كانت مسألة «صورة وعدالة الصحابة» فارقة بين أهل السنة والجماعة وغيرها من الفرق دائما، وقد وضعت أساسا لعقيدة السنة من بدايات تدوينها نصا على السكوت عما بدر بينهم من خلاف، ولا تزال حاضرة ليس فقط في صورة العنف الرمزي والقولي من سب الصحابة وبعض أمهات المؤمنين، إلى الصراعات الطائفية المسلحة بين الجماعات المسلحة التي تمثل كل منهما، على مدار التاريخ مثل جيش محمد في باكستان ذو الانتماء الشيعي وجيش الصحابة الذي تأسس كل منهما في مواجهة الآخر، وشهدت باكستان صراعات دموية بينهما خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أو ما شهدته العراق بعد عام 2003 وصعود الزرقاوية والقتل على الطائفة، أو سوريا بعد عام 2012، ولكن كان ذلك ربما لتأثير الصراع الفرقي، السني الشيعي، ولأصداء الفتنة الكبرى وتأثيراتها العميقة التي بدأت بعد مقتل عثمان سنة 35 هجرية والتي ما زالت مستمرة حتى يوم الناس هذا، خلافا على الحق والأحقية بين آل البيت من جهة وبين الصحابة في تولي الإمامة من جهة أخرى، وكذلك حول العدالة وحصرها في سلف الأول” الصحابة وفي مقدمتهم سادة آل البيت” أو حصرها في آل البيت ومن انتصر لهم من الصحابة والتابعين، ومن هنا اختلفت مضامين الجرح والتعديل بين الطرفين.
من تعريف الصحابة إلى القول بالعدالة العامة لهم:
ألح علماء الاعتقاد السني والحديث في مدوناتهم على عدالة الصحابة هذه وضرورة اعتقادها كاملة، لم يقصروها على كبارهم أو السابقين منهم الذين أثنى عليهم الله في كتابه، بل جعلوها تتأسس- وفقط- في أرجح الآراء على رؤية النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- فالصّحابي هو كل من لقي النّبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم مؤمنًا به ومات على الإسلام، وهذا القول هو القول الرّاجح في هذه المسألة، من رجال ونساء، صغارًا أو كبارًا، والتقوا مع النّبي عليه الصّلاة والسّلام وآمنوا برسالته، وماتوا وهم مسلمون، لذلك اعتبر أصحاب هذا القول من آمن بالنّبي ثمّ ارتد عن ذلك ثمّ أسلم ومات على الإسلام من الصّحابة.
وإنّ هناك أقوالٌ متعدّدة أقل ترجيحا في تعريف الصّحابي منها من يشترط الصّحبة بمدةٍ زمنيّة أو بالحكم على طولها أو قصرها وفيما إذا شارك الرّجل النّبي في غزوةٍ أو لم يشارك، وهل رأى الرّجل النّبي ولازمه أم لم يفعل، ولكن يبقى الراجح راجحا بين هذه الآراء، مستندا إلى الرؤية واللقاء، رغم أنه يذكر أن من حضر حجة الوداع وخطبتها وحدها كان عشرات الآلاف وقيل مائة ألف على الأٌقل كما في رواية جابر بن عبد الله في صحيح مسلم.
ولكن يلح علماء الحديث بالخصوص على عدالة مطلقة لجميع هؤلاء، فيقول ابن الصلاح في مقدمته:
رغم هذه الكثرة العددية للصحابة، ورغم ما نشب بينهم من خلاف، ورغم انحراف بعضهم ردة تلتها عودة، أو ردة بلا عودة، ورغم وجود حقائق تاريخية ثابتة عن تحولات لكثير من أتباع الأنبياء بل وأبنائهم “مثل صراع أبناء داود المشهور في العهد الجديد” وما ذكر عن تحول حفيد لموسى للوثنية وأنه تكهن كاهنا لمعبد أصنام، وكذلك ونسائهم “امرأة نوح وامرأة لوط” وقد نص عليهما القرآن بالاسم، وبعض صحابتهم وحوارييهم الكبار في تاريخ كل الأديان، مثل حالة ” بلعام بن باعوراء” في زمن موسى ويوشع بن نون عليهما السلام، الذي يرجح المفسرون أنه من أخلد إلى الأرض وانقلب وتحول بعد أن بلغ أعلى مقامات الولاية وكان مستجاب الدعوة، وقيل كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب، ولكن غلبه قومه وزوجته على الانتصار للأدوميين على بني إسرائيل وغيرهم وغيرهم.
