لا يمكن الحديث عن السلفية بوصفها خطابا فكريا واحدا فهى – فى الحقيقة – مجموعة من الخطابات والمفاهيم المتناقضة، ناهيك عن تناقضاتها السياسية حيث تحرم بعض جماعاتها معارضة الحاكم إطلاقا أو حتى نصحه جهارا على الملأ بينما تبيح أخرى معارضته والخروج عليه ومواجهته بالسلاح باعتباره ” طاغوتا” يحكم بغير ما أنزل الله، أو تحرم المشاركة السياسية أصلا لقناعتها بأن الديمقراطية نظام “كفرى” مأخوذ من الغرب “العلمانى” “الإلحادى”، ولأنها – أى الديمقراطية – تعطى الإنسان الحق فى التشريع لنفسه فى حين أن التشريع حق مطلق لله حيث ” لا حكم ” إلا له، ويمكن تفسير هذه التناقضات على أساس أن ” السلفية ” يغلب عليها طابع الحركات الدعوية الخدمية وتفتقر إلى آليات الخطاب الفكرى.
ولكن على الرغم من هذا التباين الكبير في رؤى الجماعات السلفية ومواقفها السياسية على وجه الخصوص، فإن ما يجمعها أنها تنطلق كلها من مفهوم واحد وهو ضرورة العودة إلى فترة السلف الصالح التى تبدأ بحكم الرسول والصحابة والتابعين وتابعى التابعين إلى نهاية القرن الثالث الهجرى تصديقا لقول الرسول “خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، وبناء على هذا التصور فإنهم يرفضون كافة الفرق الإسلامية الأخرى، خاصة المعتزلة والمتصوفة ويرون أنفسهم وحدهم “الفرقة الناجية” التى تمثل ” نقاء الفهم والتطبيق للمرجعية الدينية والفكرية قبل ظهور الخلاف والمذاهب والتصورات التى وفدت على الحياة الفكرية الإسلامية”، على اعتبارأن “الفهم الصحيح يكون عبر تطبيق القرآن والسنة النبوية بفهم الصحابة والسلف الصالح والابتعاد عن التأويلات الفلسفية والفكرية، خاصة أن المسلم ليس فى حاجة إلى هذه التأويلات والمذاهب الوافدة، فالقرآن والسنة – كما يقول ابن تيمية – لم يتركا شيئا من أمور المسلمين إلا وتناولاه “، كما أن الإنتاج الفكرى الدينى” تم ” فى القرون الثلاثة الأولى وعلينا ” الاتباع” لا ” الإبداع”، ومن يبتدع أمرا فهو مضلل أو كافر، فالإبداع – عندهم – بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
ورغم دعوة البعض إلى ضرورة الاجتهاد فى بعض المسائل حيث إن هناك من يرى أن كلمة السلف يدخل فيها” كل مجتهد من علماء الإسلام فى أى عصر من العصور حتى ولو لم يكن من الصحابة أو التابعين أو تابعى التابعين ” ( محمد حافظ دياب ، ” السلفيون والسياسة “)، وهو مايتسق مع قول ابن القيم بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ” يجتهدون فى المسائل ويقيسون بعض الأمور على بعض أو يعتبرون النظير بنظيره ” ( المصدر السابق)، ولكن بعيدا عن هذا الرأى الاستثنائي وغير الشائع في أوساط السلفيين، فإن كراهيتهم للاجتهاد تمثل ” المتن الأساسي ” لغالب طرقهم.
السلفية النصوصية
المقصود بالسلفية النصوصية تلك التى تعتمد على ظاهر ” النص” وتنفر من التأويل والتفسير المجازى وإعمال العقل، وترجع هذه السلفية إلى القرن الثالث الهجرى ممثلة فى مدرسة أهل الحديث والأثر تحت لواء أحمد بن حنبل، وكان ذلك فى مواجهة المعتزلة فى العصر العباسى.
وقد تعرض ابن حنبل للتعذيب والسجن بسبب هذه الدعوة، حتى أفرج عنه ” المتوكل ” وانتصر لمنهجه الذى انتشر انتشارا واسعا فى القرن الرابع الهجرى حيث أصبح هو المنهج الرسمى للدولة العباسية فى عهد الخليفة القادر بالله بناء على منشور ” العقيدة القادرية ” الذى كتبه الخليفة وأخذ عليه توقيع العلماء والفقهاء، وأمر بتلاوته فى المساجد يوم الجمعة.
ورغم تعرض هذه الدعوة للانحسار نسبيا فيما بعد فقد عاودت صعودها – مرة أخرى – على يد ابن تيمية، وكان ذلك بسبب وهن الحضارة الإسلامية وتعرض العالم الإسلامى لهجمات المغول وتدمير بغداد وانتشار الشطحات الفكرية الصوفية وتأويلاتها المثيرة للجدل وغلق باب الاجتهاد فى نهاية القرن السادس الهجرى والاكتفاء بما قدمه العلماء المسلمون فى العلوم الدينية.
من الواضح إذن أن صعود السلفية كان رد فعل لضعف الحضارة الإسلامية وتعرضها للانهيار مع سقوط عاصمة الخلافة، كما كانت رد فعل لشيوع الفلسفة اليونانية وعقلانية اليونان التى هيمنت على بعض المذاهب الفكرية فى فترة ابن حنبل، وهذا ما نلاحظه فى صعودها الأخير على يد محمد بن عبد الوهاب الذى عاصر مرحلة التشتت والتشرذم فى المجتمع الإسلامى ووقوع معظم الأقطار العربية تحت هيمنة الاستعمار الأوروبى.
يعلو النص فى منهاج هذه المدرسة على غيره بل ويكاد أن ينفرد بالحجية .. فالنص وفتوى الصحابة والمختار من فتوى الصحابة عند اختلافهم والحديث المرسل والضعيف ثم القياس للضرورة هى الأصول الخمسة التى حددها أحمد بن حنبل أركانا لمنهج هذه المدرسة رافضا بذلك الرأى والقياس والتأويل والذوق والعقل والسببية فى الفكر الدينى ” ( ” الوسيط فى المذاهب والمصطلحات الإسلامية ” ). وإذا كان هذا هو منهج مدرسة أهل الحديث فى الحجاز فقد كانت هناك – فى مقابلها – مدرسة أهل الرأى فى العراق التى ” مالت إلى التقليل من الأثر لصالح التأويل وإعمال الرأى أمام النص والتقيد فى فهم النص بموجب إعمال العقل والتعليل، وهو ما نجده لدى أبى حنيفة النعمان الذى اتهم بالخوض فى علم الكلام لأخذه بمنهج الاستنباط واستقصاء علل الكلام وسمي أتباعه من بعده بأهل الرأى ” (محمد حافظ دياب، ” السلفيون والسياسة “) ويعد فقه الشافعى وسطا بين أهل الحديث وأهل الرأى أو محاولة للتوفيق بينهما.
واللافت – حقا – أن هذه التوجهات الثلاثة مازالت فاعلة إلى الآن، ومع ذلك فإن السلفية النصوصية تحديدا هى ما سوف يعنينا فى المقالات اللاحقة لانتشارها الواسع وهيمنتها على العقل السلفى وخطورة ماتطرحه من أفكار مثل الدعوة إلى عودة الخلافة على حساب النزعة الوطنية، ورؤاها ومواقفها السلبية المجافية للعصر إزاء الديمقراطية والمواطنة وتجاه المرأة أيضا، وهو ما سنفصله في المقالات القادمة ضمن هذه السلسلة.