«من لا يعرف الغابة التشيلية، فهو لم يطأ هذا الكوكب الأرضي، من تلك الأراضي، من ذاك الطين، من ذاك السكون، خرجت أنا لأسير، لأغني عبر الكون»، هكذا قدم الشاعر التشيلي بابلو نيرودا نفسه بمقدمة مذكراته التي صدرت بعد وفاته بستة أشهر وهى تحمل عنوان «أعترف بأنني قد عشت» التي نقلها إلى العربية المترجم الفلسطيني الدكتور محمود صبح.
طفولة مسكونة بالرسائل الغرامية
ولد بابلو نيرودا بالثاني عشر من شهر يوليو من عام 1904، توفت والدته بعد ميلاده بشهر واحد فقط بمرض السل، وقيل عنها أنها كانت تكتب الأشعار غير أن نيرودا لم يشاهد تلك الأشعار أبدا، ولم يرى منها سوى صورة مرسومة لسيدة ترتدي ثوبا أسود نحيلة متأملة.
جد نيرودا كان لديه القليل من الأراضي والكثير من الأبناء ما دفع والده لهجر أرض الجد وهو شاب صغير ليعمل في سدود ميناء «تالكا هوانو» ثم أصبح فيما بعد سائق قطار بالسكك الحديدية بمنطقة «تيموكو»، وبعد وفاة والدة بابلو تزوج والده من خالتة التي تولت رعايته صغيرا وهى سيدة طيبة محبة للمرح.
التحق بابلو نيرودا عام 1910 بمدرسة «تيموكو» وجاءت أولى تجاربه في الكتابة على شكل رسائل غرامية كتبها لأبنة حداد البلدة التي كان يهيم بحبها أحد رفاقه بالمدرسة، وحين أكتشفت الفتاة أن نيرودا هو من كان يكتب لها تلك الرسائل تركت رفيقه وأحبت نيرودا الذي واصل كتابة رسائله الغرامية لها والتي وصفها بمذكراته بأنها ربما تكون باكورة أعماله الأدبية.
خلال عام 1920 أصبح نيرودا مراسلا لمجلة «كلاريداد» الناطقة باسم اتحاد الطلاب التي كان يبيع من عشرين إلى ثلاثين نسخة منها لزملائه بالمدرسة، كان مقر اتحاد الطلاب بمدينة سنتياغو يعج بزعماء التمرد الطلابي المشهورين بارتباطهم بحركة الفوضويين، ما دعا شباب منظمة «الشبيبة الذهبية» التابعة لطبقة الأقلية الحاكمة أن تهجم على أفراد مقر الإتحاد الطلابي فحطموه تحطيما وهو ما مثل «ندبة دموية» طبعت أبناء جيل بابلو نيرودا على حد وصفه.
شعراء الجوع
التحق نيرودا بجامعة «سانتياغو» بتشيلي عام 1921 برأس ممتلىء بالكتب والأحلام والقصائد التي كانت تئز برأسه كالنحل، عشق نيرودا الأدب الروسي وتأثر كثيرا برؤية كل من «تولستوي وديستوفيسكي وتشيخوف»، بتلك المرحلة كتب الكثير من الشعر، وعانى الكثير من الجوع.
روي نيرودا عن أول مرة ذهب فيها مع صديقه بالجامعة «روميو مورغا» كي ينشدا الشعر بمدينة «سان برناردو» القريبة من العاصمة، وكيف كان رد فعل جمهور الحضور الذي أخذ يصرخ ويهتف: «يا شعراء الجوع، لا تفسدوا لنا الاحتفال».
شارع ماروري رقم 513
حين وصل نيرودا إلى «سانتياغو» استأجر غرفة بشارع ماروري رقم 513، بتلك الغرفة انتهى من كتابة ديوانه الأول الذي حمل الفصل الرئيسي منه عنوان «شفق ماروري» ..
حمل الديوان عنوان «شفقيات» ونشر عام 1923، وظلت قصيدة «فيريويل» التي ضمها هذا الديوان واحدة من أحب القصائد إلى قلب نيرودا.
بذات العام 1923 كتب نيرودا ديوانه الثاني الذي حمل عنوان «حامل المقلاع المتحمس» الذي تبعه بديوان غزلي حمل عنوان «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» الذي وصفه نيرودا بأنه كتاب أليم يتضمن عواطف مراهقته العاصفة الممتزجة بالطبيعة المستبيحة الجارفة في جنوب وطنه.
بتلك الأثناء كانت الحياة تتبدل في تشيلي، كان نداء الحركة الشعبية التشيلية يعلو مدويا تبحث بين الطلاب والكتاب عن من يدعمها ويؤيدها، وعلى الجانب الآخر كان زعيم البرجوازية الصغيرة «أرتورو اليساندري بالما» قد توصل لأن يصبح رئيسا للجمهورية، ثم سرعان ما تحول وهو على كرسي الحكم إلى حاكم تقليدي شبيه بمن سبقه من حكام أمريكا الجنوبية.
بذات التوقيت كان الزعيم العمالي «لويس اميليو ريكابارين» ينظم صفوف الطبقة العاملة ويشكل النقابات المركزية ويؤسس حوالي عشر صحف عمالية بطول البلاد وعرضها، كان نيرودا حينها يكتب في مجلة «وضوح» الأسبوعية، وكان الطلاب يدعمون الحركة الشعبية ويدافعون عنها ويصطدمون خلال مظاهراتهم بشوارع سنتياغو برجال الأمن، ما كان يعرضهم للإعتقال والاضطهاد شأنهم في ذلك شأن العمال الذين كانوا يصلون العاصمة بعد طردهم من أعمالهم في مناجم ملح البارود والنحاس.
بذلك امتزجت لدى نيرودا السياسة بالشعر بالحياة والحب لم يكن له أن يغلق الباب عن الشارع ويقبع داخل قصائده، كما لم يكن ممكنا أن يغلق الباب عن الحياة والفرح أو الحزن بقلب الشاعر الشاب.
جولات نيرودا
بعد أن حاز نيرودا على شيىء من الشهرة بسنتياغو أخذ المحيطون به يسألونه: «ماذا تفعل هنا؟ .. عليك أن تذهب إلى باريس» ما جعله يفكر في العمل بوزارة الخارجية عله يحظى بزيارة باريس وما إن حاز على فرصة عمله تلك حتى تمكن من زيارة باريس التي أضحت بالنسبة لنيرودا ورفاقة القادمين من أمريكا الجنوبية تنحصر في مساحة محدودة حتى أن شاعرنا في أيامه الأولى لم يتعرف على أي فرنسي ولا على أي أوروبي، كان الأمريكيون الناطقون بالأسبانية يقضون أوقاتهم معا دون أن يستطيعوا أن يعيشوا مفترقين، غير أن الحال قد تبدل بمرور الوقت حيث صار نيرودا أحد المع مشاهير باريس.
حين أقام بابلو نيرودا فترة من حياته بمنطقة الشرق الأقصي تعرف على الزعيم الهندي غاندي كما تعرف على نهرو إضافة لتعايشه مع الثقافة الهندية حتى قيل عنه أن إقامته ببلاد الشرق قد أثرت على جوانب معينة من شعره تجلت بصفة خاصة في ديوانه الذي حمل عنوان «مقام في الأرض».
إسبانيا في القلب
بعد سفر طويل عبر البحر عاد نيرودا إلى تشيلي عام 1932 لينشر ديوانيه «حامل المقلاع المتحمس» و«مقام في الأرض» ومن ثم أنتقل للعمل في مدينة «بونيس أيرس» كقنصل لتشيلي حين كان «فيديريكو غارثيا لوركا» يدشن مسرحيته «مأساة أعراس الدم» ولم يكن نيرودا قد تعرف بعد على لوركا، غير أنهما حين تعارفا صارا صديقين، ومن ثم تم تكريمهما معا من قبل «نادي القلم» حيث بادرا بإلقاء كلمة كانت أشبه بقصيدة شعر كتباها معا.
