لم ينكر الأمريكي إيلون ماسك أن صناع المسلسل البريطاني «المرايا السوداء» والذي اهتمت حلقاته بتأثير التكنولوجيا على حياتنا كبشر، قد أحسنوا التوقع لكثير من تفاصيل اختراعه الذي أعلن عنه مؤخراً، وذلك في إجابته على بعض الأسئلة مؤكداً أن الموضوع قد يبدو «مجنونا» ولكنهم (صناع العمل) قد أحسنوا التوقع أو بالأحرى التخيل خصوصا وأن العمل الفني سبق العلمي بسنوات.
فبينما رصد الأول في إحدي حلقاته إمكانية زراعة رقاقة إلكترونية خلف أذن الإنسان تتيح له تسجيل كل ما يراه و يسمعه باستخدام جهاز تحكم عن بعد، لم يختلف اختراع ماسك كثيراً، حيث بات واقعياً الآن ومن خلال تلك الشريحة التي سيتم زراعتها داخل مخ الإنسان من التحكم في مشاعره و أحاسيسه، أو تنشيط ذكرياته الجميلة مع إمكانية حذف كل ما هو حزين ومؤلم داخل ملف مغلق لا مجال لتفكيكه إلا بقرار من صاحبه، إضافة لإمكانية الاستشفاء من أمراض عصبية و بصرية وغيرها.
إيلون ماسك يتحدث عن محاولته لتحويل مسلسل المرايا السوداء إلى واقع
و«المرايا السوداء» ليس العمل الفني الوحيد الذي اقترب من هذا الحلم / الواقع، فهناك أعمال أخرى تناولت الفكره بصوره أو بأخرى منها مثلا فيلم eternal sunshine of the spotless mind ” ” أو «إشراقة أبدية لعقل نظيف» والذي أنتج عام 2004 ومن إخراج الفرنسي ميشيل غوندري ومن بطولة جيم كاري وكيت وينسليت، ما يشير مجددا لأن الدراما بأنواعها سبقت حلم إيلون ماسك عبر تضمينه عدة أعمال فنية، كذلك اختراعات أخرى و أحداث كثيرة تنبأت بها الدراما قبل أن تتحول لواقع ملموس بسنوات .
فهل المسأله مجرد صدفة أن يتطابق الواقع مع ما سبق وطرح فنيا؟ أم أن كتاب السيناريو بشكل عام لديهم قدرات خاصة تمكنهم من التنبؤ بأحداث المستقبل خصوصا وأن نفس الظاهرة تكررت في أعمال أخرى محلية وعالمية فدائما هناك متشابهات بين الواقع والدراما، أم أن السر يكمن في قدرة البعض على «استشراف» المستقبل عبر قراءة سليمة لمعطيات الواقع.
استلهام
التكنولوجيا وتبعاتها و كمدى تأثيرها على الحياة و البشر سواء سلبا أو إيجابا كانت مادة شيقة للتناول الدرامي وعبر الكثير من الأعمال ما يفسر لماذا لم يتفاجئ الجميع بالربوت الآلي “صوفيا” والتي أطلت بالقاهرة كشاهد أكيد علي قمة الصناعة الإبداعية ، فلقد سبق للسينما وبالأخص العالمية أن تناولت « الذكاء الاصطناعي» في الكثير من الأعمال عبر تنويعات درامية مختلفة من بينها فيلم الخيال العلمي ” Ex Machina ” للمخرج أليكس جارلاند والذي رصد الأخطار التي يمكن أن تواجه الإنسان حينما يأمن لروبوت قام بتصنيعه و برمجته على التفكير و الوعي، إلا أن الروبوت الأنثى تتمكن لاحقاً من إقناع صانعها بإخراجها من مقرها السري لرؤية العالم الخارجي لتحيل حياته وحياتنا لكابوس.
كذلك أفلام أخرى كثيرة اقترب خيال صناعها من كل ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي و كيفية اندماجه في حياتنا المستقبلية، وتأثير ذلك على البشرية على كافة المستويات .
التكنولوجيا كان لها نصيب أيضا من توقعات مسلسل الكارتون سيمبسون الأشهر في مجال التوقعات أو التنبؤات وفقا لتوصيف البعض نظراً لكمية التطابقات بين هذا العمل الفني وما حدث لاحقاً، فمثلاً في إحدى حلقاته والتي عرضت عام 1996 ظهر ضمن الأحداث جهاز يشبه الجيل الأول من من «الايبود» « iPod » والذي لم يرى الوجود إلا عام 2001، ولا يمكننا معرفة ما إذا كان صناع العمل توقعوا هذا الاختراع أم أن مصممى الجهاز استلهموا فكرة التصميم من خلال مشاهدتهم للمسلسل.
كذلك التواصل عبر ساعات اليد ففي حلقة تم بثها عام 1995 نرى أحد أبطال المسلسل وهو يتحدث لآخر عبر ساعته اليدوية، وهو الاختراع الذي أطلقته شركة سامسونج عام 2013.
