتهم الحقيقية للحياة وتضمن لهم التجييش ورفع الشرعية عن جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الآخرين في المشهدين السياسي و الديني في المجتمعات الإسلامية.
أثبت الربيع العربي أن مصير الإسلاموية هو موتها وأفولها (nécro-islamisme) وليس ما بعدها (post-islamisme) بالمعني المذكور أعلاه كما بينت مع زميلي البروفسيور باتريس بردور في كتابنا الإسلام السياسي فى زمن ما بعد الربيع العربي: هل حان موت الإسلاموية.
في هذا الكتاب شرحنا كيف فقدت الإسلاموية بعد الربيع العربي حواضنها (في نطاق الدولة الوطنية والمنطقة العربية و العالم) و التي كانت تدعم الإخوان والإسلاميين بشكل كبير قبل عام 2011 ،حيث تلخصت ردة فعل الإخوان علي سبيل المثال في صورتين: الصورة الأولي هي العودة التامة إلى خطابهم المؤسس بما يتضمنه من تكفير الآخر والتنظير والتبشير بالخلافة والشريعة والشرعية الدينية للحكم السياسي واحتكار التحدث باسم الدين….إلخ.
وهذا ما أسميه (rétro-islamisme) والذي يجسد مرحلة تورط الإخوان بشكل غير مسبوق في التطرف والعنف (حالة مصر).
أما الصورة الثانية فتمثلت في التخلي بشكل كلي عن كل المباديء المؤسسة للاسلاموية وهو ما يعد تفريغًا للإسلاموية عن كل ما كان يميزها عن التيارات الأخرى العلمانية أو الإنسانوية …الخ . وهذا ما أسميته (néo-islamisme) وكلا الطريقين سيؤديان الي موت الإسلاموية nécro-islamisme لأنها في صورتها المبدئية (أي نمط تدينها المؤسس) لم تعد مقبولة وفقدت سحرها بالكلية وفي حالة التخلي عن كل مبادئها المؤسسة تكون قد اندثرت، أى أنها نفت نفسها بنفسها. فالمصير المحتوم هو “موت الإسلاموية” أى الفكر السياسي لحركات الإسلام السياسي المتطرفة، ففي مرحلة ما بعد الربيع العربي، فقدت الإسلاموية الحاضنة المجتمعية التي كانت تتمتع بها، حيث تغيرت الذهنية العربية الإسلامية “غير الإسلاموية”.
ويمكن هنا رصد عدد من المؤشرات على فرضية أفول الإسلاموية في الوقت الراهن:
المؤشر الأول هو أن شريحة كبيرة من المجتمعات العربية أدركت أخيرًا أن “الإسلاموية هي المشكلة” و بأنها لم تكن أبدا حلاً لأي مشكلة.
أصبح الإسلام السياسي بعد الربيع العربي مكروهًا مجتمعيًا و تعتبره الدولة الوطنية العربية عدوها الأول بعد أن بات مصدر الصراعات التي تُمزق النسيج الاجتماعى والوطنى للدول عربية، ومصدر تأجيج الاختلافات المذهبية ووقوداً لاستمرار الصراعات في المنطقة، بما يهدر طاقاتها ويهدد مقدرات شعوبها.
المؤشر الثاني هو إدراك شريحة كبيرة من الناس بأن “الإسلاموية” ليست هى الإسلام، فالإسلاموية هي رؤية سياسية شمولية حركية للدين تعتقد أن هناك نموذجا معدا مسبقًا يجب على المسلم اتباعه وغير مسموح له بغير ذلك.
نموذج هم واضعوه في الحقيقة ولكن يلبسونه رداء القداسة، شبكة البارومتر العربي البحثية في أكبر وأوسع استطلاع للآراء في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح بي بي سي عربي علمي 2018 و 2019 أن الشباب العربي يدير ظهره لجماعات الإسلاموية.
المؤشر الثالث هو الإدراك أن كل الجماعات الإسلاموية بمختلف أطيافها وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين تتشارك نفس المبادئ المؤسسة: لا تعترف بالأوطان وحدودها، تخلط بين الدين والسياسية فتدنس الديني بإنزاله لمستوى السياسي وترفع من شأن السياسي بتقديسه فينتج خلطة أيدولوجية يختلط فيها الرأي والتفسير بالنص المقدس فيتداخلان ويكونان تدينًا جديدًا ينفجر إن عاجلا أو أجلا، في وجه كل من لن ينضوي تحت لوائه. كما تبين أن كل تلك الجماعات تستخدم الدين في تحقيق مصالحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أدركنا أن هذه التيارات تؤمن بالديمقراطية كوسيلة تستطيع من خلالها الوصول إلى السلطة فقط، إلا أنها لا تؤمن كثيرًا بجوهر العملية الديمقراطية، والمتمثل في احترام التعددية والسعي للعمل المشترك مع كافة الأطراف السياسية والمجتمعية.
المؤشر الرابع: نستطيع القول بأن الجماعة تنقسم وتتفجر من الداخل، استقالة الجلاصي (القيادي في حركة النهضة) والتي أرجعها بوضوح إلى الأمراض الاجتماعية والإدارية التي ستفجر الجماعة من داخلها، وأهمها تركز الموارد والمصالح والقرار في يد واحدة، وتهميش مؤسسات الحركة والسفه في إدارة الموارد المادية والبشرية وانتشار الشللية والتدخلات العائلية، وهوس التنظيم السري ورهاب المؤامرة وتقديس القيادة.
المؤشر الخامس: أصبحت الجماعة مضيق عليها ومشكوك فيها على المستوى الإقليمي والدولي، مما أدى إلي إعلان اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا رسميًّا فك الارتباط بجماعة الإخوان، وإعلان حركة حماس الانفصال عن جماعة الإخوان المسلمين، وإلغاء مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين في الأردن تبعيتها للجماعة الأم في مصر.
ولا ننسي في هذا الإطار تقرير “جنكيز- فار” الذي أعدته لجنة التحقيق في أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في المملكة المتحدة بقيادة السير جون جنكيز السفير البريطاني السابق لدى الرياض، وتشارلز فار رئيس جهاز مكافحة الإرهاب والذي أقر أن بعض قطاعات الإخوان لديها صلة غامضة بالعنف، وأن الكثيرين اعتمدوا على فكر الإخوان وتنظيمهم كمعبر للتطرف كما أن منصات الجماعة الإعلامية حتى منتصف 2014 كانت تبث بيانات تحرض عمدًا على العنف في مصر.
من كان يتصور أن يخرج ذلك التقرير من لندن والتي يصفها البعض بأنها عاصمة التنظيم الدولي للإخوان.
على المستوى الإقليمي لأول مرة نجد تحالفا استراتيجيا بين دول بأهمية مصر والسعودية والإمارات يضع في القلب منه القضاء على الإسلاموية.
أما المؤشر السادس والأخير على زوال الإسلاموية فهو فشل “النموذج التركي” الذي كان يقدم على أنه النموذج الذي ينظر لإمكانية الدمج بين الإسلاموية والديمقراطية على نحو فعال.
ختاما لا يعني زوال حركات الإسلاموية الاختفاء الفوري أو الاندثار التام لها ولفكرها، و لكن يعني أن التأثير الذي كان لديها قبل الربيع العربي لن يعود أبداً كما كان.
هو نوع من الموت الإكلينيكي يجعل حركات الإسلاموية لا تغادر أبداً نطاق الهامش وكلما استعادت الدولة الوطنية قوتها ومكانتها ودورها كلما اضمحلت الإسلاموية.
وهذا الموت الإكلينكي هو ربما الذي يفسر استمرارية وجود الحواضن الفكرية والاجتماعية للإسلاموية في عدد من الدول العربية حتي الآن سواء كانت ملكيات تسمح للإخوان بهامش معين من المشاركة في الحكم، أو كانت “جمهوريات” مقسمة طائفياً تعاني من النزاعات الداخلية المسلحة.
لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟ (1)
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية؟ (2): هل الإسلاموية لاهوت تحرير أم تكفير؟
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية (3): هل الإسلاموية تيار ينتمي إلى ما بعد الحداثة؟
لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية؟ (4): هل الإسلاموية هي الإسلام أم هى التيار المتغلب إعلاميا؟