ظاهرة اقتباس العناوين وتكرارها ظاهر قديمة قدم الأدب العربي وقد ظهرت بشكل واضح عبر جيل الأربعينيات من القرن الماضي عندما أصدر الكاتب يوسف عز الدين عيسى قصته بعنوان «العسل المر» وهو نفس عنوان قصة لألبرتو مورافيا.
ظلت الظاهرة حتى اليوم ،ففى جيل السبعينات أصدر الروائي الراحل محمد البساطي آخر أعماله الروائية بعنوان «جوع» تلك التي تشابه عنوانها مع رواية النرويجي كنوت همسون «الجوع» التي صدرت في مطلع عشرينيات القرن الماضي، وأهلته حينها للفوز بنوبل.
لم يقتصر الأمر على الرواية ففي الشعر طار محمود درويش ليعنون أحد قصائده بمديح الظل العالي، ولا يخفي على أحد أن مديح الظل العناوين الأثيرة لبورخيس، وفي وقتنا الراهن أصدر الروائي والناقد محمود الغيطاني كتابة اللامنتمي، ولايخفى على أحد أنه عنوان أحد أشهر الكتب لكولن ولسن ، كما أصدر القاص أحمد مجدي همام مجموعته القصصية الجنتلمان بفضل القضايا الخاسرة وهى إحدى الجمل التى وردت في قصة وسم السيف لبورخيس، لم ينته الأمر فقد ظهرت أعمال روائية تحمل اسم الموريسكي وتدور في نفس الدائرة وهي الموريسكي للروائي المغربي حسن أوريد، والموريسكي الأخير لصبحي موسي.
الكاتب الصحفي والمحرر الأدبي مصطفي عبادة يشير إلى أن المشكلة الحقيقية أن المؤلف الأجنبي يختار عنوانه من لحم العمل الفني سواء كان قصة أو رواية أو حتى فيلما سينمائيا، لذلك يأتي العنوان طلقة فنية تبقى في الذاكرة وتشبع حاجة فنية، تذكر طبعا كتاب اللامنتمي لكولن ويلسون الذي تم سلخه في عشرات العناوين ومنهم كتاب كبار كغالي شكري مثلا، أما المؤلف العربي فآخر ما يفكر فيه هو عنوان عمله فقد يكتب رواية جميلة ويظلمها العنوان لأن المؤلف العربي كسول، وكثيرا ما صادفت كتابا جيدا يأتيني للنشر لكن عنوانه منفر، وحين أطلب من المؤلف تغيير العنوان يحتار ويسقط في يده ويطلب مني اختيار العنوان بدلا منه، فالآفة الخطيرة الآن هي تقليد العناوين فحين صدرت قواعد العشق الأربعون وهي رواية قليلة القيمة صار العنوان صرعة والتصق بعشرات الأعمال حتى صار للقهوة قواعد لشربها.
الروائي الشاب هشام شعبان يقول إن هناك عدة رؤى للمسألة، فبعض من يقومون بذلك غرضهم التأكيد على قيمة عملهم الذي يطرحون من خلاله رؤيتهم الخاصة، مثل الأستاذ الكبير توفيق الحكيم في مسرحية “بيجماليون” وكيف أنها تحمل نفس اسم مسرحية “بيجماليون” للكاتب جورج برنارد شو لكنها برؤية مختلفة.. رؤية متفردة وخاصة بالحكيم.. وعلى النقيض، قد يقوم آخرون بذلك إما افتقارا للإبداع وإما جهلا بوجود نص عالمي يحمل نفس الاسم .
يشير الروائي الشاب أحمد عبد المنعم رمضان إلى مقال ل د. وليد الخشاب فى مجلة (الفيلم)، تحدث فيه باستفاضة إلى أصل كلمة (اقتباس)، وهى مشتقة من (القبس)، أى النار، فالاقتباس هو نقل النار من شعلة إلى أخرى، ولكن هل هذا ما يحدث عندنا فعلا؟ هل ننقل نورا ونارا من شعلة أجنبية إلى شعلة مصرية، أم أننا ننقل الشعلة دون النار؟
ويقول أحمد عبد المنعم رمضان ربما (الحب فى زمن الكوليرا) هو أكثر العناوين التى أهناها فى بلادنا، فعدد لا بأس به من الإصدارات التى لا تمت للأصل بصلة اقتبست الاسم الشهير. منذ شهور سخرنا من الاستخدام المبتذل لهذا العنوان وتهكمنا قائلين أن أحدهم يعمل الآن على كتابة رواية باسم (الحب فى زمن الكورونا)، وبالفعل أعلنت إحدى كاتبات السيناريو عن طرحها لكتاب بهذا العنوان!
كذلك حظي عنوان قصيدة تى أس أليوت (الأرض الخراب) باهتمام البعض، حتى أن رواية بالاسم نفسه صدرت لهيثم جواد منذ عامين.
إلا أن بعض الكتاب – بالتأكيد – تأثروا بالمحتوى أيضا، وليس العنوان فقط، مثلما فعل عبد العزيز بركة ساكن فى روايته (الرجل الخراب)، وكذلك الكاتب الجزائرى كمال داوود فى روايته (معارضة الغريب) مشيرا إلى رائعة ألبير كامو (الغريب).
ويلفت إلى أن بعض الروايات التى أثرت فى الكُتاب العرب عبر عصور مختلفة رواية (المحاكمة) لفرانز كافكا، رأينا ذلك قديما فى رواية صنع الله إبراهيم الشهيرة (اللجنة)، التى وإن أختلف اسمها عن الأصل إلا أنه جاء على وزن مشابه، وأتضح تأثر الكاتب الكبير بالفكرة الكفكاوية ولكن بنظرته وأفكاره الخاصة، كما أعاد عزيز محمد الشخصية الرئيسية بالرواية، (جوزف ك)، للعالم الروائى عبر روايته الجميلة والقاسية جدا (الحالة الحرجة للمدعو ك)، وكذلك كانت لي محاولة فى معارضة الرواية الشهيرة عبر إحدى قصصي المعنونة (الكفالة).
اشتهرت فى الآونة الأخيرة رواية باسم (حارس سطح العالم ) للكاتبة بثينة العيسى، وهى قائمة بشكل كامل على محاكاة عدد من الروايات العالمية الشهيرة، مثل ١٩٨٤ وفهرنهايت 451، ورغم تمكن الكاتبة وإمساكها بخيوط قصتها وقدرتها على مخاطبة خيال القارئ إلا أنها لم تقدم أى رؤية جديدة، كان من الممكن أن يكون للنص قيمة أكبر من خلال إضافة فكرة مغايرة، أو زمن مختلف أو بُعد أكثر واقعية للمكان، كأن تدور الرواية فى مجتمع عربي مثلا، إلا أن المؤلفة آثرت السلامة وفضلت التجهيل للزمان والمكان، فبدت الرواية رغم جمالها وكأنها ملخص أو إعادة كتابة أو عرض مُجمع لتلك الروايات الأجنبية دون إضافة واضحة.
ويؤكد عبد المنعم رمضان أن ظاهرة الاقتباس ليست قاصرة على الكتابة المصرية أو العربية بالطبع، فعلى سبيل المثال استلهم الكثيرون تيمة رواية سالينجر (الحارس فى حقل الشوفان)، حتى أن كاتبا سويديا مغمورا اسمه فريدريك كولتنج، سمى نفسه (جاى. دى. كاليفورنيا) وكتب فى نهاية العقد الماضى روايته الوحيدة متخيلا فيها حياة هولدن كولفليد – بطل رواية سالينجر – وهو فى السبعينيات من عمره تحت اسم (الخروج من حقل الشوفان)
منذ عامين أو أقل، فوجئت برواية أفريقية مترجمة إلى العربية تصدر عن إحدى دور النشر المصرية بعنوان (رسائل سبتمبر)، وهو عنوان روايتى التى صدرت عن دار توبقال قبلها بعامين، ظننت أن تشابها غير مقصود قد جمع بين روايتى وبين الرواية الأفريقية التى لم أسمع بها من قبل، ولكنى بالبحث وجدت أن الأصل الزيمبابوى يحمل اسم ( شمس سبتمبر) وليس (رسائل سبتمبر)، هل يعد هذا اقتباسا من المترجم أو الناشر لعنوان روايتى ؟ ربما…
من جهتة يؤكد الشاعر الشاب أحمد إمام الأمر في الشعر يحدث أحيانا، فالشاعر يتعامل مع ما حوله من موجودات باعتبارها وقودا لقصيدته، هذه الموجودات تتضمن أيضا أشكال الفنون الأخرى كالسينما والموسيقى والتشكيل، الأمر يحدث أيضا عندما يذهب الشاعر بوعيه مرة ولا وعيه في مرات أخرى لبداية قصيدة من جملة صادفها هنا أو هناك، أو محاكاة مشهد سينيمائي، أو قراءة جملة تراثية في كتاب مقدس كما فعل عبدالمنعم رمضان في عنوان ديوانه الهائم في البرية.. على هذه الأرض ما يستحق الحياة، جملة درويش الشهيرة قالها نيتشة نصا، بورخيس كتب ديوانا جميلا أسماه مديح الظل ولا أحتاج أي مجهود للإشارة لقصيدة درويش الشهيرة مديح الظل العالي.
نزيه أبو عفش كتب قصيدته ساعة الذئب يحاكي في موضوعها واسمها فيلم برغمان الشهير ساعة الذئب، لكن الشعر انتصر في مرات أخرى كأن تستند فكرة رواية جي إم كوتزي ( في انتظار البرابرة) على قصيدة كفافيس الشهير.
يشير الروائي الشاب أحمد مجدى همام إلى أن أقتباس العناوين أمر يقع في الأدب، وهناك من المذاهب والألوان الأدبية ما قد يبرر ذلك، مثال رواية “حارس التبغ” لعلي بدر، المقتبس عنوانها من “دكّان التبغ” لبيسوا”.. أو “الغريب” لكامو و “معارضة الغريب” لكمال داود. أعني أن “المعارضات” الأدبية تمنح الكاتب صلاحية للإطلال بنصه على نصوص أخرى.
لقد اقتبس ماركيز فكرة رواية كاملة من كاواباتا، (ذكرى غانياتي الحزينات) من (بيت الجميلات النائمات) ولم يلمه أحد، بل أنه هو نفسه صنف ذلك بأنه نوع من الاعتراف بالأستاذية للكاتب الياباني، وعليه فإن فكرة اقتباس عنوان، سواء كان ذلك للمعارضة، أو تأثرًا بأجواء العمل المقتبَس عنوانه أو لتشابه العوالم بين العملين، تبقى واردة دائمًا في الأدب.
من جهتها ترى الشاعرة والمترجمة أمل الشربيني أن الكاتب – باعتباره قارئا محترفا – شديد الحساسية للجملة الساحرة الرنانة بطبعه، وله ذاكرتة اللغوية شديدة الخصوصية تصنف هذا النوع من الجمل إن صادفته على أنها “تستوجب الحفظ الفوري لإعادة الاستخدام”، بغض النظر عن السياق، فقد يأتي لاحقا. وهو حين يقرر كتابة نص أدبي- شعرا كان أو سردا- يستحضر بالضرورة هذه الذاكرة ليشحذ لغته البلاغية. وحيث أن اقتباس العناوين يندرج تحت التناص بشكل أو بأخر، فإنه مقبول إن لم يكن منتزعا من جذوره، كما يحدث أحيانا أن يستخدم الكاتب سطرا أو جملة مألوفة من عمل أدبي عالمي كعنوان لرواية أو ديوان دون أن يكون هناك أي سياق مشترك بين النص الأصيل والآخر الذي استعار منه الجملة، وهو ما يحدث لأغراض الترويج ولفت انتباه القراء واستمالة ذوائقهم بإلقاء طعم من البلاستيك على أنه من لحم ودم طمعا في صيد وفير. وبحكم عملي كمترجمة، أرى ذلك النوع من الاقتباس يتكرر في الأدب الغربي، وأشهره مما أثر في كثيرا كان اقتباس الروائي الأميركي كورماك مكارثي لمفتتح قصيدة ييتس الشهيرة، “الإبحار إلى بيزنطة” كعنوان روايته العظيمة “لا وطن للعجائز”، والتي أصبحت فيما بعد فيلما سينمائيا وحصل على عدد من جوائز الأوسكار.
ومن قرأ القصيدة ثم الرواية سيفهم عبقرية الرمزية في اختيار الكاتب. ولا شك كان شكسبير من أكثر الشعراء على مر التاريخ الذين تم الاقتباس من سطورهم كعناوين لأعمال أدبية، من بينها رواية ألدوس هكسلي “عالم جديد شجاع”، ورواية فولكنر “الصوت والغضب”، وغيرها المئات من الأمثلة الشهيرة.
هنا أيضا سيعرف من قرأ دراما شكسبير أن سياق السطر المجتزأ من القصيدة يعبر كثيرا عن “تيمة” العمل الأدبي. وفي الغالب ستكون الاقتباسات – التي يطلق عليها في الأدب الغربي “العملات المصكوكة”- من الأعمال الشعرية العظيمة على الأخص، وذلك أن الشعر هو النص المكثف المترع بالمعاني بأقل الكلمات، مثله مثل الموسيقى. والشاعر نفسه لا يعبر عن تجربته الخاصة بلغته الخاصة إلا بعد أن يكون قد مر بمراحل متعددة من الاقتباس، وبالنهاية تتعد الروافد والمنبع واحد. وكما أقول دائما أن ذلك النوع من الاقتباس خطير جدا لدرجة أعتبرها أحيانا محاولة انتحارية، وفيها يكون الكاتب كمن قرر أن يسير حاملا كتابه على حبل رفيع فوق سطح المحيط، فإن لم يحفظ توازنه سيسقط سقطة مروعة لا نجاة منها.
فهو في هذه الحالة لن يواجه الجمهور بشخصه وبنصه فقط، وإنما يستحضر روح وصوت وثقل النص الذي اقتبس منه، وشخص كاتبه أيضا. فلو لم يكن على مستوى توقعات القارئ ومعايير حكمه القائم على المقارنة إلى حد كبير، سيكون قد حكم على عمله بالسقوط إلى قاع المحيط بلا رجعة، ويكون محظوظا إن نجا بنفسه من نفس المصير.