رؤى

استراتيجية يسارية شعبوية لما بعد كوفيد 19

عرض وترجمة: أحمد بركات
مؤخرا، جاء الإعلان عن نهاية الشعبوية من قبل العديد من منتقديها الذين يزعمون أنه نظرا لفشل الأحزاب اليسارية الشعبوية في الوصول إلى أهدافها، فإن الوقت قد حان للعودة إلى المفهوم الطبقي التقليدي للسياسة. أريد أن أفند هذه الرؤية، وأن أبرهن أن صياغة استراتيجية يسارية شعبوية في الوضع الراهن باتت أكثر أهمية من أي وقت مضى. لقد أدى تفشي وباء فيروس كورونا في الأشهر الأخيرة إلى تفاقم التمييز وعدم المساواة، وغيرهما من المظالم التي كانت قائمة بالفعل، وسلط الضوء على الأزمة البنيوية في النيوليبرالية. ولن تكون هناك عودة إلى حقبة ’العمل مستمر كالعادة‘ بعد الوباء.

مسيرات عيد العمال في ألمانيا على الرغم من كورونا
مسيرات عيد العمال في ألمانيا على الرغم من كورونا

استراتيجيات متنافسة

صحيح أن هذا هو ما حدث في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم في عام 2008. لكن، خلال هذه الأعوام فرضت النيوليبرالية هيمنتها بلا منازع. أما اليوم فقد بات السياق السياسي مختلفا بالكلية. لقد أبرزت أزمة عام 2008 حدود الرأسمالية، ولم تعد العولمة النيوليبرالية يُنظر إليها باعتبارها قدرا مقدورا.

وبعد سنوات من السياسات الـ ’ما بعدية‘، عندما لم يكن ثم فارق جوهري بين السياسات اليمينية ونظيرتها اليسارية، نشهد ’عودة السياسي‘. ففي الوقت الحاضر، تتواجد بقوة الحركات اليسارية الراديكالية التي تنافس الليبرالية الاجتماعية لأحزاب يسار الوسط في العديد من الدول، وتزدهر أشكال متنوعة من الأنشطة في العديد من المجالات. وقد وجهت حركات مثل “أيام الجمعة من أجل المستقبل”، و”حركة الشباب للدفاع عن المناخ”، و”حياة السود مهمة” المناهضة للعنصرية أنظار العالم إلى هذه الصراعات.

احتجاجات حياة السود مهمة
احتجاجات حياة السود مهمة

أعتقد أن ما سنراه في أعقاب كوفيد – 19 هو مواجهة حول الاستراتيجيات المختلفة لكيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي أبرزها هذا الوباء على السطح. فالنيوليبراليون سيحاولون بلا شك استخدام سلطة الدولة لإعادة التأكيد على الهيمنة المسبقة لرأس المال. وفي بعض الدول يمكن أن تلقى ’نيوليبرالية الدولة‘ بعض الدعم عبر استخدام إجراءات قمعية، مما يؤكد أطروحة وولفجانج ستريك بأن الديمقراطية والرأسمالية صارا ضدين لا يجتمعان. وربما تأخذ السلطوية النيوليبرالية شكلا رقميا، كما بينت نعومي كلين في مقالتها المهمة Screen New Deal (عرض الصفقة الجديدة). ويؤكد الجدل الحالي بشأن اتخاذ رد فعل تكنولوجي ملائم للأزمة الصحية أن هناك توجها متصاعدا لاعتبار أن حل أزمة الوباء يكمن في توفير تطبيقات للتحكم في صحة السكان. ومن ثم، فإن أزمة فيروس كورونا تمثل فرصة مواتية للعمالقة الرقميين لتصدير أنفسهم كوكلاء لسياسة صحية محوسبة بالكامل. ويمكن تقنين طموحاتهم في توسيع نطاق تحكمهم إلى مجالات أخرى عن طريق الترويج لـ ’الحلول التكنولوجية‘ العصرية التي بحثها بعمق إيفجيني موروزوف في كتابه To Save everything (من أجل إنقاذ كل شيء). ففي هذا الكتاب يحذرنا موروزوف من مخاطر ’أيديولوجيا الحل‘ التي يروج لها ’وادي السيليكون‘ (عاصمة التكنولوجيا في العالم)، والتي بموجبها يتوافر حل تكنولوجي لجميع المشكلات، بما فيها المشكلات السياسية. ويشير موروزوف إلى أن أنصار أيديولوجيا الحل يؤيدون اتخاذ تدابير ما بعد أيديولوجية، ونشر التكنولوجيا لتجنب السياسة.

إيفجيني موروزوف - أن تحمي كل شيء
إيفجيني موروزوف – أن تحمي كل شيء

يتناغم الاعتقاد بقدرة المنصات الرقمية على تقديم أساس يقوم عليه النظام السياسي مع ادعاء سياسيي الطريق الثالث بأن العداوات السياسية قد تم القضاء عليها، وأن اليسار واليمين ليسا سوى ’فئات من الزومبي‘. إن أيديولوجيا الحل في واقع الأمر هي مجرد نسخة تكنولوجية لمفهوم ما بعد السياسة الذي شاع في تسعينيات القرن الماضي. وتسهل هذه الأيديولوجيا عملية قبول الأشكال ما بعد الديمقراطية للاستبداد التكنولوجي الذي لا يزال محصنا ضد الهيمنة الديمقراطية. ربما لم تتحول النسخة النيوليبرالية من الاستبداد التكنولوجي بعد إلى حالة المراقبة التكنولوجية الشاملة التي يخشاها البعض ، لكنها قد تمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.

