مثلت الحرب الأهلية الإسبانية وتجربة مساهمة بابلو نيرودا في مساعدة السجناء الأسبان في سجون ومعتقلات فرنسا على الهجرة إلى تشيلي نقلة نوعية في حياة نيرودا فبعد أن خاض تجربة الغوص بعالمه الذاتي بما كان يتسم به من كآبه في ديوانه «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» جاءت الحرب لتكشف له عن أن للشعر والشعراء دورا آخر غير الغوص بهذا العالم الذاتي الكئيب، بات الشعر لدية وسيلة للتعبير عن نضالات البشر فشرع يكتب ديوانه «نشيد عام» وفي مذكراته التي حملت عنوان «أعترف بأنني قد عشت» التي نقلها للعربية المترجم الفلسطيني الدكتور محمود صبح، يواصل نيرودا رواية رحلته في الحياة التي امتزج فيها عالم الشعر بالحب وتأمل الطبيعة وتجارب السفر بالنضال السياسي، أنها الحياة بكل ما فيها من أحزان وأفراح ونضالات البشر الجماعية منها والفردية.
نشيد عام
احتل ديوان «نشيد عام» مكانة خاصة بحياة بابلو نيرودا على المستويين الخاص والعام فهو الديوان الذي تمكن بتلك المقدمة التي دفعها ناشري الديوان من أن يشتري بيتا خاصا به «بجزيرة سوداء» عام 1939 ولعله كان أول بيتا يمتلكه .. «بيتاً للعمل» هكذا أطلق نيرودا على بيته الذي كتب به ديوانه هذا وبعض أعماله التالية.
لكن ما أهمية هذا الديوان؟ ..
فكرة الديوان كما يرويها نيرودا تقوم على كتابة «قصيدة رئيسية تجمع الأحداث التاريخية والشروط الجغرافية والحياة وصراعات شعوبنا، كانت تلح وتبدو على أنها عمل عاجل لابد لي من تأديته، فسمحت جزيرة سوداء بما لها من شاطىء بكر وحركة المحيط الصاخبة، أن أنصرف في شغف وعاطفة لتشييد هذا النشيد الجديد».
اندلعت الحرب العاليمة الثانية تلك الحرب المجنونة الخاسرة قبل أن تبدأ التي جرت فيها القوى الشوفينية المتعصبة تطارد المفكرين التقدميين، لم يكن العدو يتمثل في هتلر وقواته فقط، بل كان العدو يتجسد في كل محاربي الفكر التقدمي، بتلك الأجواء احتمى «لويس أراغوان» صديق نيرودا بالسفارة التشيلية في باريس حيث عكف أربعة أيام على كتابة روايته «مسافرو لا امبريال» وحين انتهى منها وفي اليوم الخامس توجه وهو يرتدي الزي العسكري إلى الجبهة ليخوض حربه الثانية ضد الألمان، بذات السياق انطلقت قصائد بابلو نيرودا مع طلقات البارود فغدت سلاحا بيد الفقراء والمعدمين.
المكسيك بالسوق وليس الأغاني
ارسلت الحكومة التشيلية نيرودا كقنصل لها إلى المكسيك عام 1940، جاب نيرودا المكسيك خلال سنين عدة من سوق إلى آخر فالمكسيك لديه لم تكن تقبع بالأغاني كما هو شائع عنها، المكسيك لدى نيرودا كانت تتجلى بالأسواق.
طاف نيرودا بآبار المياه المقدسة بالمكسيك التي ضاعفت الأديان البدائية من أسرارها، عبر تاريخها ألقت مئات الفتيات العذراوات المزينات بالزهور والذهب بأنفسهن بالمياه الجارية بعد احتفالات عرائسية على ضفاف الآبار على طريقة أسطورة عروس النيل المصرية القديمة.
