بدأت علاقته بالفنون مبكرا جدا، وجاء الرسم والنحت أول عتبات السلم في طريقه للبحث عن طريق، اشتغل بالرسم لا لشيء سوى أنه يمنحه سعادة تأتي عبر شهادات الآخرين بما أنجزه، ثمة رسم لوردة طبق الأصل تخرج رائحتها عبر الورق ، أو نحت بطين الأرض لعصفور يشق طريقه إلى السماء تركه بعيدا لم يستمر الأمر كثيرا ولم يبق للرسم والنحت مجال ولا وقت، فكان الشعر سيد كل الفنون والأقرب إليه ّ، ذلك أن حضور الشعر طاغ ويأتي دون إذن، وفي أي وقت ينقض كقط بري يخربش الروح بمخالبه.
قدم خلف جابر 3 مجموعات شعرية ” عجلة خشب، أربعاء أيوب ،من أعلى نخلة في الصعيد عيل بيطير غناوية للقاهرة” إلى جوار منجزه الشعري كانت كتابة السيرة الغيرية لعدد من الشخصيات منهم نجيب محفوظ ، ترامب ، محمد صلاح وغيرهم، تحصل على جائزة عبد الرحمن الأبنودي ومن قبلها كان قد تحصل على جائزة أحمد فؤاد نجم ، التقينا مع الشاعر الشاب الذي يعد من أبرز الأصوات الشعرية في شعر العامية المصرية وكان لنا هذا الحوار:
عن البدايات يقول خلف جابر يبدو أننا غالبا ما نحتاج إلى من يشير لنا أن ثمة شيء مختلف لدينا، شيء مغاير لما هو سائد ومطروح ويحمل صدقا ما. بالتأكيد هناك شخص ظهر مبكرا في حياتي ليحرضني ويدفعنى على تنمية ما هو موجود لدي، يمكن لي أن أقول بطمأنينة أن مدرسي في المرحلة الإعدادية هو من عرفني، المحزن في الأمر أنه شاعر ولولا ربط نفسه كليا بالقرية لاختلف الأمر كثيرا معه ، كوني أرى أن تجربته مع الكتابة هي تجربة مختلفة وفارقة، ويبدو أننا مع الوقت كنا نتبادل الأدوار.. كلٌ منا يشاورعلى الآخر بطريقته.. كل منا يمتن لتجربة الآخر بطريقته.. فقط الوقت من يحسم الأمر .
في أواخر الثمانينيات كانت الانتفاضة الفلسطينية، وكانت بمثابة النقطة الأولى لتشكيل وعي حي وذهاب إلى نقطة أبعد في معرفتنا بما يجري في وطننا العربي، كانت بمثابة بعثا لقضايا كبري، كنا نسمع عنها، لكن غالبا ما كانت راكدة. ما حدث أن جيلي كله تشكل وعيه وأحاسيسه بما جرى في تلك الفترة..من اندلاع المظاهرات المنددة والرافضة لما يحدث في الأراضي الفلسطينية.. واللجوء للشعر كأحد أدوات الرفض والثورة.
أشياء أخرى جعلت التمسك بالشعر ضرورة، منها تحقيق مركز أول جامعة حلوان ومن ثم مركز أول جامعات مصر، وثالث مركز أخبار الأدب. الشعر كان مسابقة كبرى مع الحياة والتحقق ومن هنا بدأت علاقتي بالشعر تكبر وتأخذ مساحات أكبر في التواصل مع الآخرين.
البحث عن الشعراء ليس فقط عبر قراءة الآخر، شيء ما كان يحتم علي أن أتعرف على مجموع من يتعاطون مع الشعر قراءة وكتابة، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس حركة صعاليك الثقافية2012 “محمد جعفر، محمد فرغلي، إسلام بجول، تيمور هيكل، ياسمين سعد، ياسين محمود ” وقد تبدو كلمة صعاليك بكل ما تحمله من دلالات ضد التقويض ومع الانفلات والانقلاب على ما هو سائد ومطروح عبر مجموعة شباب لديهم قناعاتهم وإيمانهم بما ينجزوه
وعن أسباب تأخر نشر مجموعاته الشعرية .. يؤكد جابر أن مسألة النشر لم تكن تمثل ضرورة في البدايات، خاصة أن ما كان يشغله في ذلك الوقت هو تقديم نص شعري يحقق لديه أقل قدر من الرضا والذي غالبا لا يأتي بسهولة إلى جوار غياب شهوة النشر.
وعلى حسب قوله عندما وجدت علي أن أخرج بديوان كنت وقتها على قناعة أن ما أنجزته يستحق النشر، وهذا جاء بالضرورة نتيجة ردود فعل كثيرة من قبل الأصدقاء من الشعراء والنقاد فكان الديوان الأول “عجلة خشب”، ومن بعده “أربعاء أيوب”، ومن ثم كان من أعلى نخلة في الصعيد عيل بيطير غناويه للقاهرة.
ويلفت جابر إلى نفاذ طبعة مجموعته الأولى في حفل التوقيع كان على غير السائد في عالم نشرالشعر بشكل عام ،أن تنفذ طبعة بمجرد صدورها، وأن تحظى بإعجاب نقدي، هذا ما أكد له يسير طريقه الصحيح ..