قال ابن عبد البر رحمه الله –كما في الاستيعاب-: قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول.
وقال ابن الصلاح في مقدمته: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتنة منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانًا للظنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة. انتهى.
وقال الإمام الذهبي: فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي، وإن جرى ما جرى…، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى.
العدالة والرجال بن عنفوة ومسيلمة الكذاب:
اكتمل الدين وتمت النعمة، برحيل الرسول الكريم- ص- وانقطاع وحي السماء، ولم تظهر كثير من قضايا خلافية حادة إلا بعد هذا الانقطاع، هي خلافات بنت التاريخ، من الخلافة للتصورات العقدية والفرقية، لتصورات السلف بين الصحبة وبين الآل، وظل التاريخ حاكما ومهيمنا على تصورات الدين والتدين منذ ذاك الحين وحتى الآن.
وكانت مسألة عدالة الصحابة إحدى هذه المسائل المثيرة والمثارة دائما، والتي أنتجها وزاد من أوارها الصراع المذهبي والفرقي للفتن الكبرى والصغرى، وكان الإصرار عليها من قبل علماء الحديث والاعتقاد السني أو على عصمة آل البيت من قبل الاعتقاد الشيعي حاسما وصلبا مصمتا يتجاهل ما جرى- حسبما ذكر الذهبي- ويتجاوزه بما لم يحدث، رغم أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالنبي بالسوء مثل ” ذو الخويصرة” ومثل المنافقين الذين ستر أسماءهم ولم يعرفها إلا كاتم سره الصحابي حذيفة بن اليمان، رضى الله عنه.
وسنكتفي هنا بنموذج مثير وهو الصحابي المدعو الرجال بن عنفوة الذي خان الرسول ورسالته، الذي صنع وأجج فتنة مسيلمة الكذاب وبني حنيفة، بعد أن أرسله النبي إليهم معلما ومقرئا للقرآن، وكان راوية لحديث النبي يكتب عنه، بجوار أبي هريرة وقد بشر النبي أحدهما بالهلاك والنار والكفر بعد الإيمان، وظل ابو هريرة- كما تقول الروايات- يخاف أن يكون هو، حتى كان ما كان من الرجال بن عنفوة بعد شراء مسيلمة له ليخبر الناس أن محمدا – ص- أخبره أن مسيلمة شريكه في النبوة!! فشهد رسول محمد كذبا على محمد، وهو من هو صلاحا وقبولا ورسولا رسميا له…فكانت الفتنة والردة وكانت أصعب حروب الردة وأقساها بالتأكيد على المسلمين والإسلام.
https://www.youtube.com/watch?v=Bmmj3vDpA-Q&ab_channel=yasrAlkoati%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A
لذا نطالب في هذا المقال بمراجعة هذا المفهوم والتصور للعدالة المطلقة والعامة للصحابة، في مرونة إيمانية وعقلية تحفظ الدين من أن يتحمل أخطاء بعض ممثليه، قديما وحديثا، فالأسوة والعصمة محصورة في الكتاب والمرسل إليه، وبعض ممن كانوا معه وليس كلهم، وليس هنا الهدف الانتصار المذهبي أو مجرد التجرؤ والاتهام والإثارة، ولكن تستهدف الاجتهاد والابداع دون أسر مطلق للتاريخ وصورته المتوهمة التي لا تتحرك بنا ولا نبني عليها ولا نستفيد من تجاربها الحقيقية، كما أننا أسارى فكرة الصراع الأبدي مع الآخر والتفكير السحري المؤامراتي المتعلق بعلاقتنا به، دون انتباه حقيقي ومسؤول للذات للنقد الذاتي والمستقبل.. المسألة بسيطة ولا تحتاج لتشنج معها أو ضدها..