بينما كانت الحرب العالمية الثانية تجتاح أوروبا تجمع بالمكسيك عدد غير قليل من كتاب ومفكري وفناني العالم، كان الرسامون المكسيكيون يحتلون مكانة خاصة حيث كانت لهم الكلمة العليا بالنقاشات العامة التي كانت تحسم أحيانا بإطلاق رصاص المسدسات بالهواء إعلانا عن ضرورة التوقف عند هذا الحد، وكان لنيرودا حظ وافر من الصداقات التي جمعت بين العديد من رسامي المكسيك والكتاب وخاصة الشعراء من مختلف أرجاء العالم، غير أن نيرودا الذي غاص بعمق المكسيك ينهي حديثه عنها بأنه حين قرر العودة إلى بلاده كان يفهم الحياة بالمكسيك أقل مما كان يفهمها حين وصل إليها..
غرائب عالم نيرودا
عشق نيرودا الأصداف والمحار البحرية فما من شاطىء أقترب منه إلا وغاص بعمق مائه بحثا عن الأصداف والمحار البحرية ما جعل كنزه البحري يتضخم ليملاء غرفا كثيرة ببيته القابع «بالجزيرة السوداء» عن طريق الصيد والمقايضة والشراء والهدايا والسرقة أحيانا فعلى حد وصفه «ليس ثمة جامع شيىء، شريف البتة».
أمتلك نيرودا أكثر الأصناف غرابة من بحار تشيلي والفليبين واليابان والبلطيق، «جعدات من القطب الجنوبي، حلزونات ملونة من بحر كوبا، قوقعات رسامات لابسات أحمر وزعفرانيا، أزرق وبنفسجيا، كأنهن راقصات بحر كريبي» على حد وصف نيرودا.
ملح البارود
عاد نيرودا مرة أخرى إلى تشيلي بنهاية عام 1943 ، عاد إلى وطنه الذي يعاني من الفقر المدقع ليجري معه أحد الصحفيين حوارا يبدأه مشيرا فيه: «لست شيوعياً، لكنني لو كنت شاعراً تشيلياً لأصبحت شيوعياً كما فعل بابلو نيرودا، يجب على المرء هنا في تشيلي أن يتحزب في سبيل الفقراء، في سبيل من هم بلا مدرسة وبلا حذاء».
أصبح بابلو نيرودا نائبا بمجلس الشيوخ في 4 مارس من عام 1945، كان نيرودا فخورا بأن من أعطوه أصواتهم هم آلاف التشيليين الذين يعيشون في أقصى منطقة بتشيلي: منطقة المناجم الكبيرة، مناجم للنحاس وملح البارود.
نيرودا الذي ولد بالطرف الأخر من الجمهورية التشيلية حيث الأرض الخضراء ذات الأشجار الكثيفة، أصبح في مواجهة مع الصحراء حيث بات ممثل لهؤلاء الرجال عمال مناجم النحاس وملح البارود بمجلس الشيوخ، يروي نيرودا عن هؤلاء العمال أنه بأحد الإضرابات العمالية أخذ حراس الشركة وكانوا يمتطون الخيل، سبعة من قادة العمال وربطوهم إلى الخيول بحبال وساروا بهم عبر الأراضي الرملية النائية ثم أفرغوا فيهم ما شاءوا من العيارات النارية.
تعود نيرودا خلال تجربته كنائب بمجلس الشيوخ أن يطوف أنحاء بلاده، نزل بأكثر البيوت فقراً، ما كان يدهشه كثيرا أنه بتلك البيوت الفقيرة كثيرا ما طلب منه أن ينشد أشعاره، ما دفعه دفعاً نحو حالة عن المخاض الجديد لعالمه الشعري، في عمق الجبال السرية بالجنوب كان لعالمه الشعري ميلاد جديد، جعل منه شاعراً شعبياً بإمتياز، وربما كان هذا ما دفعه نحو الإنتساب للحزب الشيوعي بتشيلي في 15 مايو من عام 1945.
قدرة الشعر
هل يستطيع شاعر أن يكون هو نفسه بعد أن يمر بكل تلك التجارب المتنوعة التي مر بها؟ .. هكذا تسائل بابلو نيرودا بمذكراته التي كتبها عام 1973 بعد مرور خمسون عاما على نشر ديوانه الأول «شفقيات» عام 1923.
يجيب نيرودا على تساؤله مشيرا إلى أنه قد تأثر بثورات الثقافة الفرنسية لكنها لم تتملكه كما تملكه الشاعر التشيلي «هويدوبرو»، وشاعر مانهاتن «والت وايتمان» لقد كان على نيرودا أن يتجاوز حدوده الذاتيه غير أنه لم يبتعد عن إطار ثقافته بعيدا حيث حارب نيرودا تأملاته الذاتيه عبر إلتهامه كل شيىء: «المشاعر والمخلوقات والكتب والأحداث والمعارك ولو أستطاع لأكل الأرض وشرب البحر جميعه» على حد وصفه.
ساعدته الجوائز الأدبية التي دفعت له نقداً على إقتناء بعض نسخ الكتب بأثمان باهظة، كانت كتب الشعر القديمة تبرز في المكتبة وضاحة براقة، إضافة لكتب علم النبات وعلم الطيور والحشرات وكتب الرحلات.
نيرودا الذي عُرِفَ بعشقه الخاص بجمع غرائب الكائنات البحرية لم يكتفي بذلك حيث أمتلك مكتبة عامرة بالعديد من الأرفف الممتلاءة بكتب عالم البحار والحلزونات التي وصلت نحو خمسة آلاف كتاب وذات يوم جمع كتبه تلك ووضعها بصناديق كبيرة ثم حملها إلى جامعة تشيلي التي قبلت هبته بالكثير من الشكر والتقدير، إلا أنها «دفنتها» على حد وصفه بقبو بالجامعة لم يشاهده أحد.
لا يفوت الشاعر أن يربط بين عالمه الشعري وزوجته «ماتيلده أوروتيا» التي كتب عنها ديوانه «مائة أرجوزة حب» أما ماتيلده فقد تغنت «بصوت قدير» كما وصفه نيرودا بكل ما كتب من أغاني وقصائد شعرية.
أما عن النقاد فقد ظن البعض أن نيرودا شاعر سريالي وظنه البعض الآخر شاعر واقعي وهناك من لم يرى فيه أنه بشاعر، غير أن نيرودا ذاته كان يمقت الواقعية حين تتعلق بأمر الشعر، وبذات الوقت الشعر لديه كان عبارة عن حالة من العصيان والتمرد.
تناول نيرودا طريقة تعامل بعض النقاد مع أعماله حيث ضرب المثل بناقد إكوادوري لم يرى في ديوانه «الأعناب والريح» سوى «ست صفحات من الشعر الحقيقي»، كما مقت نقاد أخرون ديوانه «مقام في الأرض» غير أن نيرودا ذاته قد أنتقد جو التشاؤم الذي ساد هذا الديوان حتى أنه لم يكن يستطيع أن ينسى مطلقا تلك الحادثة التي انتحر فيها شاب من «سانتياغو» على جذع شجرة بعد أن ترك بجواره ديوان «مقام في الأرض» مفتوحا على القصيدة المعنونة «يعني ظلالا».
يواصل نيرودا عتابه للنقاد الذين قد تجاهلوا بعض أعماله بشكل تام مثلما حدث عام 1961 حين ظهرت له ثلاث دواوين دفعة واحدة وهم: «أغنية مفخرة» و«أحجار تشيلي» و«أناشيد شعائرية» ولم يذكر نقاد بلاده حينها ولا حتى عناوينها!.
حاز بابلو نيرودا على جائزة نوبل عام 1971 بعد أن أصبح الشاعر الملهم الذي فجرت أشعاره سلسلة الثورات بدول أمريكا اللاتينية في تشيلي والمكسيك والأرجنتين وغيرها من بلدان العالم ، وفي 23 سبتمبر توفاه الله بسنتياغو عاصمة تشيلي حيث دفن، بعد أن شهد الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الديمقراطي الذي كان أحد دعائمه، وربما كان هذا ما دعى البعض أن يرى أنه لم يمت موتة طبيعية أثر مرضه بل تم إغتياله كما قتل الرئيس «سلفادور اللييندي» بأيدي أعداء الحرية. وأي ما كانت الطريقة التي مات بها بابلو نيرودا فقد مات نيرودا وعاشت أشعاره دائما وأبدا شعلة مضئية تضىء الطريق لكل دعاة الحرية.