عام 1934 انتقل نيرودا إلى قنصلية تشيلي في مدريد ليتعرف على عدد كبير من الشعراء الأسبان من أصدقاء غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتي ليصبح واحدا منهم يعاني ما يعانوه من هجوم من قبل بعض الكتاب الصحفيين، بتلك الأجواء أصدر خمسة أعداد من مجلة «حصان أخضر» التي كان يرغب ألبرتي في تسميتها «حصان أحمر».
عاصر نيرودا الحرب الأهلية الأسبانية التي اندلعت عام 1936 وراح ضحيتها مليوناً من الضحايا الإسبان كان من بينهم الشاعر العظيم لوركا الذي اغتيل رميا بالرصاص، تلك الحرب التي غيرت شعر نيرودا وبدأت بإختفاء شاعر وصفه نيرودا بأنه «فيديريكو غارثيا لوركا العبقري المسرف في وحيه وإلهامه، بؤرة الفرح التي تشيع كالكوكب بسعادة الحياة، كان نابغة وفاكها، كونيا وريفيا ..
كان خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها، صفوة الازدهار الشعبي، نتاجا عربيا-أندلسياً ينير ويفوح مثل أيكة ياسمين على مسرح إسبانيا، كان كل هذا».
بخضم الحرب الأهلية الأسبانية نصب «مانويل التولاغيره» مطبعة في حمأة المعركة بالجبهة الشرقية بدير قديم حيث قام بطبع ديوان نيرودا «إسبانيا في القلب» طبع الديوان كحالة تحدي للموت الذي كان يحيط بهؤلاء الرجال من كل جانب، وكنتيجة لمشاركة نيرودا في الدفاع عن الجمهورية الإسبانية قررت الحكومة التشيلية خلعه من عمله كقنصل لتشيلي بإسبانيا.
قصائد لدعم إسبانيا
وصل نيرودا باريس ليصدر مع صديقته «نانكي كونارد» نشرة شعرية لدعم إسبانيا أطلق عليها عنوان: «شعراء العالم يدافعون عن الشعب الإسباني» ضمت النشرة العديد من القصائد الحماسية لشعراء فرنسا إلى جانب الشعراء الاسبان، حتى أن نيرودا قد أشار إلى أنه «أبدا ما وجد في التاريخ الفكري والثقافي مادة خصبة للشعر والشعراء كما توفرت هذه المادة في الحرب الإسبانية».
عام 1937 بدأ الإعداد لمؤتمر يعقد بمدريد ضد الفاشية يحضره الكتاب من مختلف أنحاء العالم، بذلك التوقيت بدأت معرفة نيرودا بالشاعر «أرغوان» تتعمق، كان أرغوان يدير جمعية للدفاع عن الثقافة ما أتاح الفرصة لنيرودا أن يعمل بها حين خُلعَ من عمله كقنصل لبلاده.
كان نيرودا يعيش بذلك الحين مع زوجته «ديليا ديل كاريل» بفندق صغير مشبوه، حيث كان الدور الأول منه مخصصا للأزواج العابرين العارضين، وانتهت الحرب الأهلية الإسبانية لتبدأ الحرب العالمية الثانية إلا أنها وعلى ضخامتها لم تأثر «الشعر الجماعي» على حد وصف نيرودا كما أسرته الحرب الأهلية الإسبانية.
عاد نيرودا مرة أخرى إلى تشيلي بالباخرة ليصدم بعدد من الكتاب الذين باتوا يدافعون عن النازية، وحين عمل كمدير لمجلة «أورورا دي تشيلي» ومعناها «فجر تشيلي» أصبحت تلك المجلة بمثابة المدفعية الأدبية المدافعة عن مجمل البلدان التي غدت تكتسحها النازية، ما عرض نيرودا للتهديد بالقتل من قبل النازيين.
غير أن الحكومة التشيلية التي أصبحت تنتمي للجبهة الشعبية قد ارسلت نيرودا إلى فرنسا في مهمة نبيلة لمساعدة السجناء الإسبان بسجون فرنسا ومعتقلاتها على ترحيلهم إلى تشيلي، لينتقل بهذا شعر نيرودا إلى مرحلة جديدة على يد هؤلاء السجناء الاسبان الذين حفظوا شعره تكريما لدوره في مساعدتهم.
وللحديث بقية ..