هذا العمل الكرتوني الذي تجاوزت حلقاته الـ 600، الخيال فيه يسبق الواقع بصورة غريبة، ليس فقط فيما يتعلق بالتكنولوجيا، ولكن في أحداث مختلفة منها مثلاً أنه تنبأ بفوز رئيس أمريكي بدت ملامحه في العمل متطابقة إلى حد بعيد مع الرئيس ترامب، وأشارت الحلقة التي بثت عام 2000 إلي أنه سيترك الحكم و بلاده في وضعية مالية سيئة، وفي الحلقة الرابعة من الجزء العشرين والتي تم بثها سنة 2008 كشفت الأحداث عن تلاعب في آليات التصويت بالإنتخابات الأمريكية حيث كان أحد أبطال المسلسل يحاول التصويت لأوباما ولكن الآلة كانت تقوم بالتصويت بشكل تلقائي لمنافسه.
وبعد 4 سنوات من بث الحلقة حدثت هذه المشكلة فعلاً على أرض الواقع فلقد تم استبدال آلة تصويت في ولاية بنسلفانيا عندما لاحظوا أن كل الأصوات الخاصة بأوباما تحولت مباشرة لصالح منافسه.
التطابقات بين خيال صناع هذا العمل والواقع كثيرة لدرجة تدفع عدداً كبيراً من متابعيه عند حصول أي حدث عالمي للعودة إلى حلقاته القديمة لمعرفة ما إذا كان قد سبق وتنبأ بها أم لا.
معطيات
الدراما المصرية هي الأخرى لم تكن بعيدة عن التنبؤ، فالذاكرة السينمائية والوجدانية لازالت تحتفظ بمشاهد من رائعة الراحل عاطف الطيب « البريء» والذي تنبأت أحداثه بإحتجاجات جنود الأمن المركزي في العام 1986، غير أن مؤلفه السيناريست وحيد حامد رفض حينها وصف هذا التطابق بالنبوءة ولكنه أكد أنه مجرد قراءة صحيحة لحال المجتمع.
وهو أيضا نفس ما سبق وعلق به المخرج خالد يوسف والذي نجحت أفلامه «هي فوضى» ( كان مشاركاً في الإخراج مع الراحل الكبير يوسف شاهين) و”دكان شحاتة” في رصد أحداث سياسية شهدها الواقع، حيث رصد الأول ثورة الجماهير على أقسام الشرطة اعتراضا على الظلم والقهر الذي تمارسه ضدهم، بينما رصد الثاني احتجاجات الجماهير بسبب غلاء الأسعار تماما كما حدث بعد رفع أسعار تذاكر المترو أول مرة، ولكن الفيلم زاد عليها بمهاجمة الطبقات المعدمة منازل الأغنياء وهو ما توقعه عدد من الساسة لو استمرت الأوضاع على نفس النحو من الضغوط الاقتصاديه علي طبقات وصلت للعدم.
خالد يوسف أكد حينها قدرة أفلامه على استشراف الواقع لدرجة أذهلته هو شخصيا رغم اتهامات البعض له آنذاك بأنه «يهذي».
الناقد السينمائي أندرو محسن يرى أن الفنان لديه قدر من الخيال وفي نفس الوقت لديه قدرة على قراءة الواقع بكل ما فيه من دلالات و أحداث تتيح لخياله أن يتوقع ما قد يحدث لاحقا، مشيراً لأن بعض الأعمال وبالأخص المنتمية للخيال العلمي تتعلق بقدرة صناعها على تحرير خيالهم ومن ثم تقديم رؤية مستقبلية قد يراها البعض مستحيلة في حينها.
أما عن الأفلام التي تنبأت بأحداث سياسية تحققت على أرض الواقع لاحقا فيرى محسن أن صناعها عاشوا تلك الفترة بكل ما تشهدها من حالات احتقان واضحة ومن ثم تأثروا بها وكانوا مهتمين بالتعبير عنها بما ينفي فكرة قدرتهم علي «استشراف»” المستقبل، ولكنها وكما أشرنا قدرة على قراءة «المعطيات» أى الواقع وتحليله بشكل جيد ومن ثم طرح رؤية منطقية تتوافق وما تم طرحه، بتعبير أدق تستعرض مقدمات تصل بنا لنتائج قد يراها البعض غريبة ولكن بقراءة متأنية للواقع حتما سنصل لها.
نفس الكلام يؤكده السيناريست ناصرعبد الرحمن (مؤلف هي فوضى ودكان شحاتة) مشيراً إلى أنه لا يوجد فنان مشغول بفكرة التنبؤ، هو فقط تستوقفه معطيات ما وتشغله وتؤرقه فيبدأ في دراستها والعمل على تفهم أسبابها ثم يصنع منها عملاً ما، و لا يعنى هذا أنه «منجم» ولكنه فقط لديه القدرة على قراءة هذه المعطيات بقدر من النزاهة والشفافية ثم العمل على دراستها بدقة ومصداقية.