في مقال نشر حديثاُ أسهب الدكتور علي الحفناوي في توضيح الدور الذي لعبه «ماتيو ديليسبس» في توطئة الأمر لولاية محمد علي في مصر، ولا شك في أن هذا المقال أعاد إلى الواجهة من جديد مسألة الدور الفرنسي في تولية محمد علي حكم مصر، في مفتتح المقال المهم يقرر كاتبه أن هذا الشخص المدعو ماتيو، شخصية فرنسية فريدة، كان له دور هام وخطير في تاريخ مصر الحديث بعد الحملة الفرنسية على مصر في بداية القرن التاسع عشر، وخاصة بعد فشلها وانسحاب جيشها من الأراضي المصرية، حيث استقدم «نابليون بونابرت» السيد «ماتيو»، وكلفه بمهمة رسمية في مصر ومهمة أخرى سرية.
أما المهمة الرسمية، فكانت تعيينه يوم 7 مارس عام 1803 مفتشا عاماً على الشئون الفرنسية في مصر، وخاصة مندوباً للشئون التجارية في دمياط، وبهذه الصفة أصبح أول ممثل رسمي للحكومة الفرنسية في مصر قبل عصر القناصل والسفراء. ويوضح المقال أن «نابليون» الذي كان يستهدف قطع الطريق على إنجلترا، وأن يدخل مصر تحت النفوذ الفرنسي على حساب بريطانيا ونفوذها في الشرق، ولذلك أسند إلى ماتيو دوراً آخر لا يقل أهمية عن دوره المعلن، وكلفه بمهمة أكبر وأكثر خطورة، ولكنها اتخذت صفة السرية حتى لا يدرك الانجليز خططته الخاصة بمصر.
وحسب ما جاء في المقال المشار إليه فإن المهمة السرية كانت تتمثل في العمل سرا على استكشاف شخصية قائد عسكري يصلح أن يكون زعيما ورئيسا للمصريين، وفي ذات الوقت تكون علاقته بفرنسا متميزة بحيث تضمن تبعية مصر للسياسات الفرنسية وليس الانجليزية. وبالطبع، كان من الضروري عند اختيار مثل هذا القائد اقناعه بالخطة الفرنسية بالكامل، مع تقديم كل سبل المعاونة العسكرية والمدنية، ومختلف سبل الدعم السياسي، حتى ينجح في مهمة قيادة مصر وتحويلها إلى عاصمة للخلافة الاسلامية.
نجح السيد «ماتيو» بجدارة في مهمته السرية. فقد اقترب من التنظيمات الشعبية والوطنية التي كان يسيطر عليها شيوخ الأزهر، المتحدث باللغة العربية الفصحى، حتى أنه أوجد صلة صداقة حميمة مع بعضهم مثل “عمر مكرم» ومن جانب آخر، وقع اختياره على قائد من قوات الأرناؤوط التابعة للجيش العثماني، واستشف فيه المواصفات اللازمة ليكون زعيما لمصر في المستقبل القريب، فاختار محمد على، وقام بتقديمه لشيوخ الأزهر موضحا أنه سيكون الوحيد القادر على التخلص من المماليك داخليا وصد الهجمات الخارجية، سواء من الأتراك أو الانجليز، وقد تقبله قادة الحركة الوطنية المصرية بصفته مسلماً وله صفات القيادة العسكرية، وحاصلاً على ثقة الحكومة الفرنسية.
وعلى التوازي مع هذا التحرك الداخلي، أخطر «ماتيو» نابليون باختياره، فوجهه إلى ضرورة قيام فرنسا بدعمه رسمياً لدى السلطان العثماني لذلك، قام “ماتيو” بمخاطبة وزارة خارجية فرنسا لتقوم بمساعيها لدى السلطات التركية عن طريق بعثتها الديبلوماسية في إسطنبول، وبالفعل، قام القنصل العام الفرنسي في تركيا سيباستياني بإقناع السلطان العثماني بأهمية تعيين محمد على كوالي لمصر، لأنه الوحيد القادر على وقف الفوضى العارمة في البلاد واعادة التحكم في شئونها الداخلية وصد هجمات الانجليز التي تهدف إلى احتلال مصر.