يبدو أن الصمت النقدي هو يواجه أغلب جيلكم ، وفي ظني أصبح بمثابة شعار ومظلومية أغلب الشعراء تجاه الحركة النقدية إن وجدت..
ماذا عنك؟ يجيبنا خلف جابر بأنه ليس من هواة ولا محترفي رفع مظلومية الفجوة بين النقد والإبداع ومن هؤلاء الذين يؤكدون على أن الإبداع يستدعي نقاده ويخلقهم، على المستوى الشخصي يرى أن تجربته من بداياتها نالت قسطا كبيرا من المتابعة والنقد أما على مستوى الجيل لاشك أن جيله بعد لم يولد نقاده..
وفي نظره يرى أن الناقد عمرو العزالي هو أحد أبرز المهتمين بتجارب جيله والمنظرين لها، عدا ذلك يمكن القول أنه لا توجد حركة نقدية حقيقية في عالمنا العربي كله..
يشير جابر أن الحركة النقدية يبدو أنها توقفت عند أسماء بعينها وهى الأبرز في عالم شعر العامية، الأبنودى ونجم وبيرم وحداد وفؤاد قاعود وغيرهم هى منطقة آمنه في الكتابة، وفي رأيي أن على نقاد العامية المخاطرة والمغامرة بتجاوز هؤلاء بالنظر للأجيال الجديدة حتى لا يصل بنا الأمر إلى وصف مايجري بالكسل والعجز النقدي .
“من أعلى نخلة في الصعيد عيل يطير غناوية ” عنوان لافت بطوله وصولا إلى قصائده التى تبدو حاضنة واسعة لمفردات الصعيد، والتى تبدو كمشروع شعري لرصد صورة الحياة في القرية بكل ما فيها من تعدد بدء من أساطيرها وصولا لفنونها هل هو نموذج ” العدودة “؟
ردا علي سؤالنا يؤكد خلف على أن الإبداع لم يكن أبدا خلقا من عدم ، كل منا يكتب تجربته الخاصة، حتى لو تشابهت مناطقنا الجغرافية، فرؤيتنا وتجاربنا بتختلف، وعن ملمح الأسطورة في منتجه الشعري يشيرإلى أنه نتاج واقع محكي عاشه، واشتبكت معه طول مرحلة الطفولة، فحكايات أبو رجل مسلوخة جاءت لترهيبنا وكانت قصائد قسوة تقطع علينا كل الطرق في المخاطرة بفعل ما يرفضه الأهل، لكنها دوما كانت مصنعا معنيا بجموح الخيال، وتوريطنا في التأمل والتفكير، وعليه يشتغل كتابة بيئته التى عاشها بكل ما تحمله من واقع وأسطورة بالإضافة إلي ما اكتسبه من أفكار ورؤية للعالم .
وردا علي وصف كتابته الشعرية بامتلائها بالحزن واقترابها من فن العدودة يقول خلف ” لماذا أكتب وكيف وأنا سعيد ، هناك حزن مقيم حتى مع لحظات الفرح، غالبا الفرح لايمكن كتابته شعرا، وبما أن الكتابة هي هروبنا الأخير من الألم فأنا دائما ألجأ لذلك الهروب الذي أسرب فيه كل تلك الحمولات، وهذا لا يعني أنني مع حتمية أن يتحول الشعرإلى مجرد بكائية، ما أذهب إليه في كتاباتي هو ترجمه لروح تجربتي .
وعن الصحافة وتأثيرها وتجربة الكتابة الغنائية والتمثيل؟ يلفت خلف جابر إلى أنه اتجه إلى الصحافة راكضا وبشغف المحب لا المضطر،فكانت الصحافة المنقذ وباب النجاة من عالم الوظيفة التى لم يجد فيها نفسه بالمرة، الشيء العظيم الذي وجده جديدا أن هناك من يشاركك اهتماماتك ورؤيتك للعالم ..
يلفت جابر إلى أن ممارسة الصحافة كان لها دورها في اختياره لعنوان ديوانه الأخير ” من أعلى نخلة في الصعيد عيل يطير غناويه للقاهرة ” واختياره لموضوعاته، وجاء العنوان ليشير إلى تجربته في الشعر بشكل عام ،هذا لا يمنع أبدا أن ثمة شعورا يلازمه ويغذي طاقة الفرح بلقب الشاعر الذي يظل الأساس في تجربته.
“حدثناعن المسافة بين فعل البساطة وما يحدث من تعقيد للشعر بأننا نجد أنفسنا أمام نص غير مفهوم للقارىء .. يرد خلف “الشعر مش بس شعر لو كان مُقفى وفصيح الشعر لو هز قلبك وقلبى …شعر بصحيح ” هذه الكلمات لنجيب سرور تختزل مفهوم الشعر ومعناه، مهمة الشاعر ودوره أن يقدم مفهومه ورؤيته للعالم في قالب شعري بسيط يصل لكل الناس، ليس من دوره أبدا أن أكتب نصا أختبر فيه ذكاء المتلقي عبر لوغورتيمات.
وعن الجوائز في حياة خلف جابر عبر مشروعه الشعري يقول: إنها اعتراف ضمني على الأقل عبر دائرة ضيقة “لجنة التحكيم ” وهي بمثابة دافع وحافز معنوي إلى جانبها المادي ليعطي صك الاستمرارية ، وصنع استقرار في محيط المشهد الشعري.