ضبطًا للمفهوم نفرق بين الفرقة الخارجة وبين الجماعة الخارجة، فالأولى تملك بداية نسقا عقديا مختلفا قريبا أو بعيدا، وتكون سلطة فكرية واجتماعية وربما سياسية منفصلة عن سلطة الدولة والعقيدة السائدة ومنفصلة عنها، أما الجماعة المتطرفة أو الخارجة فتظل داخل النسق العقدي والفقهي داخل الفرقة أو الدولة التي تمثلها، وتدعي تمثيلها الصحيح، والدفاع عن هذا الاعتقاد والتصور والدفاع عنه ضد التحديات التي يواجهها سواء ضد الدولة نفسها، سلطة الفرقة، أو ضد غيرها من الملل والنحل، وتتحرك بشكل مستقل في هذا الاتجاه، ضد الدولة إن كانت أيديولوجيتها هي التحدي، كما هو الحال في العصر الحديث بعد تحكيم القوانين الوضعية، أو ضد الملل والنحل الاخرى، كما كان الحال في الصراعات والحروب الدينية والطائفية عبر التاريخ.
ووفق هذا الضبط المعياري السابق لا يصح القول إن فرقا كالخوارج أو غلاة الشيعة أو الحركات الخارجية الأولى المختلفة هي أول وأصل الجماعات المتطرفة، لأن كثيرا منها عبر عن الفرقة بمعزل واضح عن السلطة والعقيدة السائدة، الأموية والعباسية، وما أتى بعدها، فرغم تشابهات التطرف وسماته، لكن تمايزها العقدي والفكري واختلاف أيديولوجيتها التأسيسية يجعلها فرقا مغالية وليست جماعة متطرفة تمثل جزءا أو فصيلا داخل فرقة واحدة.
وإن كانت تصح هنا ملاحظة إمكانية تطور بعض الجماعات المتطرفة، حين تتمايز أدبياتها وعقائدها عن المجتمع وتفاصله وتكفر عمومه، لتقترب من الفرقة المفارقة، كما كان الحال في جماعة المسلمين أو التكفير والهجرة في العصر الحديث.
ولكن من المهم أن نستدرك هنا أن أغلب الفرق الخارجة خرجت على سلطة العالم السني في البداية، خروجا مسلحا وعنيفا وعقديا أيضا اختلف حول الأصول والفروع أحيانا كثيرة، ولكن هذا لا يمنع ظهور واصطناع جماعات مسلحة شيعية بعد الانفلات الإيراني المعاصر من فقه الغيبة والانتظار، متمثلا في نظام الولي الفقيه المعاصر والثورة الإسلامية الإيرانية وعقيدة تصديرها- كما وصفها الخميني- والتي اعتمدت في البداية- حتى أوائل الثمانينيات- على جماعات سنية ثم صنعت وأنتجت في إطار توظيفها واحتكارها للحديث باسم الشيعة والإمامية، أحزاب الله والجماعات الموالية لها.
ويبقى السؤال هنا ما هي إذن أول جماعة متطرفة عملت باستقلال عن سلطان الدولة في العالم السني وفي الإطار السني؟
وهذا المقال هو كشف عن هذه الجماعة التي عرفت باسم ” الطائفة النبوية” والتي ظهرت عام 580 هجرية بشكل مستقل عن السلطة في العالم السني، والتي نراها- مع برنارد لويس- أول جماعة سنية مسلحة ومتطرفة ظهرت في التاريخ السني.
الطائفة النبوية.. تبلور العنف في مواجهة الطائفي العنيف
كان أول من تحدث عن هذه الجماعة هو الرحالة ابن جبير الذي زار مدينة دمشق في سنة 580 هجرية، والذي أشار إلى انتشار الشيعة بمختلف فرقهم ومذاهبهم في بلاد الشام، ثم زوّدنا بمعلومات عن طائفة عُرفت بالنبوية، كانوا يقومون بقتل الشيعة.
وبالحس الطائفي يعبر ابن جبير عن سعادته بظهور هذه الجماعة التي وصفت بالفتوة والقوة، وإجادة إليكم نص ما قاله ابن جبير في رحلته «وسلّط الله على هذه الرافضة طائفة تُعرف بالنبويّة، سُنّيون يَدينون بالفتوّة وبأمور الرجولة كلها، وكل من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يُحزّمونه السراويل فيُلحقونه بهم، ولا يرون أن يَستَعدي أحد منهم في نازلة تنزل به، لهم في ذلك مذاهب عجيبة. واذا أقسم أحدهم بالفتوّة برّ قَسَمَه. وهم يقتلون هؤلاء الروافض أينما وجدوهم. وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف.» ولم يفدنا ابن جبير بشيء آخر عن الطائفة النبوية.
وذكر ابن جبير ما قامت به هذه الطائفة في قرية “الباب” – هي اليوم مدينة- تتبع إدارياً لمحافظة حلب، وتبعد عن مدينة حلب نحو 38 كم إلى الشمال الشرقي منها. وكان قد زارها ابن جبير قبل وصوله إلى دمشق، في نفس السنة ـ أي 580 هجرية ـ. ، إلى وقوع مجزرة كبيرة، ارتُكبت بحق أتباع الفرقة الإسماعيلية في القرية المذكورة، وتفصيل ذلك أنه: «… كان يعمرها [يعني قرية الباب] منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لا يحصي عددَهم إلا الله، فطار شرارهم، وقطع هذه السبيل فسادُهم وإضرارهم، حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبيّة، وحرّكتهم الأنفة والحمية، فتجمّعوا من كلّ أوب عليهم، ووضعوا السيوف فيهم، فاستأصلوهم عن آخرهم، وعجّلوا بقطع دابرهم، وكُوّمت بهذه البطحاء جماجمهم” ثم يعقب قائلا:
” وكفى الله المسلمين عاديتهم وشرّهم، وألحق بهم مكرهم، والحمد لله ربّ العالمين! وسكّانها اليوم قوم سُنّيون”.
الطائفة النبوية وصلاح الدين والحشاشون
كان ظهور هذه الجماعة التي تجمعت من العراق ومن الشام، في آواخر عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي مثل الحشاشون وبقايا النزارية الاسماعيلية قلقا شديدا له، ربما أكثر من الصليبيين أنفسهم، مما قد يوحي بمسكوت عنه أن الرجل هو من دعم ظهور هذه الجماعة التي استمرت فترة ثم اختفت مقتفيا حالة الحشاشين، الذين ظهروا قبل صلاح الدين بما يقرب من قرن كذلك، وهو ما سنناقشه هنا.
بلغ عدد عناصر الطائفة النبوية، أول جماعة مسلحة سنية في التاريخ، عشرة آلاف وقيل أكثر، وقتلوا من الإسماعيلية أكثر من 13 ألف في بزاغة والباب في يوم واحد، كما يروي المؤرخ سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) حول مجزرة “الباب”، يظهر منه أن “الطائفة النبوية” هم الذين قاموا بهذه المجزرة، وذلك في بداية أيام حكم صلاح الأيوبي على بلاد الشام. فقد ذكر السبط في تاريخه “مرآة الزمان في تاريخ الأعيان” (ط دار الرسالة العالمية، ج21، ص231) في حوادث سنة 570 هجرية ما نصّه: «وفيها وصلت النبويّة من العراق في عشرة آلاف فارس وراجل، فنزلوا بُزاعة والباب، فقتلوا ثلاثة عشر ألفاً من الإسماعيلية، وسبوا نساءهم وذراريهم، وعادوا إلى العراق، ومعهم الغنائم، والرؤوس على رماحهم، وعلى القصب عشرون ألف أُذُن. وبعث صلاح الدين العساكر، فأغاروا على بلاد الإسماعيلية، وأحرقوا سرمين ومعرّة مصرين و[ضياع] جبل السُّمّاق، وقتلوا معظم أهله.».
من هنا يرى البعض- مثل الكاتب العراقي أحمد الكاتب- أن هذه المجزرة حدثت تحت رعاية صلاح الدين، ضمن غاراته وهجماته على الإسماعيلية في مدنهم وقراهم في بلاد الشام، خاصة مع تأصل العداء بين صلاح الدين وهذه الطائفة التي أسقط دولتهم الفاطمية، وكان بينه وبين شيخ الجبل كره ونفور شديد، وقد قام الحشاشون بمحاولات خمس لاغتيال صلاح الدين اصيب في إحداها وشج رأسه.
لكن نرجح أنه لا صلة تنظيمية بين صلاح الدين وبين هذه الطائفة المختلفة التي تكونت من عشرات الآلاف عفويا بغية الدفاع عن السنة ضد ما راته خيانات الإسماعيلية، رغم التماهي بين موقفها وموقف صلاح الدين من الاسماعيلية والشيعة عموما ، حيث لم يكن يمنع التاريخ ذكر ذلك، وقد ذكر قيام صلاح الدين نفسه بحملة على الجبل وعلى الإسماعيلية فيه، كما أن التاريخ لا يكذب ولا يتناسى، ولم يكن ثمة حرج لو وجد تنسيق حقيقي بين حكومة صلاح الدين والجماعة المستقلة المعروفة بالطائفة النبوية، ويلاحظ أنه في الوقت الذي كان صعود الطائفة النبوية وعملياتها عام 580 هجرية بعد عقد ونيف من النشاط كان صلاح الدين وتكرار محاولات اغتياله واقتحام مخدعه وغرفة نومه أكثر من خمس مرات، حسب بعض المؤرخين، قد وصل لاتفاقات سلام مهمة مع شيخ الجبل سنان الذي اتجه بعمليات عناصره إلى جهة الصليبيين بعدها..
كذلك لو كان الارتباط واضحا ومباشرا لكان محل فخر ومحل حفز في حالة جهادية عامة، وقد حدث التنسيق في فترات أخرى بشكل علني، ولم يكن ثمة حرج مثل تلك الحملات على شيعة جبل كسروان وغيره وشارك في إحداها ابن تيمية ت728 هجرية فيما بعد.
خاتمة:
لعل الملاحظة الأولى هنا أن الدافع الطائفي كان وراء ظهور أول جماعة مسلحة في التاريخ الإسلامي أو السني تحديدا، وخاصة في سياقات الأزمة والاستقطاب المتبادل، ففي هذا التاريخ لم تكن قضايا الحاكمية والشريعة وسقوط الخلافة- رغم أزمتها حينها- موجودة وتحرك العداء ضد الدولة كما كان الأمر في العصر الحديث والقرن العشرين..ولكن كان العدو الخارجي والشتات الطائفي والتخوين الداخلي علامة المرحلة..وهو ما وجدناه في بؤر الصراع الطائفي دائما من جيش محمد الشيعي إلى جيش الصحابة في باكستان في سبعينيات القرن الماضي، أو النصرة والنصرات المضادة في سوريا بعد عام 2011.
ثانيا كان من الطبيعي أن يكون عمر جماعة كهذه في سياق إمارات مستقلة في إطار خليفي قصيرا يؤدي دورا محددا وينتهي، حيث كانت هذه الجماعة بلا طموحات سياسية أو سلطانية شأن ما كان الحمدانيون أو الأيوبيون أو غيرهم فيما بعد، ولكن كانت حالة عن الصحوة السنية الشعبية والعاطفية في وجه الصحوة الإسماعيلية في القرن الرابع الهجري وبعده والذي وصفه ماسينيون بالقرن الإسماعيلي.. وللحديث بقية.