“لا أحد ينزل النهر نفسه مرتين، فلا النهر هو النهر ذاته، ولا الشخص هو الشخص ذاته”. هذا ما قاله هيراقليطس منذ آلاف السنين، وهو أيضًا أول ما تقع عليه أعيننا في كتاب «وهم الثوابت» للدكتور عادل مصطفى، الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع.
في كتابه هذا يسعى المؤلف إلى تحطيم جبال الثوابت وتماثيل آلهتها التي صنعها لها كثيرون على مدار الزمن، مؤكدًا أن سنة الحياة هي التغيّر والتطور بما يتلائم مع الآن وبما يعمل على إيجاد حياة إيجابية بعيدة تمامًا عن التحجر والثبات الذي لا مبرر له إلا داخل عقول لا تستطيع أن تفكر وأن تبتكر، بل تستقي كل أفكارها من الماضي بما فيه من حسنات وسيئات، دون أن تناقش هذه الأفكار، فاقدة فلسفتها في الحياة والوجود.
وهم الثوابت الذي يهديه مصطفى إلى زميله الفنان سيد الرفاعي الذي جعل، على حد قوله، حياتنا بالفن أجمل وربما خرج بنا منها إلى آفاق قصية ومباهج علوية ما كنا لنبلغها بالخبز وحده، عبارة عن قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس، ويقع في تسعة فصول يتحدث فيها عن وهم الثوابت، الماهوية والوجودية، اللاماهوية عند كارل بوبر، الماهوية اللغوية، الماهوية الجينية، الماهوية وتقسيم الاضطرابات النفسية.
بداية يرى مصطفى أن تعبير “الثوابت” ينتمي إلى ما يُسمى بالألفاظ المشحونة لأنها تفترض مسبقًا حكمًا برمته لم تتم البرهنة عليه بعد. ولهذا كان جريمي بنتام يطلق على مثل هذه التعبيرات اسم “النعوت المصادِرة على المطلوب”، فهي تصادر بما لم تثبت، وتسلّم تسليمًا بما قد لا نسلم به أصلاً، وتدس مواقف انفعالية داخل العبارة التي تحملها.المؤلف يطرح في مستهل كتابه هذا عدة أسئلة تكشف طبيعة من يعاملون المتحول معاملة الثابت، ومن ينظرون إلى الغامض المتشابه على أنه دقيق محكم، وإلى الممتد المتصل على أنه متقطع منفصل!
آثام لا تغتفر
هؤلاء يطلق عليهم الماهويون الذين ينظرون إلى كل شيء على أنه مثول لطبيعة محددة ثابتة، مسيجة كتيمة لا تمتزج بغيرها ولا تلتئم بسواها.
المؤلف يؤكد أن كتابه هذا، كبعض أعماله القديمة، ليس بحثًا أكاديميًّا صرفًا، إنما هو فصول متفرقة، مزيج من التأليف والتصنيف، منه ما هو ابتكار شخصي خالص، ومنه ما هو قراءة مباشرة أدبيات فلسفية وعلمية راسخة، أشار إليها في مواضعها من الكتاب.
مصطفى يُرجع استتباب نزعة الماهية وسيطرتها على العقل البشري لأكثر من ألفيْ عام إلى أفلاطون بنظريته في المُثل، وإلى أرسطو بنظريته في التعريف، ونتيجة لهاتين النظريتين صارت الماهوية مكونًا أصيلاً من مكونات الحس المشترك عاق العقل عن تصور أشياء كثيرة، وعطل علومًا كثيرة عن التقدم الحثيث الذي أحرزته الفيزياء على سبيل المثال.
كما يرى مصطفى أن التأخر المزري في وصول دارون إلى المشهد ” القرن 19 ” يعود إلى أننا جميعًا كنا قد أُشربنا الماهوية وأضمرناها في صميم جيناتنا العقلية.ومن آثام الماهوية التي لا تغتفر، مثلما يرى الكاتب، أنها عطلت الفهم البشري قرونًا طويلة عن فهم طبيعة اللغة ومنشئها، وما استتبعه ذلك من نتائج بعيدة الأثر ثقيلة الوطأة.
وقد كان ظهور فرديناند سوسير مزريًا أيضًا كتأخر ظهور دارون في البيولوجيا.
هنا يلوم مصطفى على قدامى اللغويين أنهم اعتبروا كل تغير خطأ، وراحوا يترصدون الخطأ ويطاردونه بدلا من أن يقوموا بعملهم الحقيقي ويقننوا التغيير، ودبجوا في ذلك أسفارًا ومجلدات.وفي هذا السياق يورد المؤلف ما قاله د. محمد عيد من أن الباحث في اللغة ليس من حقه أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيجمد الدراسة ويترك عمله الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعات ومماحكات وعنت ذهني عقيم لا حاجة باللغة إليه.
وبناء على هذا يرى مصطفى أن ما فعلته بنا الماهوية يتمثل في أنها قتلت العربية وغربتها غربة الزمان والمكان، وجعلتها لغة أجنبية يتجافى عنها اللسان وعجتّها السليقة.كذلك ثمة أثر سلبي، يراه مصطفى، لنزعة الماهية على فهمنا للأمراض النفسية وطريقتنا في تقسيمها.
متى تبدأ الحياة؟
في وهم الثوابت يقسم الكاتب الناس إلى فريقين، أحدهما يترك غيره يعبث بعمره ويجبله على هواه، والآخر يأبى إلا أن يجعل من عمره تجربة كبرى، يدفع بنفسه إلى كل أفق جديد وطريق بِكر.
وهنا نجد أنفسنا أمام حياتين الأولى نسخة مكرورة، ما أبشعها وإن حسنت! والثانية قطعة من خَلقه، ما أجملها وإن ساءت! المؤلف يطرح هنا على قارئه سؤالاً يقول متى تبدأ الحياة ومتى تنتهي؟ مؤكدًا أن حدود الحياة غائمة ضبابية لا يمكن تحديدها بدقة، وهنا، يقول المؤلف، إن المغالطة الماهوية تجد أرضًا خصبة لتبدي كل خَبثها حيث يغفل معظم الناس استحالة تعريف الحياة، ويمضون في استخدام المفهوم حتى حيث يكون مريبًا حقًّا، أي عند بداية حدود الحياة ونهايتها مما يفضي إلى أخطاء وفظائع وأباطيل حيث نطيل عذاب أجسام شبه ميتة باسم الحياة.
مصطفى يرى كذلك هنا أنه ينبغي على جميع الجهود الفكرية أن تكون على وعي جيد بالمغالطة الماهوية، وأن تكيف مناهجها ودعاويها وفقًا لدرجة انطباق هذه المغالطة على مجالها الخاص، إذ إن إغفالنا لذلك قد يؤدي إلى أخطاء كارثية بعضها قد أفضى بالفعل إلى أفظع مشاهد التاريخ البشري.
أيضًا مما يؤكد عليه المؤلف من خلال كتابه هذا هو أن التفكير العلمي يهيب بنا أن نتخذ موقفًا إبستمولوجيًّا هو اللاعصمة، أو اللامعصومية، ويقصد به استحالة العصمة من الخطأ، وينسب هذا المذهب إلى الفيلسوف الأمريكي تشارلس بيرس وهو يعني أنه ليس من الضروري أن تكون كل الاعتقادات يقينية أو مبنية على اليقين.
المؤلف يرى كذلك أن الناس كانوا مشربين بنزعة الماهية بحيث تعذر عليهم تقبّل نظرية التطور، ولن يدرك المرء جيدًا ما كان دارون بصدده في كثير من أعماله ما لم يتذكر جيدًا أن مستمعيه كانوا ماهويين لا يشكّون البتة في ثبات الأنواع.
وهم الثوابت يطرح سؤالاً آخر على كل إنسان أن يوجهه إلى نفسه وهو: هل أنا بحق ذلك الموجود الذي يجدر بالإنسانية أن تعمل على هدْي أفعاله؟ مؤكدًا أن الإنسان كائن محكوم عليه بالحرية، يمارسها عن طريق اختبارات يقوم بها في كل لحظة.حتى عدم الاختبار هو نوع من الاختبار، أو هو اختبار مقَنّع، وما دام الإنسان حرًّا مختارًا فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه، وبالتالي فالمسئولية هي توأم الحرية.إذن لا فكاك من الحرية التي قُذف الإنسان في هذا العالم ورُمي بها!
وهكذا نحاول أن نتخلص من عبء الحرية دارسين أنفسنا على أننا رهائن في يد الوراثة أو النشأة أو الماضي الذي فرض علينا فرضًا، وكأننا نحسد الأشياء الجامدة القارة في ذاتها، على سكينتها وطمأنينتها السلبية محاولين أن نبرهن على أننا مجبرون مسيرون تحت نيّر ماهيتنا المسبقة المقدّرة علينا.
الماهوية والوجودية
في وهم الثوابت يميز مصطفى بين الماهوية والوجودية، الأولى تذهب إلى أن الحياة لها معنى صميم وغاية مسبقة، والثانية تنكر ذلك وتضع على عاتق الفرد أن يبتكر معنى حياته وغايتها ويخلق ماهيته بنفسه، كما تهيب الأولى بالتفكر والاستبطان لاكتشاف الماهية القائمة من الأصل، فيما تهيب الثانية بالفعل الذي يسبغ الغاية على حياة لا معنى لها بحد ذاتها ولا غاية.وبتعبير آخر يصيغ المؤلف هذا قاءلاً إن الماهوية تذهب إلى أن الماهية قائمة وتُكتشف، بينما تؤكد الوجودية أن الماهية غائبة وتُبتكر.
في سياق آخر يورد الكاتب مقولة فرانك رامزي التي يقول فيها إن الخطر الأكبر على فلسفتنا، عدا الكسل والتشوش، هو السكولائية التي تُعامل ما هو غامض على أنه دقيق محدد.
وفي ما يتعلق باللغة التي يقدسها البعض ويرفض إحداث تغيير عليها يستعير من أنيس فريحة قوله إن اللغة ظاهرة اجتماعية يتميز بها كل مجتمع إنساني، وهي ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالآلهة، ولم تهبط من علٍ، بل نشأت من أسفل وتطورت بتطور الإنسان ذاته، ونمت بنمو حضارته.اما فرديناند دي سوسير فيعلن أن الزمن يُغيّر كل شيء، ولهذا فليس هناك سبب يجعل اللغة لا تخضع لهذا القانون العام.
فاللغة لا حول لها في الدفاع عن نفسها في مواجهة القوى التي تُغيّر من لحظة إلى أخرى العلاقة بين الدال والمدلول.
في الأخير نصل مع د. عادل مصطفى في ” وهم الثوابت ” إلى أن التطور أمر لا مناص منه، ولا توجد لغة واحدة في العالم تقاومه، كما أن التغيير أمر لابد منه حتى إنه ليظهر في اللغات غير الطبيعية، وكذلك تتغير وتتبدل الأجيال والأحوال وأشكال الحياة وأنماط التفكير وأدوات العمل ووسائط المعلومات.تتغير اللغة بتغير الحياة وتتغير الأشياء وغطاؤها الرمزي.