الحماية الذاتية

لكن إجابة مختلفة تأتي من الأحزاب الشعبوية اليمينية. ففي خضم ادعائها أنها تمثل صوت الشعوب، تتهم هذه الأحزاب النخب النيوليبرالية بأنها مسئولة تماما عن هذه الأزمة بسبب سياسات العولمة التي تبنتها وتخليها الفاضح عن السيادة والاستقلال الوطني. ولاستعادة هذه السيادة وذاك الاستقلال، يدافع هذا التيار عن سياسات تحصينية من شأنها أن تحمي المواطنين، وذلك عن طريق حصر الديمقراطية في فئات معينة وفرض حواجز صارمة على الهجرة. وقد لقي هذا الخطاب المناهض للمؤسسات والرافض لحكم الشركات العابرة للوطنية حفاوة بالغة في العديد من الأوساط وصدى عميقا لدى القطاعات الشعبية. ويمكن لهذه الأحزاب أن تشكل قوة مقاومة ضد حكم استبداد التكنولوجيا بعد السياسي، لكن ذلك سيكون على حساب فرض نموذج قومي استبدادي يقوم على كراهية الأجانب (الإكسينوفوبيا) ويتسم بطبيعة اجتماعية محافظة.

ولمواجهة هذين الشكلين من الاستبداد، وللتأثير في الاتجاه الذي ستتخذه مجتمعاتنا بعد فيروس كورونا، فإن اليسار بحاجة ماسة إلى أكثر من مجرد سياسات جيدة. كما يجب عليه أن يعي كيف أنتج كوفيد – 19 ردود أفعال عاطفية يمكن استغلالها لتعزيز التطورات المناهضة للديمقرطية.

في هذا السياق يطرح كارل بولاني أفكارا مفيدة وقيمة. ففي كتابه The Great Transformation (التحول العظيم)، الذي يتناول فيه بالتحليل العواقب المدمرة للتوجهات التي تبنتها الليبرالية في القرن التاسع عشر، والمتمثلة في معاملة الأرض والعمل والمال كسلعة، يسلط بولاني الضوء على ردود أفعال المجتمعات التي تعرضت للخطر في ثلاثينيات القرن الماضي بسبب عزلتها الناجمة عن التقدم الذي حققته سياسات التسليع. ويشير بولاني إلى أن ردود أفعال هذه المجتمعات قد اتخذت شكل حركة دفاعية مضادة لحماية نفسها من التفكك، وذلك من خلال إعادة مواءمة الاقتصاد مع الاحتياجات الاجتماعية عن طريق إعادة دمج السوق في البنى الاجتماعية. ويشير بولاني أيضا إلى أن مقاومة التفكك الناجم عن التقدم الذي حققه الاتجاه نحو التسليع لم تكن ملتزمة باتخاذ شكل ديمقراطي. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، لم تؤد هذه المقاومة فقط إلى “صفقة روزفلت الجديدة”، وإنما أيضا إلى الفاشية أو الستالينية.

كارل بولاني التحول العظيم
كارل بولاني التحول العظيم

وقد حظيت أفكار بولاني عن الحركات المضادة برواج كبير في السنوات الأخيرة لما تنطوي عليه من تفسيرات لزخم تصاعد الحركات الاجتماعية المقاومة للنيوليبرالية الذي يشهده العالم في الوقت الراهن. ما أود التأكيد عليه هو الأهمية التي نسبها بولاني لعنصر الحماية الذاتية الذي يشكل – من وجهة نظره – القوة الدافعة للحركات المضادة. كما يبين بولاني أن المجتمعات حال مواجهتها اضطرابات خطيرة تهدد هويتها أو نمط وجودها، فإن الحاجة إلى الحماية تصبح هي المطلب الأساس، وأن الناس على الأرجح يتبعون هؤلاء الذين يعتقدون أنهم سيوفرون لهم هذا المطلب على الوجه الأمثل.

إذا كنت قد أشرت إلى بولاني، فإن هذا يرجع بالأساس إلى أنني أعتقد أننا نجد أنفسنا اليوم في وضع مماثل. في الواقع، تتمثل إحدى النتائج التي خلفها وباء فيروس كورونا في مضاعفة الحاجة إلى الحماية، وهو ما يفسر السبب الأساس في استعداد الناس في الوقت الراهن لتقبل أشكال الهيمنة الرقمية التي كانوا يعارضونها بقوة حتى وقت ظهور الوباء. يمكن أن يفيد هذا كثيرا بلا شك الشعبويين اليمينيين إذا تمكنوا من إقناع الناس بأن الحماية تتطلب في المقام الأول تعزيز رؤية قومية للسيادة والاستقلال.

(يُتبع)

شانتال موف – منظرة سياسية بلجيكية، وأستاذ في جامعة ويستمنستر. من أهم مؤلفاتها كتاب Hegemony and Socialist Strategy: Towards a radicalization of Democracy

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock