رؤى

الحياة حلوة فلا تخسرها بالانتحار

يصبح إنهاء الحياة عمداً خيار شخص واحد كل 40 ثانية (وفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية)، التشكيك فى المعلومة يتلاشى تماماً مع الانضمام لأي من الجروبات المختصة بطرح المشكلات مع ضمان السرية بالنشر من خلال حساب فيسبوك وهمي، وبلا اسم ولا صورة شخصية يصير بمأمن من الكل.. بمأمن إلا من نفسه، البوست أقرب إلى رسالة تبرئة ذمة أمام العالم مفاداها “لقد أستنفذت كل سبل التعايش والتكيف والتقبل.. نفذ رصيد الصبر وإعادة الشحن أضحت درباً من وهم”.. وربما هى رسالة ابتزاز لمشاعر التعاطف والتضامن لا لإثنائه عما أعتزمه وإنما مباركته أوعلى الأقل الترفع عن تجريمه.

نحلة برؤوس ليست بالقليل

لاتزال تطن وتطن حتى لحظة الكسر.. ينضب العسل ويذوب بيت الشمع.. فقط الدبابير بلدغاتها ولسعاتها.. تورماتها ووجعها ما يدفع بأكثر من 20 شخصاً يحاولون الانتحار مقابل كل شخص منتحر، ومن غير اللائق تسميتهم بالناجين.. فمن حولهم سيذهبون أما إلى إزدرائهم والإتيان على ذكر خطيئتهم إثر كل زلة.. أو إلى التعامل معهم بصفتهم خفيفين وأبسط ضغط لأهون موقف سيفضى بهم لتكرار فعلتهم، العودة إلى النقطة المعتمة..

نقطة ما قبل المحاولة أمر عسير يحتاج إلى قدر من الوعي والتفهم بما يجعل من اللجوء إلى نصح متخصص مقبول.. وهو ما يعد فى حكم الفضيحة لدى الكثير من الأوساط ولاسيما الشعبية إذا ما أُشيع خبر ترددهم على عيادات النفسية والعصبية.. ومن ثم يصبح لوصمهم الشخص بالجنون وما يتبعه من حوارات السخرية والتهكم دور رئيسى فى موته إعتبارياً.

الاكتئاب

جانى ومجنى عليه

قد يكون الأهل بظروفهم وأحوالهم وخلفياتهم وقناعاتهم دافعاً ومحفزاً لإقدام أحدهم على الانتحار.. الأهل جانى وإن أدركوا ذلك بعد فوات الأوان أو ظلوا على إنكارهم وإصرارهم على مثاليتهم فى إدارة الأزمات وإن كان ثمة خطأ فهو من قبيل السهو والخطأ المغفور لهم..

 السهو والخطأ وليس الكبر على الإعتراف بالجهل وطلب المساعدة، والمؤكد أن الأهم وسواء كانوا الجانى أو غيرهم فهم أيضاً المجنى عليهم، يعانون الأمرين، حرقة الفراق وقسوة الأحكام المتعلقة بالمصير الذى أنتهى إليه فرد منهم، مما يدفعهم للتكتم وعدم الإفصاح بأن الوفاة كانت انتحارًا..

وعليه فإن الإحصاءات بصدد عدد المنتحرين سنويًّا غير دقيق إطلاقاً.

أكثر من سيناريو

والتعتيم من قبل الأهل ينتج تضارب فى الأقوال وتباين فى السيناريوهات يفضى إلى الجزم بأن ثمة كذبة تُحاك.. كذبة إن رتقت ثقب منها تولد عشرة وهكذا حتى يصير النسيج مهلهلاً لا ستر معه، الجميل أن الغالبية تسعى إلى تصديق سرد سبق وإن غُربل منطقه بسلاح آلى أما محبة وأما خوف، فكرة أن تصير إلى حالهم خصوصاً مع إطراد أعداد المنتحرين.. وما يزيدهم رعباً كون منهم ظاهريا الناجح والمتحقق والمشهور والمستقر.. الوضع لا يعدو بركة ماء غطاها القش تحسبها أرضاً صلدة بينما هى الغرق بعينه.

الانتحار

خلف البسمة نفس تتعذب

وتقفز للأذهان شخصيات كانت مبعث بهجة فإذا بها تصدمنا بنهاية لا تقل مأساوية عن معاناتها المخفية، الممثل الكوميدى الأمريكي والذى ما أن بدأ مشواره المهنى حتى أنهالت عليه الجوائز.. حاز فى المسرح جائزة الأيمي مرتين وجائزة الغولدين غلوب أربع مرات وجائزة غرامي خمس مرات، وفى السينما حصل على الأوسكار.. كما حصل على جائزة غرامي لأفضل ألبوم كوميدي.. وأخيراً يأتى بسكين من طراز صغير ليحاول قطع شريان يده اليسرى عند الرسغ.. يفشل فيلجأ إلى شنق نفسه بحزام.. لينتهى منتحراً في منزله بولاية كاليفورنيا فى عام 2014.

المساعدة لا تفلح أحياناً

أن تتخيل شخصاً بنجاح وكاريزما روبن ويليامز.. بصوره العاكسه لروح مرحة غير معنية بجد الحياة مكتئب من شأنه أن يفقدك الثقة بالمظاهر كلياً.. ويقودك لقراءة الشخوص من منظور “الدنيا شروه مش نقاوه”.. فهى أن أعطت أخذت وكلاً لديها بحساب.. فرص المجانية فى الثروة والشهرة والحب وهم متمكن فقط من عقول السطحين.. الملتفتين للقشور غير مميزين بين قشرة بركان على شفا إنفجار.. قشرة سمك على وشك إعداده للإلتهام.. قشرة لب لزوم القزقزة.. وقشرة “إنسيال” لزوم المنظره.

وبعدما تزول القشرة فنادراً ما يفلح الصديق أو الحبيب أو حتى الطبيب.. فبعد إنكشاف ضآلتنا وضعفنا.. سيطرة فكرة سقوطنا وتشوه صورتنا بعيون صارت تترصدنا وإن كان بغرض الحماية تصيب عداد عمرنا أما بسكته أو بلوثة.. ليصبح التوقف تماما أو الركض بلا مكابح سواء.

وإذا عُرف السبب

ولكنه قد يبقى لغزاً بلا تفسير.. إرنست همينجواي الحاصل على جائزة “نوبل” عن روايته الشهيرة “العجوز والبحر”.. أستيقظ فى الأول من يوليو عام 1961 بمنزله في مدينة كيشتوم.. تسلل إلى الطابق الأرضي على أطراف أصابعه خشية أن يوقظ زوجته ومن ثم تفسد خطته لوضع نهايته بيده.. همينجواي تناول بندقية قصيرة كان يستخدمها في الصيد وسدد من فوهتها طلقتين أنهى بهما حياته، أو أن الحياة صارت عبء أثقل مما قد يستطيع حمله آدمى وبخاصة لو كان مرهف الحس.. داليدا تتناول جرعة زائدة من الأقراص المهدئة لتغادر بلا تمهيد فى عام 1987 بعدما تترك رسالة إلى محبيها “سامحوني الحياة لم تعد تحتمل”.

داليدا وهمينجواي
داليدا وهمينجواي

لحظة تستدعى كل ما قبلها

فلا تبقى نافذة ولو مواربة ولو على حارة ضيقة..  لحظة ضائقة مالية تظنها لن تنفرج أبداً.. ضائقة تحسبها ستهوي بك من ثراء إلى فقر.. من عز إلى ذل، يلقى رجل أعمال فى الأربعين من عمره بنفسه من بلكونة شقته بالدور الخامس والتى أستأجرها في مدينة الرحاب بعدما أُعلن إفلاسه ليعيش فيها بمفرده هو وكلبه ليلقى مصرعه فى الحال.. وبرغم ما أكده حارس العقار من سوء حالته النفسية الواضحة من تحدثه بطريقة هستيرية فقد حرص على إطلاق سراح كلبه بالشارع قبل قليل من سماعه صوت ارتطام قوى حيث فوجئ به ملقى على الأرض!

وفى منطقة حدائق القبة طالب بكلية الصيدلة وبسبب مروره بأزمة نفسية وإصابته بالإكتئاب يلقي بنفسه من الطابق الـ 12، وطالب بكلية الهندسة يقفز من أعلى برج القاهرة.. ويُشاع أن السبب صعوبة الدراسة وضغوطها والتى لم يكن ليحتملها، وفى حدائق حلوان  طالب بالصف الثالث الإعدادي يشنق نفسه بواسطة مروحة السقف بداخل شقته.. ولسبب مجهول مما يفتح قوساً يضم العديد من التخمينات.. فربما التسلط والقمع المستمر أو التنمر بسبب هيئة مختلفة أو ميول مستهجن أو تجربة مؤلمة كوفاة أحد المقربين جداً”، وفي البحيرة مركز كفر الدوار ثلاث مراهقات من نفس العائلة تخلصن من حياتهن بتناول أقراص حفظ الغلال السامة بسبب الخلافات الأسرية، خمسة حوادث انتحار مفجعة وقعت فى العام 2019 وقد شملت مراحل عمرية مختلفة ودوافع متباينة.

لحظة انتحار الشاب من فوق برج القاهرة
لحظة انتحار الشاب من فوق برج القاهرة

الحياة قاسية بلا قلب

وعلى قدر الإحساس تأتى المعاناة.. دخول امتحان تلو آخر.. ولا مفر من جزع أو كسر خضع لعلاج خاطئ عمداً أو جهلاً ليترك أثراً من عرج.. ومع العكاز وإلى جوار الجدار ربما تجتاز امتحانك الأهم.. امتحان تنجح فيه برفع يدك عن روحك لتترك نهايتها تأتى على مهل وقتما شاءت وأينما أرادت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock