احتفى التراث العربي منذ أمد بعيد بحكايات «الشطار والعيارين» بوصفهم جماعة من اللصوص المتمردين الذين شكلوا في لحظات تاريخية بعينها حالة من الإدانة والثورة على أنظمة الحكم الجائرة، والذين طالما نالوا إعجاب العامة في عصرهم فتعاطفوا معهم وأشادوا بأفعالهم وتستروا عليهم ورددوا قصصهم ونوادرهم وبطولاتهم وتناقلوها جيلا بعد جيل؛ كحكايات تروى شفاهية مصحوبة بالكثير من المبالغة والتضخيم الذي يمزج الحلم والخيال الشعبي بالواقع المعاش والوقائع التاريخية بالخيال الأدبي، وقد وصلت أهميتهم لدى العامة مدى جعلهم يرون أن من لا يروي أشعار عن «الشطار والعيارين» فإنهم لا يعدونه من الرواة، وحين جاء عصر التدوين احتفظت كتب التراث والتراجم والطبقات والسير والأدب والشعر والنوادر والحكايات بالكثير من حيلهم وخدعهم وأساليب وأنماط حياتهم.
الدكتور محمد رجب النجار في كتابه «الشطار والعيارين .. حكايات في التراث العربي» يتوقف عند الجانب التاريخي لحركات «الشطار والعيارين» والجوانب الفنية المتعلقة بذلك الأدب غير الرسمي الذي عرف «بأدب اللصوص»، في محاولة منه لطرح قضية إعادة النظر في تاريخ ثورات العامة وانتفاضاتهم وحركاتهم الشعبية التي تزعمها «الشطار والعيارين» الذين ظلوا يعيشون على هامش المجتمع بوصفهم خارجين على القانون وبالتالي «خارج التاريخ» في عرف السلطة ومؤرخيها، وذلك على الرغم من اعتراف بعض هؤلاء المؤرخين بدورهم في تزعم حركات المقاومة الشعبية في «بغداد ودمشق والقاهرة» ضد الغزاة والمحتلين والدخلاء بتلك الأوقات التي كان فيها النظام الرسمي يعاني من الإنهيار.
حيل اللصوص ووصاياهم
رغم فقد كتاب «حيل اللصوص» الذي أعده رائد الفلكلوريين العرب «أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» المتوفي عام 255 هجريا والذي صور فيه بعض نواحي المجتمع الإسلامي خلال عصر المأمون وحكايات الشطار والعيارين؛ إلا أن آثاره ما زالت باقية، فالجاحظ نفسه قد روى عن المنهج الذي اتبعه في جمع روايات وقصص الشطار والعيارين في كتابه «الحيوان» كما أستعان بكتاب «حيل اللصوص» للقاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي المتوفي سنة 384 هجريا فيما كتب عن قصص اللصوص في كتابه «الفرج بعد الشدة»، كما أعتمد عليه أبو القاسم الراغب الأصفهاني المتوفي سنة 502 هجريا وابن الجوزي «508-597 هجريا» وغيرهم.
المثير في أمر الشطار والعيارين وغيرهم من اللصوص الذين كانوا يعتمدون على الخدع وغرائب الحيل أنهم دائما ما كان لهم نوع ما من الدساتير الخاصة، صاغها بعض زعمائهم في صورة وصايا لمن يخلفهم في الزعامة ولمن يتبع خطاهم، جمعها الجاحظ في كتاب «حيل اللصوص» فكأنه لم يكتف بسرد نوادر اللصوص والشطار وطوائفهم بل قدم للقارىء فلسفة هؤلاء اللصوص ودوافعهم الكامنة وراء «شطارتهم» حتى أن كتاب الجاحظ بات مشهوراً بين طوائف اللصوص يتعاملون معه بوصفه الوثيقة التي تحفظ دستورهم.
تضمن كتاب الجاحظ العديد من وصايا الشطار والعيارين وكان من أشهر تلك الوصايا ما وضعه «عثمان الخياط» وهو أحد زعماء اللصوص من أسس ومبادىء حرفية وأخلاقية ينبغي أن يتسم بها اللصوص كان منها: «جسروا صبيانكم على المخارجات وعلموهم الثقافة، وأحضروهم ضرب الأمراء أصحاب تصوير الجرائم لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك، وخذوهم برواية الأشعار من الفرسان، وحدثوهم بمناقب الفتيان وحال أهل السجون، وإياكم والنبيذ فأنها تورث الكظة وتحدث الثقل، ودعوا البول والنوم ولا سيما بالليل، ولابد لصاحب هذه الصناعة من جراءة وحركة وفطنة وطمع، وينبغي أن يخالط أهل الصلاح ولا يتزيا بغير زيه» يقصد زي الشطار.
