ثقافة

هيكل في ظل عبد الناصر (2 – 3)

هذا الأسبوع يكون قد مضى نصف قرن بالتمام والكمال على رحيل الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، وقرابة القرن (97سنة) على ميلاد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في 23 سبتمبر 1923 واحتفاءً بالمناسبتين نكتب عن جوهر العلاقة بين الرجلين، تلك التي سماها هيكل في أحد أحاديثه «صداقة الحظ والشرف»، ورآها أخرون من أعداء الرجلين «شراكة في حكم مصر».

كان هيكل مؤهلاً لكي يقوم بأكثر من دور، فهو مثقف وشخصية عصرية، وإذا أنت قارنت بينه وبين الذين يحيطون بعبد الناصر من شخصيات معتمة، أو مجرد موظفين ومنفذين لسياساته، لن تكون المقارنة إلا لمصلحة شخص مثل هيكل.

ويجوز القول بأن هيكل كان صديق الرئيس ونديمه، ولكن بشكل عصري، وربما بطبيعة مختلفة تفرضها طبيعة الأشخاص، وبدور مختلف تفرضه وقائع العصر.

ولا شك أن جمال عبد الناصر وجد في هيكل الأسلوب الرائع، والبراعة في الصياغة، وقد كان فعلاً أبرع الكتاب وأجذلهم، وأكثرهم جاذبية، وكان صاحب لغة صحفية أدبية سائغة، وسهلة، وممتعة، يقرأها الجميع بشغف الحريص على أن يستزيد.

كفاءة هيكل، ووطنيته، وعروبته، كانت كلها جواز مروره إلى عقل وقلب عبد الناصر، ولا شك أن الحصول على ثقة رجل مثل جمال عبد الناصر، وفي الموقع الذي كان يشغله طوال حكمه، كان يحتاج إلى كفاءة شخصية، وذكاء سياسي من واحد مثل هيكل. وقد امتلكهما بامتياز.

وهيكل هو الذي استطاع أن يحول «الأهرام» من جريدة هي بعض ميراث الاستعمار، كان العنكبوت يعشش فيها، إلى مؤسسة عصرية، وإلى جريدة تتحدث باسم الثورة، وجند فيها طاقم من أبرع الصحفيين، واستقدم إليها جوقة من كبار الكتاب، وجعلها الجريدة الأولى في مصر، والوطن العربي، وارتفع بها لكي تكون واحدة من خمس جرائد في العالم، تقرأ لكي يعرف العالم ما يحدث في مصر.

متحف هيكل داخل مبنى جريدة الأهرام
متحف هيكل داخل مبنى جريدة الأهرام

وهو يفعل ذلك كان يبني اسمه ومجده الصحفي، وفي الوقت نفسه يخدم عبد الناصر ونظامه. ولا يستطيع منصف أن يقول ـ مطمئناً ـ أن هيكل مجرد «صنيعة عبد الناصر». وفي الوقت نفسه لا يستطيع أحد أن يغفل دور «العلاقة» مع عبد الناصر في صناعة هيكل الظاهرة الصحفية والسياسية والفكرية.

لا هو صنيعة أحد، فقد كان نجمه الصحفي قد بدأ يلمع في الأفق وقت قامت ثورة يوليو، وكان قبلها بشهر قد عُين رئيساً لتحرير مجلة «آخر ساعة» التي رأس تحريرها من قبله أستاذه وصاحبها الأول محمد التابعي.

هو لا ينكر دور علاقته مع جمال عبد الناصر في صناعة ظاهرته.

هو بالأساس مِن صنع نفسه، مِن صنع قدراته، ومواهبه، وجهوده التي لم تنقطع عن تنمية هذه القدرات، وصقل تلك المواهب.

وهو ـ كذلك ـ من صنع ظروف أملت وجوده، فكان ملائماً لها بما له، وبما عليه، وإن لم يكن موجوداً هناك لحظة أهلته تلك الظروف لموقعه من الرئيس، لخلقت تلك الظروف رجلها المناسب.

**

ولا شك أن العلاقة بين هيكل وعبد الناصر ليست فريدة في بابها، فالعقاد كان إلى جوار سعد زغلول هو «الكاتب الجبار للزعيم الجبار»، يدافع عنه، ويشن الغارات على أعدائه، ويطلق نيران قلمه الجبار عليهم، فتتناثر جثثهم على صفحات الصحف.

عباس العقاد وسعد زغلول
عباس العقاد وسعد زغلول

وقبله كان عبد الله النديم هو لسان الثورة العرابية البليغ، وترجمان أحمد عرابي ورسوله إلى قلوب الغلابة، وكان صنو زعيمه بسيطاً وسيء الحظ.

وكان أستاذ هيكل (الكاتب الشهير محمد التابعي) هو واسطة مصطفى النحاس إلى الناس، حارب إلى جواره بالمانشيت، والخبر، والمقال القصير الرشيق، والتعليق الساخر أيضاً.

ذلك أن القيادة أو الزعامة تحتاج ـ بالضرورة ـ إلى لسان حالٍ يُعبر عنها، وينقل أفكارها، وسياستها، بالشكل المناسب إلى الجماهير.

**

صحيح أن هيكل توحد بالسلطة زمن جمال عبد الناصر، حتى أصبح اللسان البليغ المعبر عن أفكار الزعيم، وأصبحت مقالاته مقروءة ومؤثرة، وأدى مهمته على خير وجه، وعبر عن أفكار الرئيس بصورة كان يقول عنها عبد الناصر: «هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله»، ولكن يبقى أن هناك فارقاً بين ما كان يكتبه هيكل معبراً عن رأيه في مقالاته، وبين ما كان يكتبه من خطابات ورسائل ووثائق معبراً فيها عن أفكار عبد الناصر، بعض مقالات هيكل لم يكن يوافق عليها عبد الناصر، ولكن كل كلمة كتبها هيكل على لسان عبد الناصر كانت من أفكار عبد الناصر، وبصياغة هيكل.

عبد الناصر كان رئيس دولة مثقفاً، وهيكل يعترف بأن عبد الناصر أثر فيه على المستوى الفكري، بل كان يحيل إليه بعض الكتب التي يرى أهمية في أن يقرِأها، وكان بفعل ذلك مع عدد من معاونيه والعاملين معه، وكل هذا الجيل كانت الثقافة عنده مسألة وطنية.

والحقيقة أن عبد الناصر وجد في هيكل الكاتب القادر على أن يصوغ أفكاره ويفسرها. لم تكن الأفكار، أفكار هيكل راح عبد الناصر يحققها ـ كما قال أنيس منصور وغيره ـ ولكنها كانت أفكار عبد الناصر راح هيكل يكتبها، ويقدمها في الصياغة الملائمة.

هي أفكار عبد الناصر بصياغة هيكل. لا ننكر دور «الصائغ»، ولكننا نكتفي له بهذه الحدود، لا يتعداها ادعاءً، ولا يتنازل عنها تواضعاً. ويؤكد محمد فائق وزير الإعلام الأسبق أن هيكل بالنسبة لعبد الناصر كان معبراً جيداً عن أفكاره، ولذلك كان يطلعه على تفاصيل الصورة لكي يعبر عنها بشكل أفضل، ومن هنا سبب إطلاع هيكل على الأوراق، وحتى على ما يفكر فيه عبد الناصر.

ويعترف فائق بكفاءة هيكل الاستثنائية يقول: كنا نجلس قبل كتابة خطاب لعبد الناصر وأقول: إن المطلوب أن نركز على أننا من أفريقيا، ولم نأت من الخارج، وأننا أبناء قارة واحدة، وكان الحديث يجري بيني وبين عبد الناصر في حضور هيكل الذي يسجل نقاطاً فقط، ولم يكن يشارك في الحديث، ويخرج ساعتين ويرجع، ليقرأ علينا خطاباً جميلاً في صياغته، وأجمل إخراجاً للأفكار التي طلبنا التركيز عليها، فيقول: النيل يجري من هنا، ويعطي المسألة عمقاً تاريخياً، ونراجع الخطاب، نضيف، أو نحذف، ولكنا نجد أنه قد صاغه في أحسن صورة ممكنة.

محمد فائق وزير الإعلام الأسبق
محمد فائق وزير الإعلام الأسبق

ويشهد محمد فائق على أن كل ما كتبه هيكل كان مقتنعاً به، ويمكن القول بأنه لم يكتب عن أشياء لم يقتنع بها، ولذلك كان صادقاً فيما كتب، لأنه لا يمكن أن يصل أي صحفي إلى المكانة التي وصل إليها هيكل، بدون أن يكون صادقاً فيما يكتب، وكتب كثيراً مختلفاً مع بعض ما يحدث، وكانت هناك مسافة بينه وبين التنظيم السياسي، وكتب حول ذلك كثيراً.

ويشير الأستاذ فائق إلى أن صحفيين آخرين أعطوا الفرصة نفسها التي أعطيت لهيكل، وكان من بين هؤلاء مصطفى أمين، ولكن انتهى به الحال إلى ما هو معروف، وأقول باطمئنان وعن ثقة أن كفاءة هيكل هي التي فرضت نفسها، كفاءته أولاً ثم حسن تعبيره عن عبد الناصر، ولا شك أنه كان أكثر الذين أعطوا هذه الفرصة تميزاً، وكان أكثرهم إخلاصاً لعبد الناصر.

هيكل نفسه يعترف في كتاب فؤاد مطر «بصراحة عن عبد الناصر» بأن جمال عبد الناصر كان على علاقة بعدد كبير من الصحفيين، ويقول: «في النهاية وبالاختيار الحر وعن طريق الممارسة ازددت قرباً منه، لم يختصني بوضع استثنائي إنما ألقى عليَّ مسئولية استثنائية، ولقد فعل ذلك احساساً منه بأنني أؤدي دوراً في نظامه».

بصراحة عن عبد الناصر - فؤاد مطر
بصراحة عن عبد الناصر – فؤاد مطر

**

أما مقالات هيكل ورأيه الذي يوقع عليه فقد كان حراً فيه ربما أكثر من غيره من الصحفيين والكتاب، والذين يقولون إن مقالات محمد حسنين هيكل لم تكن إلا تعبيراً عن رأي عبد الناصر شخصياً، أو هي بمثابة مجس يتعرف من خلاله على حقيقة نبض المجتمع، وردود الفعل فيه، يسيئون إلى حقيقة العلاقة بين هيكل وعبد الناصر، فلا هيكل يقبل لنفسه أن يكون في هذا الموضع، ولا نظن أنه كان يمكن أن يقبل على نفسه أن تنحدر به العلاقة إلى هذا الموقع.

كما أن مثل هذا القول لا يفهم حقيقة الدور الذي كان هيكل يقوم به باقتدار إلى جوار الرئيس، وهو في كل الأحوال لا يتواضع إلى حد الأداة التي تكتب ما يملى عليها، أو التي تكتب ما يصلح لأن يكون مجساً لمعرفة نبض الناس.

والحقيقة التي عليها مائة إثبات أن عبد الناصر لم يكن يقرأ ما يكتبه هيكل، وأكثر من ذلك أن بعض ما كان هيكل يكتبه لم يكن يعجب عبد الناصر، وهذا لا ينتقص من قدر هيكل ولا مكانته، والوقائع أكثر من أن تحصى. بعضها يؤكد أن الرئيس لم يكن يقرأ ما كان يكتبه هيكل قبل نشره، وبعضها يؤكد أن الرئيس لم يكن يعجبه بعض ما يكتبه هيكل، وعبد الناصر نفسه نفى، وهيكل بدوره نفى، وشهادة الكثيرين أكدت ما نفاه كلاهما.

**

كان هيكل يكتب من موقع أنه في «صورة ما يحدث»، ولم تكن كتاباته من وحي جمال عبد الناصر، ولا هي كانت بالونات اختبار يطلقها الرئيس من أجل التعرف على حقيقة الرأي العام من حوله، وهناك أكثر من قصة كلها تؤكد أن عبد الناصر كان يقرأ مع القراء مقال هيكل بعد نشره، ومن الجريدة مباشرة.

وطبيعي أن ينفى هيكل، ما قيل عن أنه كان يجلس مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل ظهور مقاله الأسبوعي في الأهرام (بصراحة)، أو أنه كان يجري اتصال بينهما لاطلاع الرئيس على ما يكتبه.

وطبيعي كذلك أن يؤكد أن عبد الناصر أنه لم يكن يعلم شيئاً عما يكتبه، ويقول هيكل في حوار مع مجلة (نصف الدنيا) القاهرية: «كان بيننا اتفاق غير مكتوب على ذلك، ولعل هذا سبب المشاكل فيما بعد بيني وبين الرئيس السادات.».

يروي هيكل أن السادات طلب منه أن يكتب عن ثورة السودان، فقال له هيكل: «أخشى أن تفهم أن عبد الناصر كان يحدد لي ما أكتب فيه، وهذا غير صحيح، وأنا أعترض على أن تحدد لي ما أكتب فيه».

**

شفيق الحوت يقدم شهادة تؤكد المعنى نفسه على لسان عبد الناصر فيقول: «أول مرة هاجمت فيها محمد حسنين هيكل كانت أمام عبد الناصر، لم يكن هيكل حاضراً، ولم أكن أعرفه شخصياً حتى ذلك الوقت، وقلت لعبد الناصر: سيادة الرئيس نريد أن نعرف إجابة سؤال يحيرنا: هل هيكل يمثلك؟، نحن برأينا أنه «أمريكاني».

شفيق الحوت
شفيق الحوت

يقول الحوت وهو يضحك: كنت شاباً ومتهوراً، فطرحت هذا السؤال، بهذه الطريقة، فسألني عبد الناصر: تقول «نحن برأينا» فمن أنتم؟، ثم أضاف: تقصد شلة «مطعم فيصل»، وتابع عبد الناصر: لا شك أن هيكل مستفيد من قربه مني، وهو مطلع، ولكن ما يكتبه يمثله هو وليس أنا، وسأقول لك الدليل على ذلك، دليلي على أن هيكل يعبر عن نفسه هو أنك مرة رددت عليه، وأنا قلت لهيكل: «شفيق معه حق».

ثم سألني الرئيس عبد الناصر: على فكرة أنت بتعرف هيكل؟، فأجبته: لا، فقال: لماذا لا تتعارفوا؟، الحق عليه، هو مقصر تجاهك، لأنك في مصر وضيفنا». وفعلاً بعد يوم أو يومين، يرن جرس الهاتف في غرفتي، ويكون الأخ هيكل على الخط، ثم تعارفنا إلى بعضنا البعض، وبعد ذلك صارت لقاءاتي بالرئيس عبد الناصر تتم عبر محمد حسنين هيكل.

**

هيكل نفسه يحكي إحدى تلك القصص في حوارٍ له مع مفيد فوزي فيقول: «أذكر أني عدت من رحلة في أوروبا عام 1964، وكتبت مقالات بعنوان «رحلة إلى شواطئ مجهولة»، وكتبت عن عدم الانحياز، فذهب سفير الهند وقابل الرئيس عبد الناصر وقال له: هل هناك تغيير في مفهومكم لعدم الانحياز؟

قال له عبد الناصر: لماذا؟، فقال السفير الهندي: هيكل كتب مقالة يلمح فيها إلى هذا التغيير، وقال عبد الناصر: والله؟ … لم أقرأها.

**

قصة أخرى يحكيها “جون بادو” السفير الأمريكي في القاهرة، والذي كان قريب الصلة من عبد الناصر، لحبه لمصر وتاريخها وحضارتها، والقصة تدل  على أن عبد الناصر لم يكن يوحي إلى هيكل ما يكتبه.

جون بادو يتسلم اوراق اعتماده سفيرًا من جمال عبد الناصر
جون بادو يتسلم اوراق اعتماده سفيرًا من جمال عبد الناصر

نبدأ رواية القصة من أولها، لأنها تعطينا أكثر من دلالة على أحد جوانب العلاقة بين الرئيس جمال عبد الناصر وبين الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل:

عندما انتخب الرئيس الأمريكي جون كينيدي أراد أن يحسن أداء سفارات بلده في أكثر من مكان بالعالم، ورأى أن يجري تعيين سفراء يفهمون البلاد التي يمثلون الولايات المتحدة فيها، وعلى هذا الأساس قرر تسمية جون بادو سفيراً في القاهرة.

وجون بادو كان عميداً سابقاً للجامعة الأمريكية بالعاصمة المصرية التي ظل يعمل بها، ويعيش فيها لمدة 35 سنة، وتتلمذ على يديه بعض المسئولين المصريين في حكومة عبد الناصر أثناء دراستهم بالجامعة الأمريكية. وكان من بين هؤلاء على صبري وأخوه حسين ذو الفقار صبري.

وكان لإجادة جون بادو اللغة العربية، التي يتحدثها بطلاقة، دور كبير في تنمية صداقاته داخل مصر، طوال فترة وجوده بها، وزاد ذلك من تعرفه على الأحوال العامة في مصر، وكانت هذه النقطة بالذات هي التي حسمت اختياره سفيراً لبلاده في القاهرة، وكانت أهم عواصم المنطقة تحت حكم الرئيس عبد الناصر.

اقترب بادو من عبد الناصر، الذي أصبح صديقه على حد وصف السفير الأمريكي نفسه، وإلى الدرجة التي أغاظت السفير السوفيتي في القاهرة، ما جعله يثير المسألة مع عبد الناصر، وقد أفهمه الرئيس بدوره أن السفير الأمريكي يتحدث ويتقن اللغة العربية، التي لا يعرف السفير السوفيتي منها حرفاً واحداً، وقال له: إن معظم المقابلة مع السفير الأمريكي تتطرق إلى «دردشات» عامة، وأنها لا تكون بالضرورة ذات طبيعة سياسية أو دبلوماسية.

وهكذا حاز السفير الأمريكي ـ ربما لأول مرة ولآخر مرة ـ ما لم يحز عليه أي سفير غربي آخر، وهو صداقة عبد الناصر الشخصية. وفي كتابه «الشرق الأوسط يعود إلى الذاكرة» ذكر جون بادو هيكل في أكثر من موقع، وهو يؤكد أن هيكل كاتب بارع جداً، وله أسلوبه وحيويته، وأن هناك نكهة خاصة للكتابة العربية الجيدة، ويقول: «من الواضح أنه كان رجلاً يحدد له ناصر إطار فكرة ما ويقول له: اذهب واكتبها، وكان هيكل يفعل ذلك، وقد أعجب ناصر بطريقة كتابته، وترتيباً على ذلك، فإن كثيراً من خطب ناصر كتبها هيكل».

وفي رأي جون بادو فإن «هيكل لم يكن محبوباً من جانب العديد من أعضاء حكومة الرئيس عبد الناصر»، وأرجع ذلك جزئياً إلى الغيرة بين رجال السلطة، ولكنه شدد من ناحية أخرى على أن هيكل كان يغالي أحياناً في التأكيد على علاقته بعبد الناصر، ويسعى لاستغلالها، وهو ما كان باعثاً على سخط الآخرين.

ويقول بادو: «عندما قدمت إلى مصر، كان محمد حسنين هيكل في أوجه من جوانب متعددة، واستمر الأمر على هذا المنوال طوال الفترة التي كنت فيها هناك، فكل يوم جمعة يظهر مقاله في «الأهرام»، وكان موضوعاً للاهتمام في السفارة، حيث يجري تحليله، ويتم بعث رسالة إلى الولايات المتحدة بشأنه بصورة متكررة.

وفي رأيي أنه من الخطأ للغاية تصور هذا النوع من الربط بين ما يكتبه هيكل، وما إذا كان يمثل بحق تفكير حكومة ناصر، أو ناصر ذاته، وقد تحققت من ذلك أثناء اشتعال أزمة الصواريخ الكوبية، والتي حظيت باهتمام كبير في مصر.

وكانت السفارة تقطع إجازتها يوم الجمعة لنعكف على قراءة مقالة بصراحة، ونرسل أهم ما فيها إلى الخارجية الأمريكية، حيث نتوقع أن مقال «بصراحة» تعبر عن آراء عبد الناصر. حتى نشر هيكل مقالاً طويلاً يوم الجمعة، مع تحليل مطول لأوجه التشابه بين أزمة الصواريخ الكوبية، وأزمة قناة السويس سنة 1956، وفي اليوم التالي لنشر المقال، سنحت لي الفرصة للقاء الرئيس ناصر، وسألني إذا كنت قرأت المقال، فقلت له: نعم لقد قرأته، وأراد ناصر أن يعرف رأيي فيه، وأجبت: «حسناً لم يترك لدي انطباعاً قوياً، ولم تبد لي أن هذه المقارنة حقيقية».

فقال وهو يبتسم: « قلت هذا لهيكل : لا يوجد أي تشابه أو تماثل بين الحالة في كوبا، والحالة هنا بأي حال».

يقول السفير الأمريكي: من ساعتها أخذت السفارة الأمريكية بالقاهرة إجازتها يوم الجمعة.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock