منذ القِدم، كان هناك دائماً مَن يثرون من وراء الكوارث، طبيعيةً كانت، أو مِن صُنع الإنسان الذي غالباً ما يجد مَن أو ما يدفعه إلى افتعال الحروب مثلاً، فتزدهر تجارة السلاح، على حساب أبرياء، منهم مَن يلقى حتفه، ومنهم مَن يُكتَب عليه العيش بقية عمره بعاهةٍ، أو يغرق في فقر لا أمل مطلقاً في تجاوزه.
ذلك هو موضوع كتاب “رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحاً طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية؟”، الكتاب تأليف أنتوني لوينشتاين، وهو من كتاب صحيفة الغارديان البريطانية ويصنف ضمن فئة “الصحافيين الجوالين”، ترجمة أحمد عبد الحميد، سلسلة “عالم المعرفة”، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، وفي تصوري تعد قراءته مهمة في ظل الكارثة التي حلت ببيروت أخيراً ودفعت الحكومة اللبنانية إلى الاستقالة بعد إقرار أعلى مستوياتها بأن الفساد في هذا البلد بات يستعصي على العلاج، على الأقل في ظل وجود فئة من النافذين تفتعل الكوارث لتحافظ على ثرائها ، عبر صلات سرية أو حتى معلنة مع كيانات خاصة عابرة للجنسيات باتت تضطلع بأنشطة كانت تقليدياً مِن صلب مهام الدول.
صدر هذا الكتاب في طبعته الأصلية في العام 2015، تحت عنوان Disaster Capitalism: Making a Killing Out of Catastrophe وفي خاتمته يقتبس المؤلف قولاً للكاتبة الهندية أرونداتي روي: “في مكان ما على الطريق اختزلت الرأسمالية فكرة العدالة، لتعني “حقوق الإنسان” فقط، وأصبحت فكرة الحلم بتحقيق المساواة كفراً. نحن لا نقاتل من أجل إصلاح هدا النظام بل يجب استبداله”.
المراد بالنسبة إلى النماذج الواردة في الكتاب هو تحقيق الربح بأي ثمن. تختلف الطرق لبلوغ هذا الهدف من مجتمع إلى أخر، لكن الاستراتيجية تبقى واحدة: المغالاة في التهديدات، سواء كانت من صنع الإنسان أم طبيعية، ثم إطلاق العنان لمقاولي القطاع الخاص غير الخاضعين للمساءلة باستغلالها.
عن الوجه القبيح للرأسمالية
هذا الكتاب الذي يعد نتاجاً لبيئة ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، يكشف الوجه القبيح للنظام الرأسمالي الغربي، ويسقط القناع الذي يخفي وراءه هذا النظام لكي يستمر في ممارساته لاستغلال الشعوب الضعيفة في العالم، والاستفادة من المآسي الإنسانية للاجئين والكوارث الطبيعية والصراعات من أجل التربح، ومواصلة النهب الممنهج لخيرات هذه الشعوب ومواردها، واستنزاف ثرواتها الطبيعية لمصلحة الحكومات الغربية والشركات متعددة الجنسيات.
لقد خلَّفت السياسات الرأسمالية التي تتبعها الدول الكبرى مآسي وكوارث لشعوب كثير من الدول تحت اسم “تحقيق التنمية وتعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان والأعمال الإغاثية”، إذ أن النتائج دائماً ما كانت سلبية، وبعيدة عن المخطط له، فضلاً عن أنها حاولت إطالة أمد هذه الكوارث، ليصبح الأمر أشبه ما يكون بتجارة كبرى تدر البلايين على الشركات والمقاولين.
في هذا الإطار وعبر أسفاره التي تنقَّل فيها بين أفغانستان وباكستان وهايتي وغينيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا واليونان وأستراليا، يضعنا مؤلف هذا الكتاب الصحافي الأسترالي أنتوني لوينشتاين من خلال نهجه الاستقصائي، أمام حقيقة الواقع الكارثي الذي صنعته الرأسمالية، ويبين كيف يمكن للشركات العملاقة أن تستغل البؤس المنظَّم في عالم خفي لمراكز الاعتقال المخصَّصة، والتربح من المساعدات وصناعات التعدين المدمرة.
ويسلط الكتاب الضوء على الشبكات السرية التي تشكلت لمساعدة الشركات على جني الأرباح من الأزمات الاقتصادية العالمية، كما يحاول المؤلف أن يظهر من خلال تقاريره هذه، التاريخ المظلم للشركات المتعددة الجنسيات التي بمساعدة من وسائل الإعلام والنخب السياسية في الدول المنكوبة باتت أقوى من الحكومات الوطنية، ليؤكد أنه في القرن الحادي والعشرين أصبح السكان الضعفاء هم السلع الأكثر قيمة في العالم، تستهدفهم الشركات وتلحق بهم الويلات تحت شعارات برَّاقة.
وفي ضوء القدرات الآخذة في التراجع للصحافة الغربية، أصبح الأمر يتوقف على الفرد: المدوِّن؛ والمغرد، لتوثيق الآثار الناجمة عن رأسمالية الكوارث، حتى يمكن توفير ما هو مفقود من وسائل الإعلام الرئيسية: الرؤية على أرض الواقع، بحسب ما ينتهي إليه لوينشتاين.
