في فيلم “القلب الشجاع” للممثل والمخرج الأمريكي ميل جيبسون الذي يتناول كفاح الشعب الاسكتلندي بقيادة البطل الشعبي وليام والاس ضد الحكم الإنجليزي، يصر والاس (ميل جيبسون) على استكمال الكفاح المسلح ضد الإنجليز في حين يؤكد النبلاء من الإقطاعيين وكبار ملاك الأراضي أن خيارهم الوحيد هو التفاوض.
يبدي والاس في أكثر من مشهد استغرابه ودهشته من منطق النبلاء، حيث أن الخيار الأكثر منطقية بالنسبة له ولجيش الفلاحين الذي يقوده هو أن يقاتلوا ولو على أقل تقدير لتحسين وضعهم التفاوضي حين يجلسون مع الإنجليز على طاولة المباحثات.
إلا أن النبلاء لا يدعمون نضال والاس ومن معه، ويسحبون تأييدهم له، بل ويذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك حين يقاتل والاس وحيداً في الميدان حيث ينسحبون هم منه وفقاً لصفقة عقدوها مع ملك الإنجليز لزيادة أراضيهم.
من اللافت حقاً أن الفيلم رغم كونه يتناول قصة من تاريخ اسكتلندا إلا أن تفاصيل القصة تبدو مطابقة لما عاشته كثير من بلدان ما يعرف أو ما بات يشار إليه عادة بدول العالم الثالث، وفي القلب منها مصر بطبيعة الحال.
إن المتأمل لتاريخ مصر الحديث يدرك أن هذا التاريخ ما هو إلا سلسلة متصلة من الأحداث أبطالها بسطاء، هم أول من يضحي ويعطي من أجل هذا الوطن، وفي المقابل ثمة نخبة هي أول من يساوم ويفرط، إلا أن هذه الأخيرة ولكونها تملك الثروة والسلطه في نفس الوقت، فإن لديها القدرة على إعادة صياغة وكتابة التاريخ لكي تضفي على ذاتها بطولة وهمية وتصور نفسها كقيادة لجموع خاملة مستسلمة خانعة، لا تتحرك إلا إذا حركتها تلك النخبة.
تفند هذه الصورة التي للأسف الشديد مازالت ترددها بعض الأقلام عن شعبنا أكثر من حقيقة تاريخية؛ في مقدمتها أن الفلاحين المعدمين هم الذين صمدوا إلى جوار قوات الجيش المصري بقياده أحمد عرابي، وواجهوا الغزو الإنجليزي في كفر الدوار؛ في الوقت الذي اختار فيه الباشوات من كبار ملاك الأراضي الانحياز إلى صف الخديوي توفيق الذي آثر أن يحتمي بالإنجليز.
https://www.youtube.com/watch?v=zHFKgSApFLQ
وحتى بعد دخول الغزاة إلى القاهرة، فإن البسطاء لم ييأسوا ولم يسلموا بلادهم كما فعل الباشوات من أمثال سلطان باشا ،الذي كرمه المحتلون وقلدوه الأوسمة نظير تعاونه معهم، بل فتحوا بيوتهم وقلوبهم لحماية خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم الذي استطاع بفضل حمايتهم أن يختبئ من عيون المحتل وجواسيسه على مدار تسع سنوات كاملة.
وحين اندلعت ثورة ١٩١٩ كان البسطاء في مقدمة الصفوف وسقط من بينهم أول شهيدة وهي شفيقة محمد عشماوي برصاص المحتل والتي تم التعتيم على نضالها لصالح نضال “الهوانم” من زوجات الباشوات الذين لم تسقط منهن شهيدة ولم تصب منهن مصابة.
كان الفلاحون أول من حملوا السلاح، وكان العمال أول من أضربوا ودفعت كلتا الفئتين ضريبة دم باهظة، خاصة مع حملات الانتقام الجماعي التي شنها الإنجليز ضد قرى بأكملها.
الا أن تضحيات البسطاء التي قدموها عن طيب خاطر في سبيل الاستقلال لم تثر حمية الباشوات لتحويل هذه التضحيات إلى نصر سياسي؛ وإنما أثارت قلقهم وخوفهم خاصة مع إدراك بعضهم إن السلاح الذي حمله بعضهم ضد الاحتلال يمكن أن يستخدم ضدهم أيضا.
لم يعرف الباشوات من فنون السياسة سوى التفاوض رافضين تماماً مبدأ الكفاح المسلح ضد الاحتلال؛ تماماً مثل نبلاء اسكتلندا.
وهو النهج الذي ساروا عليه لمدة ثلاثين عاماً كامله (١٩٢١-١٩٥١) ولم يسفر سوى استقلالا مزيفا ودستورا تم الانقلاب عليه ثلاث مرات في أقل من ثلاثة عقود من الزمان.
وحين قررت القيادة الوفدية التي صارت في يد الباشوات من ملاك الأراضي وقف التفاوض عقب إخفاقاتها المتتالية والغاء معاهدة ١٩٣٦، بدا وكأنها اللحظة التي انتظرها بسطاء الوطن طويلاً ليطلقوا العنان لنضال مسلح استمر ١٠٠ يوم ما بين أكتوبر عام ١٩٥١ ويناير من عام ١٩٥٢ وشكل صداعاً مزمناً لقيادة الاحتلال.
لكن النخبة كعادتها لم تكن على مستوى الجماهير وتضحياتها، فتخلت عن الوزارة عقب حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢ وعمدت إلى وقف العمل الفدائي في منطقة القناة.
إن أغلبية النخبة في بلادنا شأنها شأن نبلاء اسكتلندا؛ لا تعنى بالوطن بقدر ما تعنى بمصالحها الشخصية، وتأبى أن تعرضها للخطر بالمشاركة في كفاح مسلح فتلجأ للتفاوض لا بهدف الوصول إلى الاستقلال الوطني؛ وإنما لتحل مكان المحتل مع الإبقاء على كافة منظومات النهب الاستعماري مستمرة، ولهذا فإن نظرة كل من المستعمر والنخب في بلادنا للشعب وخاصة البسطاء الذين يشكلون وقود كافة تجارب حروب التحرر تبقى واحدة وإن اختلفت المسميات.