كما يوصي عثمان الخياط أصحابه بالجيران خيرا: «اضمنوا إليّ ثلاثة أضمن لكم السلامة: لا تسرقوا الجيران واتقوا الحرم ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف، وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم إخراج الزكاة، وجحودهم الودائع».
في ضوء المأثور القصصي للصوص يتضح أن لهم أعرافاً وآداباً وتقاليداً خاصة بهم ينبغي على هؤلاء اللصوص الشطار أن يتبعوها ويسيروا على نهجها ويتسموا بها في سلوكهم ومواقفهم إلى جانب زيهم ولغتهم الخاصة وطريقتهم في التفاعل وحركاتهم وحيلهم ومقالبهم المضحكة التي استهوت المهرجين أن يحاكوها ويقلدونها بمجالس الخلفاء والعامة على السواء.
المقامة الرصافية
الدكتور محمد رجب النجار يرى في «المقامة الرصافية» التي خطها بديع الزمان الهمذاني «358-398 هجريا» أنها بمثابة وثيقة فلكلورية ولغوية واجتماعية وتاريخية غاية في الأهمية، تحمل صرخة الفقراء في وجه الأغنياء المترفين، وتعكس ذلك الصراع الخفي بينهما.
كان بديع الزمان الهمذاني قد وقع ضحية مكر وحيل بعض طوائف الشطار فحكى عنهم بكتابه «المقامة الرصافية» .. ذكر فيها أن «عيسى بن هشام» كان قد خرج من الرصافة، يريد دار الخلافة فمال إلى مسجد، وفيه قوم يتأملون سقوفه، ويتذاكرون وقوفه، وأداهم عجز الحديث إلى ذكر اللصوص وحيلهم، والطرارين وعملهم، فذكروا حيلا تجاوزت السبعين من حيل اللصوص والشطار والعيارين، وشيئا من لغتهم ومصطلحاتهم التي ذكرها الهمذاني في مقامته على لسان راويته وقد تخصص في كل حيلة نفر أو طائفة من اللصوص.
دليلة المحتالة وعلى الزيبق وأحمد الدنف
امتلأ أدب الشطار بالعديد من القصص الشعبية العربية التي تغنت بالأبطال الثلاث دليلة المحتالة وعلي الزيبق وأحمد الندف الملقب بلقب أشطر الشطار، فهل قدمت النصوص التاريخية أي إشارة تذكر لوجود واقعي لهؤلاء الأبطال الثلاث؟
عثر الدكتور محمد رجب النجار فيما عثر من نصوص تشير إلى وجود واقعي لدليلة المحتالة أو «دالة المحتالة» كما كان يطلق عليها المسعودي المتوفي سنة 346 هجريا، حيث ذكر في حوادث سنة 282 هجريا أيام الخليفة المعتضد في كتابه «أخبار الزمان» حين كان يتحدث عن أخبار أحد الشطار المحتالين في بغداد وكان يكنى بأبي الباز وله أخبار عجيبة وحيل لطيفة وهو الذي احتال للمتوكل، وبعد ذكر حيلته الخارقة، أراد أن يحدد مكانته بين لصوص الحيلة من الشطار فقارنه بدليلة المحتالة أو دالة: «هذا الشيخ قد برز في مكايده، وما أورده من حيلة على دالة المحتالة وغيرها من سائر المكارين والمحتالين ممن سلف وخلف منهم» وهكذا ورد اسم دليلة المحتالة بشكل عابر كدليل على وجودها التاريخي والعصر الذي وجدت به.
أما عن علي الزيبق فقد وجد نص لابن الأثير أشار فيه إلى الزيبق وكيف أنه تمكن من الاستيلاء على السلطة ببغداد وجباية أسواقها حيث ذكر في حوادث سنة 444هجريا «وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة في بغداد، وامتنع الضبط، وانتشر العيارون، وتسلطوا -أي تولوا السلطة- وجبوا الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق».
كما عثر النجار على نص لابن إياس يشير فيه بشكل مباشر إلى شخصية «أحمد الدنف» في وقائع سنة 891 هجريا الموافق لسنة 1486 ميلاديا: «في شهر ذي القعدة سنة 891 هجريا رسم سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي أبو النصر المعروف بالمحمودي الظاهري بتوسيط شخص من كبار المفسدين يقال له أحمد الدنف، وله حكايات في فن السرقة يطول شرحها»
تركز نشاط علي الزيبق ودليلة المحتالة في بغداد بينما كان نشاط أحمد الدنف بالقاهرة غير أن الدراسات الحديثة التي عالجت الروايات الشعبية عنهم لطالما خلطت الوقائع التاريخية فجعلت الرواية الفنية الشعبية من أحمد الدنف المصري بطلاً بغدادياً وأستاذاً أو كبيراً لعلي الزيبق البغدادي الذي جعلته الرواية الشعبية بطلاً مصرياً وانتقلت بمسرح الأحداث إلى بغداد وألغت المسافات الزمنية بينهم وجعلتهم معاصرين لبعضهم البعض وذلك على الرغم من وجود فارق زمني بينهم يصل لأكثر من أربعة قرون.
هكذا قدمت الوثائق التاريخية التي لم تهتم إجمالا بأخبار الشطار والعيارين عدداً من الإشارات الدالة على الوجود التاريخي للأبطال الثلاث «دليلة المحتالة وعلي الزيبق وأحمد الدنف» بوصفهم أشهر الشطار في التراث الشعبي العربي.
فتوة الأحداث في بلاد الشام
أطلق المؤرخون على تلك الجماعة التي لعبت دورا محوريا في حروب بلاد الشام وفتنها وثوراتها والتي كانت تماثل جماعات الشطار والعيارين لقب «الأحداث» وصفوهم بأنهم «كالشطار والعيار والزعار وحمال السلاح وطالبي الشر والفساد» وقد بلغت تلك الحركة ذروتها في القرن الرابع الهجري وما تلاه، وهى بذلك تتزامن في إزدهارها مع نظائرها من الإنتفاضات أو الحركات الشعبية التي شهدتها العراق من حركات الشطار وعيارين.
ظهرت طائفة «الأحداث» باعتبارها مسئولة عن حراسة «الأمير»، ثم تحولت حتى أصبحت قوى محلية شعبية خلال العهد العباسي وقد عمدت للتعبير عن رفضها للقوى الخارجية الطامعة «عباسية .. فاطمية .. قرطمية .. رومية» ورغبتها في إقامة حكم محلي شعبي، غير أن البرجوازية المحلية قد انفصلت عنها وتآمرت عليها في الغالب مع القوى الخارجية نفسها.
جاء هذا الصراع الداخلي الخارجي كمحاولة لملاء الفراغ السياسي في الشام بعد إنهيار الدولة الإخشيدية والذي بلغ أوجه ما بين سنتي «358 -371 هجريا» ولم ينتهي ذلك الصراع فقط بالفشل المتكرر الذي لقيته تلك الحركة الشعبية التي قادها «الأحداث» بل وصل الأمر حد ذبح قوى الأحداث.
كانت قوى الأحداث عبارة عن منظمة شبه عسكرية مدينية تتكون من هؤلاء المتطوعين من الشباب المعدمين الفقراء اقتصاديا العاطلين عن العمل وقد عرفتهم مدن الشام منذ أواسط القرن الثالث الهجري كجماعات شعبية عسكرية مؤقتة أولا، ثم كجماعات مستمرة فيما بعد حاربت من أجل الشام على مدى قرنين من الزمان «الرابع والخامس الهجري» فقاومت الحكم الفاطمي مقاومة مستميتة لأسباب سياسية ومذهبية واقتصادية واجتماعية غير أنها فقدت دورها السياسي الهام إثر مذبحة دامية راح ضحيتها عدد كبير تجاوز الألف من زعماء هؤلاء الأحداث على طريقة مذبحة القلعة التي أجراها محمد علي باشا ضد المماليك في مصر.
تدهورت منظمة «الأحداث» وبمجىء الدولة الأيوبية ودخول الفرنجة وغياب العباسين اختفت المنظمة واختفت بطولات رؤساء البلد من الأحداث، وإن ظلت بطولاتهم الشعبية وذكريات تنظيماتهم الشعبية وبعض أفكارهم وتقاليدهم وآدابهم الخاصة بالفروسية قائمة بالضمير الشعبي الشامي.
منظمة «الأحداث» التي بدأت كمنظمة تحمي الأمير ثم تحولت تحت تأثير تلك الضغوط السياسية والاقتصادية لأن تصبح حامية المدن جذبت إليها العامة خلال النجاح المؤقت الذي لقيته ثوراتهم ما اتاح لهم فرصة إقامة نوع من السلطة الحكومية في دمشق وبعض مدن الشام وكان لها من القوة والنفوذ الواقعي ما مكنها من جني الضرائب من الأسواق وفرض الإتاوات على المتمولين كما أشار المقريزي.
حركة «الأحداث» لم تكن غريبة على نسيج المجتمع العربي فقد تشابهت في خصائصها مع حركة الشطار والعيارين في العراق، كما تشابهت مع حركات الحرافيش والزعر في مصر فجميعهم مثلوا جزءا أصيلا من جسد المعارضة الشعبية العربية ضد القوى السياسية والإقتصادية والاجتماعية المتسلطة على الإنسان العربي، لذا لم يكن من المستغرب أن يصبح مسرح الأحداث في حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي مشتركا ما بين القاهرة ودمشق وبغداد.
وللحديث بقية ..