ويرى المؤلف كذلك أن التحدي من أكبر ما يكون، فمن بين 175 من أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم في العام 2011، بما في ذلك الدول، كانت هناك 111 شركة متعددة الجنسيات. وفي الوقت الحالي في مقدور أحد سكان القرى في هايتي الاتصال إلكترونياً وبسرعة مع ناشطة في سيدني لإبلاغها بوجود تسرب كيميائي في أحد المناجم. ويمكن لمدون أفغاني أن يصف لجمهور في جميع أنحاء العالم فساد أحد مسؤولي الحكومة.
الوعي لا يحدث تغييراً بالضرورة، لكنه يعد الخطوة الحيوية الأولى لتحقيق ذلك.
إن ما يمكن أن نفعله بهذه المعلومات، ونحن نعيش في بلدان لديها القوة هو خيارنا نحن، كما أن عكس مسار الاتجاه الذي تسلكه الرأسمالية المستغلة يعني أيضاً تقديم بديل لما يبدو أنها مفاتنها المغرية.
كتب المستشار المالي ساتياغيت داس أن “الجميع يقترضون والجميع يدخرون، ومن المفترض أن يصبح الجميع أكثر ثراء. لكن فقط المطلعين المهرة هم من يصبحون أكثر ثراء، حيث يمكنهم إدارة وتزوير قواعد اللعبة”.
يأتي هذا الكتاب ليكشف عن هؤلاء اللاعبين السريين ويفضح أساليبهم، ويتعرف على الجماعات المالية والاجتماعية والسياسية التي خلقت هذه الفوضى في البلاد التي شملها الاستقصاء وغيرها ممن لم يشملها، ومنها كثير من البلاد العربية التي لا تقل نكبتها الناجمة عن استشراء الفساد وغياب الشفافية عن نكبة لبنان، ومن ثم يطرح القضية من أجل التغيير.
دولارات الموارد
يؤكد مؤلف الكتاب على أنه من الضروري المطالبة بقدر أكبر من الشفافية من تلك المؤسسات التي تخلق الأزمات أو تعمل على إطالة أمدها، وهذا يتضمن المنظمات التي تدير سجون طالبي اللجوء، وتلك التي تسعى إلى تقويض الاستقلالية وسبل المعيشة لدى السكان المحليين في سعيها إلى الحصول على دولارات الموارد.
كما يتضمن ذلك هؤلاء الذين يبيعون معلومات مشكوكاً فيها للقوات الأميركية في “الحرب على الإرهاب”، فهؤلاء يعمدون إلى إخفاء جشعهم وراء قناع زائف بزعم مساعدة الولايات المتحدة في الفوز في معركتها ضد الإرهاب، في حين أنه واضح أن الوطنية والاستقرار العالمي لا يمثلان الدافع الحقيقي وراء تصرفاتهم هذه. والحقيقة بحسب المؤلف، هي أن الرأسمالية المفترسة تواجه مقاومة في جميع أنحاء العالم، فهناك معارضة متزايدة لحقيقة أن الغرب أصبح أكثر قليلاً من كونه مجتمعاً مسوراً محصناً بشدة، يستغل الموارد والناس في سعيه إلى زيادة أرباحه وتحقيق مفهوم سلام يخدم مصالحه الذاتية.
وثمة رؤية تتطور -يؤكد لوينشتاين- بشأن كيف يمكن تنظيم العالم بطريقة مختلفة، حيث تزدهر ديموقراطية حقيقية من الأسفل إلى الأعلى، كما أن الطموح المتمثل في تطوير حلول جماعية، مع اضطلاع مصالح عامة وخاصة بالحد من عدم المساواة والفقر والمرض، ليس نظرة شيوعية إلى الوراء: إلى القرن العشرين، ولكنه شرط أساسي من أجل مستقبل واقعي وضروري.
ويذكر أن الكاتبة الصحافية الكندية نعومي كلاين، كانت أول من صاغ مصطلح “رأسمالية الكوارث”، في كتابها “عقيدة الصدمة” الصادر في العام 2007، وهي ترى أن برامج الخصخصة وتخفيف الرقابة الحكومية أو إلغاءها، والاستقطاعات العميقة في الإنفاق الاجتماعي غالباً ما تُفرض بعد وقوع كوارث ضخمة، وقبل أن يتمكن الضحايا من تجميع أنفسهم والمطالبة بما هو حق لهم.
ويبقى أن كتاب لوينشتاين الذي يتألف من 439 صفحة، يهدف إلى إحداث صدمة واستفزازا، وإماطة اللثام عن عالم قد تطور خلسة. وهو يهدف كذلك إلى الإصرار على أن البدائل ممكنة، وأظن أن اضطلاع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، قد أحسن صنعاً بترجمته إلى اللغة العربية، ورغم خلو الكتاب من نماذج لكوارث عربية، إلا أن ورودها على الذهن أثناء قراءته يعتبر أمراً حتمياً، ومتسقاً في الوقت نفسه مع عالمية “رأسمالية الكوارث” باعتبارها حالة يمكنها التغلغل في ظل الفساد المعولم، حتى في أنظمة تزعم أنها تحارب الرأسمالية، وتعمل على إفشاء العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.