ترك «ماتيو» مهمته الرسمية في مصر في بداية عام 1805، بعد أن تأكد من تحقيق مآربه، وقام السلطان العثماني بالتوقيع على مرسوم تعيين محمد على بعد ذلك بشهور قليلة. واحتفظ محمد علي بعلاقة وطيدة وحميمة مع «ولىً نعمته” الفرنسي السيد «ماتيو»، حتى أن بعد وفاته، طلب محمد على تعيين «فرديناند ديليسبس ابن «ماتيو» في عمل قنصلي في مصر. والذي جاء للعمل كنائب لقنصل فرنسا بالإسكندرية، ففتح له محمد على أبواب قصوره، بل كلفه بمهام شخصية، كان أشهرها تدريب ابنه «محمد سعيد» على ركوب الخيل بهدف تخفيض وزنه الزائد. ومن هنا، تواجدت العلاقة الحميمة بين الابنين، ونشأ منها بعد ذلك بسنوات فرمان شق قناة السويس الموقع من سعيد باشا لصديقه «ديليسبس».
**
أرسلت إلى الدكتور علي الحفناوي رسالة قلت فيها : «شدني بشدة مقالك حول الدور الفرنسي في اختيار وتثبيت حكم محمد علي، ورحت أبحث عن الموضوع، فوجدت التالي في كتاب المؤرخ الكبير شفيق غربال المعنون «محمد علي الكبير»، يقول في الفصل الرابع: «ولا صحة لِما اختلقوه من بحث القنصل الفرنسي عن رجل جدير بعطف الحكومة الفرنسية واهتدائه إلى محمد علي وكتابته لحكومته بهذا «الترشيح» وتأييد فرنسا لذلك لدى الباب العالي.
يتابع الدكتور غربال فيقول: لم يحدث شيءٌ من هذا قطعًا، ولم يتجاوزْ هَمُّ القنصلِ الفرنسي حماية نفسه ومواطنيه في الاضطراب السائد في القاهرة، وقد ضعُف النفوذُ الفرنسيُّ في القسطنطينية في تلك السنوات لدرجة أن حكومة الباب العالي رفضت الاعتراف بنابليون إمبراطورًا على الفرنسيين، وكان ذلك تحت إملاء روسيا، وانسحب السفير الفرنسي وانقطعت العلاقات بين الدولتين زمنًا، ولكن انتصار نابليون في «أوسترلتز» قرب نهاية سنة ١٨٠٥، وتمزيقه التأليب الأوروبي بإخراج النمسا من الحرب، غَيَّرَ الموقف للدولة العثمانية ولمصر تغييرًا كبيرًا وواجه محمد علي بعد ١٨٠٥ نتائج ذلك التغيير».
وطلبت من الدكتور علي الحفناوي تعليقه حول ما أثبته الدكتور غربال في مؤلفه «محمد علي الكبير»، فأرسل إليَّ يقول: «بحكم اقامتي في فرنسا سنوات طويلة، أتيحت لي فرصة الاطلاع على العديد من الكتب التي تناولت تاريخ فترة نابليون وتفاصيلها. وبالتقاطع بين ما ورد فيها وما جاء بأرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، استطعت التحقق من واقعية ما أوردته في المقال تحت عنوان «ماتيو» والد «فرديناند ديليسبس».
ومن جهة أخرى يوجد بمذكرات «فرديناند ديليسبس» ما يؤكد دور والده في ترشيح محمد علي، كما أنى التقيت بأحفاده «نيقولا»، و«لودوفيك» اللذين يحتفظان بمراسلات جدهم الأكبر «ماتيو» مع محمد علي، وبالفعل فهما لا يختلفان حول هذا الدور.
وأستطيع أن أؤكد لك أن هناك وثائق عديدة باللغة بالفرنسية.
أما الاختلاف فقد جاء من قبل النمسا الكارهة لنابليون وليس من تركيا أو روسيا. وقد استطاع الجنرال «سيباستياني» السفير الفرنسي لدى السلطان العثماني إقناعه بتولية محمد علي، ومراسلات الجنرال محفوظة في أرشيف الخارجية الفرنسية».
ثم أحالني الدكتور علي الحفناوي إلى كتاب والده الدكتور مصطفي الحفناوي المعنون «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، وهو ترجمة لرسالة الدكتوراة التي نوقشت في جامعة «السوربون» الفرنسية، وقال إن به إشارة واضحة لدور «ماتيو ديليسبس» في تدعيم محمد علي.
**
بالرجوع إلى الكتاب نجد أن الدكتور مصطفى الحفناوي خصص فصلاً في كتابه عن «فرديناند ديليسبس» مؤكداً أنه كان رجلاً استعمارياً من النوع الخطر، وأنه لم يدر بخلده أن يؤدي أي خدمة لبني الانسان بحفر قناة السويس، بل أراد أن يجعل هذا المشروع أداة لتمكين فرنسا من احتلال مصر والسيطرة على الشرق بأسره، وهذا ما تؤكده الوثائق والأسانيد العلمية التي لا يستطيع أن يجادلنا فيها أشد الفرنسيين تحمساً لذكرى رجل حاول بالدهاء والمكر وسِعة الحيلة بأن يحقق حلما بعيد المدى.
معلومة جديدة يذكرها الدكتور مصطفى الحفناوي وهي أن «ماتيو ديليسبس» كان من رجال نابليون الأول الذين رافقوه في حملته على مصر، وبعد جلاء الحملة الفرنسية اشتغل «ماتيو ديليسبس» قنصلاً لفرنسا بمصر، ثم يقول: «يجب التنويه إلى أن وظائف السلك السياسي الفرنسي في بلاد الشرق في ذلك الزمن، كانت وظائف جاسوسية، وأهم اختصاصات الذين تُناط بهم تلك الوظائف تتمثل في رسم الخطوط الاستعمارية، والسهر على تنفيذها، بالدس وإثارة الفتن بمختلف الأساليب والحيل».
ويتابع الدكتور الحفناوي الكبير: كانت أسرة «ديليسبس» ممن يتوارثون تلك الوظائف جبلاً بعد جيل، وكان «ماتيو ديليسبس» سليل القراصنة في مقدمة من وضعوا نواة الاستعمار الفرنسي في بلاد افريقيا الشمالية، فاشتغل عيناً لفرنسا في مراكش، ونيطت به مهمة أخرى في طرابلس وليبيا، ثم ما لبث «نابليون بونابرت» أن عينه قنصلاً عاماً لفرنسا في مصر قبل أن تجلو عن أراضي مصر جيوش الحملة الفرنسة، وكان «ماتيو ديليسبس» وقتها في الثلاثين من عمره.
**
جلت جيوش فرنسا عن الأراضي المصرية في سنة 1801 ولكن بقي «ماتيو» يؤدي وظيفة القنصل الفرنسي، وكانت مصر في ذلك الحين ترزح تحت وطأة المظالم والفوضى التي أشاعها البكوات المماليك، وكانت إنجلترا قد اشترت ذمم البعض من أولئك البكوات، وبدأت تمهد لاحتلال مصر وتبذل المساعي، ولكن ظهرت الحركة القومية التي تزعمها محمد علي الكبير، فوقف «ماتيو ديليسبس» في صف هذه الحركة مؤازراً محمد علي، لأنه رأى أن ذلك هو السبيل الوحيد لفرنسا كي تتغلب على النشاط الإنجليزي ومنافسته لها في مصر وبلاد الشرق الأوسط.
ثم يختم الدكتور الحفناوي فيقول: «وفعلاً أمكن لهذا القنصل أن يضمن لفرنسا صداقة محمد علي تلك الصداقة التي استمسك بعُراها العاهل العظيم طوال حياته أما فرنسا فكانت تتقلب وقفا لمقتضيات مصلحتها، وبفضل العلاقات الوطيدة التي نشأت بين «ماتيو ديليسبس» ومحمد علي وجد ولده «فرديناند ديليسبس» طريقه إلى بيت محمد علي وقامت بينه وبين «سعيد باشا» ابن محمد علي صداقة كانت نعمة لفرنسا والاستعمار الغربي بأسره، ونقمة على مصر وبلاد الشرق بأجمعها».
**
القصة نفسها يؤكد عليها الدكتور عصام عبد الفتاح في كتابه «أيام محمد على: حكاية رجل سبق عصره ـ عبقرية الإرادة وصناعة التاريخ» فيقول إن نابليون بونابرت أرسل ماتيو ديليسبس والد فرديناند، عام1803 مبعوثا شخصياً إلى مصر، وبعد فترة أصبح مقربا لشيوخ الأزهر، خاصة علماء الديوان الذي كان نابليون قد أسسه في القاهرة، وكان أن التقط في أثناء فترة الفراغ السياسي من1801 إلى 1805 الطابع الخاص الذي يميز الضابط الألباني محمد علي، فاقترب منه قبل أن يقربه إليه ثم يقربه من العلماء، وما لبث أن تولى محمد علي حكم مصر بإرادة شعبية، واستدعى نابليون ماتيو ديليسبس، وحل محله فرنسي آخر هو دوروفيتي وأصبح المستشار الفعلي السياسي والعسكري والإداري لمحمد علي، ثم صار ابنه الذي ولد في نفس السنة التي رحل فيها عن مصر، وفي سن السابعة والعشرين اختير فرديناند ديليسبس قنصلاً مساعدا لفرنسا بالإسكندرية عام 1832.
وكان طبيعياً أن يلقي فرديناند ديليسبس ترحيباً من محمد علي صديق والده القديم وصاحب فضلٍ عليه، ولعل هذا الترحيب هو الذي شجع فرديناند على عرض مشروع قناة السويس على الباشا الكبير ولكن محمد علي كان يرى أن مثل هذا المشروع ـ رغم فوائده ـ إلا أنه يجعل مصر عرضة لتدخلات أجنبية ودولية يمكن أن تؤثر بالسلب على حرية ارادتها وتصادر قراراها المستقل.
**
قال السفير مدحت القاضي عضو جمعية أصدقاء «فرديناند ديليسبس»، وعضو الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية في حواره لـ«الوطن»،: قد لا يعرف الكثيرون أن دور فرديناند ديليسبس لم يكن قاصراً على فكرة القناة، فالوثائق تكشف عن دوره ودور والده من قبله في تقوية دعائم حُكم محمد على وجلب رِضا الباب العالي عنه، وحين عُين ديليسبس نائباً لقنصل فرنسا في مصر في الفترة بين عامي 1832 و1836، ثُم قائماً بأعمال القُنصل العام بالإنابة عام 1835، كان استقبال محمد على له حافلاً، ففي أول لقاء، قال له محمد على وأمام أفراد الحاشية: «إن ما أنا فيه الآن هو بسبب أبيك.. فاطلب ما تشاء»، وأشار إلى موقف أبيه عندما أرسل للخارجية الفرنسية عندما اختار الشعب محمد على قائلاً: «الشخص الوحيد القادر على استتباب الأمن والنظام ومواجهة المماليك هو محمد على»، لكن محمد على، رغم ذلك، لم يعطه كُل ما يشاء، وعلى الأخص لم يُعطه قناة السويس لأنه أرادها مصرية.
**
الصدفة هي التي قادت ماتيو ديليسبس إلى التعرف والاقتراب من محمد علي، ولكن المكرونة كانت هي السبب وراء تعرف فرديناند ديليسبس على الأمير الشاب (وقتها) سعيد نجل محمد علي باشا، ولذلك قصة يرويها القاضي «بيير كرابيتس» في كتابه الشهير «إسماعيل المُفْتَرَى عليه»
كان لولع الأمير سعيد بالمكرونة أيضا أثر ذو شأن في تاريخ مصر الحديث، فقد كان هذا الأمير في صبا سمين الجسم بسبب عشقه للطعام، وكان ابوه يكره السمنة ويريد ان يكون جسم ابنه كأجسام اهل الرياضة من حيث الجمال فأصدر أوامره المشددة بأن يقضي ابنه كل يوم ساعتين متواليتين يتسلق صاري أحد المراكب الراسية على ضفاف النيل، ثم يقفز من الصاري إلى المياه، ويسبح ومناً ثم يعدو حول أسوار المدينة، وكذلك أمره بالتزام غذاء بسيط ومنع عنه العديد من الأكلات الدسمة التي كان يفضلها الأمير آنذاك.
وحين نقل ماتيو ديليسبس إلى باريس، وأرسل الأمير الفتى سعيد إلى هناك لإكمال تهذيبه وتعليمه، ولكنه ما كاد يصل باريس حتى قاده نهمه إلى بيت ديليسبس حيث توطدت علاقته بالابن فرديناند ديليسبس، وكانا يلتهمان معاً أطباق المكرونة الفرنسية والإيطالية المحببة إليهما.
يقول «بيير كرابيتس»: لم يخطر ببال ديليسبس الصغير يومئذ أن صداقته للأمير ستحدث انقلاباً عظيما في طريق من أهم طرق التجارة العالمية.
مقال جميل ، شكرا على هذا التوضيح التاريحي