ثقافة

حكايات الحرافيش والزعار والعيارين في مصر المحروسة

«الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان».. هكذا كان يصيح حرافيش مصر خلال أعمال المقاومة التي انخرطوا فيها دفاعا عن أرض مصر حين دخلت الحملة الفرنسية الأراضي المصرية و«فرط الرمان» هذا كان اللقب الساخر الذي أطلقه حرافيش مصر على قائد قوات الحملة الفرنسية.

احتلت حكايات الحرافيش والزعار والعياق  وغيرهم من طوائف الشطار من المتمردين أو الثائرين بمصر مكانة متميزة في الأدب الشعبي الشفوي منه والمدون، فيما عُرفَ بأدب الشطار والعيارين وبرز بعض زعماء تلك الطوائف والجماعات بروزا استقل معه بسيرة من السير الشعبية مثلهم مثل أبطال الملاحم الشعبية كأبي زيد الهلالي والأميرة ذات الهمة والظاهر بيبرس؛ بطريقة تعكس رؤية الجماعة الشعبية لما ينبغي أن تكون عليه الحياة الاجتماعية والسياسية كما وردت بخلد الفنان الشعبي المبدع والوجدان القومي المتذوق لتلك الفنون الشعبية.

الدكتور محمد رجب النجار في كتابه «الشطار والعيارين .. حكايات في التراث العربي» يواصل رحلته في عالم الشطار والعيارين متجولا بكتب التاريخ والأدب الشعبي التي حفظت حكايات حرافيش وزعار وعياق مصر في محاولة لرسم صورة لسمات تلك الجماعات والدور الاجتماعي والسياسي الذي لعبوه وطبيعة علاقتهم بالسلطة الحاكمة.

مشيخة حرافيش مصر

ازدهر نشاط الحرافيش والزعار والعياق بمصر مع أواخر العصر الأيوبي وخلال العصر المملوكي والعثماني وتحدثت عنهم المصادر التاريخية، ووصفتهم بصفات يغلب عليها الطابع السلبي على عكس ما جاء بالكتب الأدبية فهم وفقا للمصادر التاريخية «جماعات مسلحة من الرعاع.. الدهماء.. العوام.. الحثالة العامية.. الجعيدية.. الأوباش.. الغوغاء.. السفلة.. أراذل السوقة.. ليسوا إلا متلصصة ونهابة.. من طلبة الشر.. وأهل فساد» إلى غير ذلك من أسماء وصفات ونعوت.

رغم كل تلك الصفات السلبية لجماعات الحرافيش والزعار والعياق إلا أن بعض المصادر قد أهتمت برصد الدور الاجتماعي والسياسي الذي لعبوه، وهنا يصف ابن بطوطة حرافيش مصر بكونهم «طائفة كبيرة أهل صلابة وجاه ودعارة» وقد تراوح عددهم بالقاهرة ما بين «الخمسين ألف ومائة ألف» يهيمون بلا مأوى في الليل والنهار بأجساد عارية ليموت الكثير منهم من شدة البرد وقد بلغت «مشيخة الحرافيش» مكانة عالية من السطوة جعلت السلاطين يخشونها، ويُروى عن طرائف تلك المشيخة وشيخها أن السلطان قنصوه الغوري حين خرج لمواجهة الزحف العثماني في الشام «سافر مع شيخ المشايخ المسمى شيخ الحرافيش، وجنده وصنجقه وطبله، وكان هو قائد طبل السلطان لما دخل إلى دمشق كما جرت به العوائد القديمة عند خروج التجاريد» أي الجيوش.

مصر في العصر المملوكي
مصر في العصر المملوكي

اقترن اسم الحرافيش بعالم الصوفية ذلك أنهم كانوا يلتصقون بالجماعات الصوفية وزواياهم، وكثيراً ما كان يلجاء بعض الحرافيش إلى التسول، ولكثرة عددهم وقوتهم فإن سلاطين المماليك كانوا يخشونهم إلى الحد الذي جعلهم ينفقون عليهم أيام المجاعات وفي المواسم الدينية والأعياد.

غير أن بعض السلاطين لم يروا في الحرافيش سوى كونهم جماعة من اللصوص ففي خلال ثورة العامة سنة 742 هجريا التي تحولت إلى نهب وسلب لبيوت أمراء المماليك وحدهم يذكر ابن تغري بردي أن «قوصون رسم بتسمير عدة من العوام، فسمر منهم تسعة على باب زويلة، ثم أمر بالركوب على العامة، وقبضهم، ففروا حتى أنهم لم يقدروا على حرفوش واحد» وعلى الجانب الآخر استقطب بعض أمراء المماليك الحرافيش في صراعهم مع «قوصون» مثلما فعل الأمير «أيدغمش».. «فأقبلت عليه العامة كالجراد المنتشر لما في نفوسهم من قوصون، فنادى لهم أيدغمش: يا كسابة، عليكم بإسطبل قوصون، فانهبوه» .. هكذا كان بعض المؤرخون يطلقون على الحرافيش ألقاب «العامة .. الكسابة».

لعب الحرافيش بمصر دوراً عسكرياً خلال فترات الصراع الداخلي والحروب والخارجية ثم تحولوا إلى فئة المتسولين الشحاذين بالعصر العثماني وتحولت مشيختهم من مشيخة الحرافيش إلى طائفة الشحاذين وأصبح كبيرهم يحمل لقب «شيخ الشحاتين» على حد تعبير الجبرتي.

الحرافيش والمقاومة الشعبية

مع دخول الحملة الفرنيسة أرض مصر انخرط الحرافيش بأعمال المقاومة الشعبية إلى جانب الأمراء المماليك دفاعا عن مصر، ومن طرائف جماعة الحرافيش أن كل حرفوش كان يتمكن من قطع رأساً من رؤوس الفرانسيين كان يذهب بها إلى قائد المقاومة لأجل البقشيش، وهم يصيحون «الله ينصر السلطان، ويهلك فرط الرمان».

المثير في أمر هؤلاء الحرافيش أنهم وقفوا في مواجهة المشايخ والعلماء والتجار الذين كانوا يتعاونون في الظلام مع الفرنسيين ويقبضون منهم، على نحو يعكس مدى وطنيتهم وإنتمائهم لمصر إلى حد جعل العلماء والمشايخ الوطنين أن ينضموا إليهم ومن ثم بات حرافيش مصر ومن تبعهم من «الزعر والأوباش» والعوام هم صوت المقاومة حين هرب زعماء الأمراء المماليك خارج مصر.

الحملة الفرنسية على مصر
الحملة الفرنسية على مصر

ثورات الحرافيش في عهد محمد علي

بعد خروج الحملة الفرنسية وتولي محمد على باشا حكم مصر اندلعت بأحياء القاهرة: «باب الشعرية والحسينية وبولاق ومصر القديمة والرملية» وغيرها من الأحياء الشعبية ثورة عامة سنة 1220 هجرياً، تزعمها الشيخ حجاج الخضري شيخ طائفة الخضرية وابن شمعة شيخ طائفة الجزارين وهى الثورة التي خذل فيها العلماء والمشايخ عامة الشعب ونصرهم الشطار والزعار.

وعلى الرغم من نجاح محمد علي في امتصاص هذه الثورة إلا أنه كان شديد الإعجاب بحجاج الخضري أو «الرميلاتي» كما اشتهر نسبة لحي «الرميلة» فبعث في طلبه بعد أن هدأت أحداث الثورة فخلع عليه وأمر بأن يظل يتمتع بحرفته ووجاهته بين أقرانه، فصار يمشي في المدينة وبصحبته عسكري ملازم له، غير أنه شنق سنة 1232 هجرياً بغير أي جرم قد أقترفه وما كان «المحتسب» يجرؤ على فعل ذلك دون أن يحظى بتأييد من محمد علي باشا.

من أطرف ما ذكره الجبرتي في حوادث سنة 1231هجريا عن هؤلاء «العيارين من السراق» على حد تعبيره أنهم تعدوا على قهوة الباشا «محمد علي» وسرقوا جميع ما بالنصبة فثارت ثائرة الباشا وهدد بعض أرباب الدرك المسؤلين بالنكال العظيم .. «فما كان من أرباب الدولة إلا أن قبضوا على جماعة منهم فخوزق الباشا منهم عدداً كبيراً، ثم شنق أيضا أكثر من خمسين عياراً في نواح متفرقة بالأقاليم مثل القليوبية والغربية والمنوفية» كي يكونوا عبرة لغيرهم من العيارين الذين قد تسول لهم نفوسهم سرقة الباشا.

بدأ محمد علي باشا في التخلص من معارضية ومن بينهم رؤساء الزعار والحرافيش والعيارين بعد أن هادنهم وتعاون معهم واستقطبهم إلى جانبه في صراعه مع المماليك؛ حتى قضى عليهم جميعا وخلت له الأجواء دون منافس له.

ابن عروس أشهر الشطار

«الشطار والحرافيش والزعار والعياق» برغم كل تلك الصفات السلبية التي الصقها بهم بعض المؤرخين لعبوا دورا رئيسي في العديد من الإنتفاضات والحركات الشعبية المتمردة المعارضة إلى جانب انخراطهم بأعمال المقاومة الشعبية ضد المحتل وقد حفظ لهم التراث الشعبي صورة ناصعة تحمل الكثير من صفات الشجاعة والإقدام والكرم والإحسان على الفقراء ونصرة الضعفاء.

وإذا ما أردنا أن نضرب مثلاً من التراث الشعبي المصري لن نجد أشهر من نموذج «ابن عروس» الذي أضفت عليه الحكايات الشعبية الكثير من أخلاق الفروسية، وهو ابن الليل الذي خالط الخارجين على القانون وتمرد على أهل السلطة، ويقال أن ابن عروس قد عاش في القرن الثاني عشر الهجري وظل يقطع الطريق أكثر من ثلاثين عاماً خارجاً على القانون ببعض مناطق الصعيد، ومع ذيوع اسمه بعالم اللصوصية بادر الأغنياء وحكام الأقاليم باسترضائه بالأموال اتقاء لشره وصونا لكرامتهم ومكانتهم.

حفظت الحكايات الشعبية عنه الكثير من المواقف التي تدل على الجانب الإنساني فيه إذ كان باراً كريماً عطوفاً على الفقراء والضعفاء والأرامل والأيتام، وزاد من شهرته أنه كان «قوالا، يقول الشعر والحكمة!» وقد ظلت أشعاره سارية ذائعة يرددها المجتمع الشعبي المصري الذي كان يحفظها عن ظهر قلب، وتعد رباعياته بمثابة وثيقة اجتماعية وتاريخية دالة على ما يؤمن به المجتمع الشعبي من قيم وأعراف مازالت تنبض بالحياة داخل ربوع مصر من الصعيد إلى الأحياء الشعبية بالقاهرة حتى يومنا هذا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock