رؤى

تطور الجهادية السلفية في شرق أفريقيا.. معضلة في كينيا

عرض وترجمة: أحمد بركات
بعد الصومال، تحملت كينيا العبء الأكبر من تمرد حركة الشباب. وتشير التقديرات إلى أن المواطنين الكينيين يشكلون العدد الأكبر من المقاتلين غير الصوماليين في الحركة، وهو ما يعود إلى التداخل التاريخي بين الدوائر السلفية في كل من كينيا والصومال. نشطت التنظيمات الإسلامية في كينيا بدرجة كبيرة في تسعينيات القرن الماضي خلال فترة التحرر السياسي المعتدل. في الوقت نفسه، وجدت الإسلاموية أتباعا لها على طول الخط الساحلي لإقليم السواحيلي في كينيا، حيث يدين سكان المنطقة بالإسلام منذ مئات السنين قبل وصول الاستعمار الأوربي إليها، ولا يزالون يعانون من التهميش في حقبة ما بعد الاستقلال. إضافة إلى ذلك، كان الصوماليون في كينيا – باعتبارهم إثنية مضطهدة منذ فترة طويلة – نشطون تاريخيا في الدوائر الإسلاموية داخل كينيا. ونظرا لسهولة اختراق الحدود الكينية، لم يكن مفاجئا أن بعض الكينيين تدربوا في معسكرات “منظمة الاتحاد الإسلامي” – وهي منظمة سلفية تشكلت في الصومال في الثمانينيات وتنكرت علنا للعشائرية التي قامت على أساسها الحرب الأهلية – ولاحقا في معسكرات اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال في تسعينيات القرن الماضي والسنوات الأولى من الألفية الجديدة.

اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال
اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال

بدأت حركة الشباب في تجنيد الكينيين في نهاية العقد الأول من هذه الألفية من خلال “مركز الشباب المسلم”، وهي جماعة سلفية كينية أعيد تسميتها فيما بعد بـ “الهجرة” ثم اندمجت في حركة الشباب. تأسس “مركز الشباب المسلم” في عام 2008 في مسجد بومواني رياضا في ضاحية ماجينجو الفقيرة في نيروبي، والتي تضم مجتمعا من المهاجرين الساحليين. كان “مركز الشباب المسلم” هو الشبكة الأقوى بطول خط الساحل، واعتمد بالأساس على دعم رجال الدين المتشددين في مومباسا، مثل عبود روجو وأبو بكر شريف “مكابوري”، المقربين من صالح نبهان أحد أشهر رموز الإرهاب في مومباسا. وتولى “مركز الشباب المسلم” تمويل حركة الشباب سواء بالأموال أو المقاتلين والترويج لتنظيم القاعدة، رغم أنه كان يعمل في العلن نسبيا في المراحل الأولى من تأسيسه. ولم يكن كثير من المسلمين الكينيين على علم، أو ربما تغاضوا عن الأفكار الراديكالية التي تعتنقها الجماعة، ومن بينها حث المسلمين على مقاطعة السياسة الوطنية على أساس أن الدولة الكينية تمثل احتلالا استعماريا لأراضي المسلمين ، مما أدى إلى إبعاد الشباب عن الشارع.

وبعد توغل كينيا في الصومال في أكتوبر 2011، أصبح “مركز الشباب المسلم” أكثر تشددا بشكل واضح. ورد أعضاء “مركز الشباب المسلم” بطول الساحل والشبكات المرتبطة بحركة الشباب في إيسلي – ضاحية “مقديشيو الصغيرة” في نيروبي – على الغزو بحملة إطلاق نار بدائية وهجمات بالقنابل اليدوية ضد قوات الأمن والشركات ووسائل النقل العام. وفي يناير 2012، أعلن “مركز الشباب المسلم” كينيا “منطقة حرب”، وعينت “الشباب” أحمد إيمان علي، مؤسس “مركز الشباب المسلم”، قائدا للحركة في كينيا. وردت قوات الأمن الكينية بحملة قمع وحشية تسارعت وتيرتها بعد هجوم ويستجيت في سبتمبر 2013. وأسفر القمع الأمني في كينيا عن  مقتل العشرات من علماء الدين الراديكاليين، مثل روجو وماكابوري. وأثارت عمليات القتل أعمال شغب في عام 2014، كما أدت إلى إغلاق مؤقت لمسجدين تابعين “لمركز الشباب المسلم” في مومباسا، وهما مسجد موسى ومسجد سكينة.

أجبرت الحملة القمعية “مركز الشباب المسلم” على العمل تحت الأرض. وهرب كثير من أعضائه إلى تنزانيا المجاورة، حيث لم يكن التركيز الأمني منصبا بقوة على مكافحة الإرهاب. وانضم آخرون إلى أحمد إيمان علي في الصومال. وتحولت “الشباب” إلى تنفيذ غارات عبر الحدود من جنوب الصومال، وهو التوجه الذي لا يزال مستمرا حتى اليوم. وركزت هذه الغارات في الغالب على المقاطعات الحدودية ذات الأغلبية الصومالية في كينيا، مثل مانديرا وواجير وجاريسا، إلى جانب مقاطعة لامو الساحلية التي يوجد بها خليج ماندا. وقد تم تنفيذ بعض هذه الضربات من قبل وحدة خاصة تضم في الغالب مقاتلين كينيين وتنزانيين ويطلق عليها “جيش الإيمان” تتخذ من جنوب الصومال مقرا لها وتحتفظ بمعسكرات في غابة بوني بمقاطعة لامو.

وفي نهاية عام 2019، حاولت حركة “الشباب” العودة إلى مومباسا بشكل دراماتيكي، لكن قوات الأمن الكينية أحبطت مخططهم الخطير في نهاية سبتمبر لاستهداف مواقع مهمة حول مدينة مومباسا، وربما في مقاطعات مجاورة. بدا هذا المخطط أكثر طموحا من أي مخطط آخر اضطلعت به الحركة من قبل في مومباسا، ومن المحتمل أنه كان ينطوي على تنسيق بين خلايا متعددة. وظهر مزيد من الأدلة على اضطلاع الحركة بعمليات جديدة بطول الساحل في أكتوبر، في الوقت الذي نشرت فيه السلطات الكينية قائمة بأسماء عشرة إرهابيين مشتبه فيهم، ويُعتقد أنهم كانوا يعملون حول مومباسا، ويحملون جميعا أسماء باللغة السواحيلية أو بلغة الديجو.

قوات الأمن الكينية
قوات الأمن الكينية

ثم جاء هجوم “دوسيت دي تو” في يناير 2019 ليكون علامة على تطور خطير في عمليات “الشباب” في كينيا، حيث أكد قدرة الجماعة على الاستفادة من مجموعة متنوعة من المقاتلين للضرب في قلب كينيا. وفي بيانها الذي أعقب الهجوم، أطلقت حركة الشباب على العملية اسم “القدس لن تُهوًد”، كما زعمت أن العملية جاءت بناء على الدعوة التي وجهها الظواهري لاستهداف “المصالح الغربية والصهيونية” في جميع أنحاء العالم في أعقاب قرار إدارة ترمب بنقل سفارتها إلى القدس.

كان هذا على الأرجح تبريرا بأثر رجعي لهجوم كان مخططا بالفعل، لكنه يؤكد كيف ترى “الشباب” نفسها جزءا من مجتمع السلفية الجهادية العالمي، وكيف تضع عملياتها في خدمة مصالح تنظيم القاعدة المتمثلة في طرد القوات الأجنبية من بلاد المسلمين. حمل الهجوم أيضا رمزية مهمة للجهاديين الكينيين، حيث وقع في الذكرى الثالثة لأكبر عمليات “الشباب” ضد قوات الأمن الكينية في عام 2016 في قاعدة بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميسوم) الكينية في العدي بالصومال، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 140 جنديا وأطلق ردة فعل سياسية عاصفة في نيروبي. وكإشاة أخرى بالجهاديين في كينيا، زعمت “الشباب” أن منفذي عملية “دوسيت” هم عناصر “لواء الشهيد صالح نبهان”، الذي نُسب إليه الفضل أيضا في هجوم العدي.

أما العنصر الأكثر إثارة في هجوم دوسيت فيتمثل في التركيبة الإثنية للفريق الخماسي الذي نفذ الهجوم. فقد كان قائد الخلية، علي سالم جيشونج، نجل جندي في قوات الدفاع الكينية، بما يجعله من قلب الطبقة الوسطى الكينية، وينتمي عرقيا إلى “ميرو”، وهي مجموعة عرقية ذات أغلبية مسيحية تستوطن وسط كينيا. أما المفجر الانتحاري في الخلية، ماهر رزقي، فقد كان أحد أعضاء “مركز الشباب المسلم” الذين فروا من الحملة القمعية التي أعقبت أحداث مسجد موسى إلى تنزانيا. وينتمي المشتبه به الثالث الذي حددته الشرطة، إريك كينيانجوي، إلى كيكويو، وهي إثنية أخرى ذات أغلبية مسيحية تعيش في وسط كينيا. وقد مثل هذا التنوع تحولا عن الهجمات الكبرى السابقة لحركة الشباب، والتي كان يقودها وينفذها صوماليون.

وبعد الكشف عن الدور “المحلي” في الهجمات، كشف المسئولون في وسط وغرب كينيا عن مزيد من الأدلة تتعلق بتجنيد حركة الشباب لعناصر تنتمي إلى مجتمعات ذات أغلبية مسيحية في مقاطعاتهم. ويبدو أن هذه البيانات تؤكد تقارير سابقة أشارت إلى أنه بعد حملة القمع الشديدة في كينيا في الفترة بين عامي 2012 و2014، تجنبت بعض عناصر “مركز الشباب المسلم” الهجرة إلى الصومال، وبدلا من ذلك، تفرقوا وسط جماعات محلية داخل كينيا كانت تاريخيا تمثل هامشا للشبكات الإسلاموية في البلاد. كانت هذه الاستراتيجية متعمدة على الأرجح من جانب “الشباب” من أجل تجنب الكشف عن عناصره من جانب وفتح موارد جديدة للتجنيد من جانب آخر. وقد أفادت تقارير أن المسئولين عن عمليات التجنيد حثوا أتباعهم الجدد على الاحتفاظ بأسمائهم المسيحية لتجنب الاشتباه.

حركة الشباب في كينيا
حركة الشباب في كينيا

لا يزال السؤال حول كيفية نجاح “الشباب” في تجنيد عدد غير قليل من العناصر من وسط وغرب كينيا، بما في ذلك المسيحيين المتحولين إلى الإسلام، بحاجة إلى مزيد من البحث. في هذا السياق، تشير السلطات الكينية إلى دور الحافز المالي في كسب هؤلاء المجندين، وهو ما يتوافق مع تقارير تفيد بأن أغلب عمليات التجنيد تتم في الأحياء الفقيرة. لكن العامل الاقتصادي يبقى قاصرا عن تفسير ظاهرة واسعة الانتشار كظاهرة التحول إلى الراديكالية، لكنه كافيا لدفع نيروبي بقوة باتجاه طلب مزيد من المساعدات والاتفاقات التجارية مع الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، أشارت بعض قوى المجتمع المدني إلى أن جهل العناصر التي يتم تجنيدها بالإسلام يجعلهم أكثر تأثرا بالتعاليم الدينية الراديكالية التي يأخذونها عن “الشباب”. يبدو هذا محتملا، لكنه لا يعكس سوى طرف واحد من المعادلة. فبالنظر إلى سجل الشباب الحافل في الاستفادة من المظالم الاجتماعية والسياسية في الدول الأخرى، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الجماعة ربما تصيغ رسائل اجتماعية وسياسية واقتصادية أكثر شمولا وتوافقا مع المجتمعات الكينية المتنوعة، بما في ذلك المسيحية.

*جيمس بارنيت – باحث وكاتب مستقل ومحرر في مجلة The American Interest

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock