لا يزال أرشيف منشية البكرى – الذى يحوى الغالبية العظمى من وثائــق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – يحتفــظ بالكثيـــــر من الأوامـر التى أصـدرها عبد الناصر منذ توليه السلطة لمساعديه بترجمة أو بتلخيص مؤلفات ودراسات ومراجع عديدة، ولا تزال خطوطه وملاحظاته التى سجلها على ملخصات أمهات الكتب، أو على هوامش هذا النوع من الرسائل موجودة كما كتبها .
خلال اجتماعاته الرسمية وغير الرسمية كان عبد الناصر (1918- 1970) يطلب من مرافقيه الاطلاع على كتب بعينها، مع مداعبة جادة بأنه «سوف يناقشهم فيما ورد بين دفتي الكتاب»، وكان الوزراء يبدون استغرابهم من هذه الظاهرة الغريبة، فلقد أنهوا دراستهم منذ زمن بعيد، وكثير منهم حصلوا على شهادة الدكتوراه، وما كان يخطر ببالهم أنهم عينوا وزراء ليعودوا مرة ثانية إلى مقاعد الدرس ليطالعوا الكتب والمراجع والترجمات والملخصات، التى كان يوزعها عليهم رئيس الجمهورية.
حالة الاستغراب التى كانت تنتاب الوزراء والمسئولين سرعان ما كانت تزول عندما يرون أعضاء مجلس قيادة الثورة ورفاق ناصر القدامى يتقبلون الأمر ببساطة، لأن الظاهرة لم تكن جديدة عليهم، فقد تعودوا على ذلك منذ مرحلة ما قبل الثورة، عندما كان عبد الناصر رئيساً للهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار، بحسب ما روى الدكتور جمال شقرا أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في ورقة بعنوان «مصادر التكوين الفكري للرئيس جمال عبد الناصر» نشرت ضمن دراسة لمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية في الذكرى الـ 50 لثورة 23 يوليو بعنوان «دراسة في الحقبة الناصرية»، ثم أعاد نشرها بتوسع في كتاب حمل نفس العنوان عام 2018.
يقول شقرة: «من صفات عبد الناصر أنه كان قارئاً نهماً ودارساً متميزاً، ويعده البعض بحق النموذج الفريد لرئيس الدولة الذى أكمل تعليمه وتثقيفه وهو فى السلطة، رغم أن السلطة من شأنها أن تغنيه عن ذلك كله، لأنه يستطيع أن يستأجر من يشاء من المثقفين والمتعلمين، أما عبد الناصر فكانت رغبته الشديدة فى أن يعرف بنفسه كل شىء خطاً مستمراً فى حياته».
من باكوس إلى باب الشعرية
يلقي شقرة بشكل مقتضب الضوء على نشأة عبد الناصر والذي تمر اليوم الذكرى الـ50 لوفاته ويقول: «ولد جمال عبد الناصر يوم 15 يناير عام 1918، بالمنزل رقم 18 بشارع أنواتى بحى باكوس بالإسكندرية، وهو الأبن الأكبر لأسرة عربية مصرية صميمة نشأت فى قرية صغيرة تبعد ثلاثة كيلومترات شمال شرق مدينة أسيوط، تسمى بنى مر.. كان والده موظفاً صغيراً بمصلحة البريد لا يملك سوى راتبه الشهرى؛ لذا عاشت أسرته حياة متواضعة، لا تختلف كثيراً عن حياة مئات الآلاف من أبناء الكادحين فى قرى ومدن مصر».
كان رب الأسرة بحكم عمله دائم التنقل بين قرى ومدن ومديريات مصر، ولعل هذا – كما يرى البعض – قد مكن عبد الناصر منذ الصغر من التعرف على واقع بلاده، وعلى البؤس والشقاء الذى كان يعانى منه الشعب المصري آنذاك.
التحق عبد الناصر أولاً بمدرسة روضة الأطفال بحى محرم بك بالأسكندرية، لكنه سرعان ما تركها إلى مدينة أسيوط، بعد انتقال أبوه، وظل بها لمدة سنتين 1923 – 1924، حيث تعلم القراءة والكتابة، وبعد ذلك أرسله والده للإقامة بالقاهرة مع عمه خليل حسين الموظف بوزارة الأوقاف، حيث أُلحق بمدرسة النحاسين الابتدائية، التى كانت تواجه مجموعة من مساجد ومقابر سلاطين المماليك، ولا تبعد كثيراً عن خان الخليلى ومسجد الحسين، وبقى بها ثلاث سنوات 1925 – 1928 .
ويشير الكاتب السويسري جورج فوشيه في كتابه «جمال عبد الناصر ورفاقه» إلى أنه على الرغم من صغر سن ناصر ورفاقه تلاميذ مدرسة النحاسين الابتدائية ورغم جهلهم بالآثار الإسلامية؛ فإنه كان لهذه المدرسة التى تقبع فى قلب القاهرة الإسلامية أثرها فى عقله، حيث كان الإسلام يتراءى له كحقيقة تاريخية مجيدة .
يكاد يجمع كُتَّاب سيرة عبد الناصر على أنه كان فى السابعة والثامنة من عمره قوى البنية، أطول قامة من رفاقه، وأنه كان رزيناً يستأنس بالوحدة كثيرا ويشرد باله أحياناً، وأنه كان غالباً ما يثير دهشة والديه بخواطره وإيماءاته الغريبة، كما يجمعون على أنه كان يتصف بالعناد والصلابة، بالإضافة إلى الحساسية والمرونة، كما عُرف عنه فى هذا السن المبكر اعتداده بنفسه.
أتم عبد الناصر السنة الثالثة الابتدائية، بمدرسة النحاسين فى صيف عام 1928، وتزوج الأب مرة أخرى بعد وفـاة والـدته سنة 1926، وأصابته وفاة أمه بحزن عميق، كما أن مجىء زوجة أخرى إلى منزل الأب كان له أثره فى طفولته، وبعد أن بدأ السنة الرابعة الابتدائية أرسله أبوه إلى الإسكندرية عند جده لوالدته، حيث أتم السنة الدراسية فى مدرسة العطارين، ثم أُلحق بمدرسة حلوان الثانوية الداخلية سنة 1929، لكنه عاد وُنقل إلى مدرسة رأس التين الثانوية بعد انتقال أبوه إلى الإسكندرية.
وفى الإسكندرية شارك عبد الناصر فى إحدى المظاهرات، وتلقى بضع ضربات بعصى غليظة على وجهه؛ الأمر الذى أخره عن تأدية امتحانات آخر العام، وكانت تلك المظاهرة بداية اشتغاله بالسياسة وهو لا يزال طالباً بالمدرسة الثانوية، حيث انفعل بحالة الغليان التى كانت تعانى منها مصر وقتئذ، حيث كانت تناضل من ناحية لإلغاء التحفظات الأربعة التى ضمت تصريح 28 فبراير، وجعلت الاستقلال الذى حصلت عليه مصر بمقتضاه مجرد حبر على ورق، ومن ناحية أخرى كان الصراع محتدماً بين القصر والأحزاب المصرية حول دستور 1923، الذى عطله إسماعيل صدقى، وأصدر بدلاً منه دستور 1930.
انتقل عبد الناصر بعد ذلك من مدرسة رأس التين إلى المدرسة الفريدية، حيث واصل دراسته عامين، وفى سنة 1933 انتقل مرة أخرى إلى القاهرة بعد انتقال والده إليها، وواصل دراسته فى مدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر التى أصبح رئيس اتحاد الطلاب بها .
استقرت الأسرة بحى باب الشعرية بجوار مسجد الشعرانى، وحسب رواية صديق طفولة عبد الناصر وأخوه فى الرضاعة حسن النشار فإن مكتبة هذا المسجـد وكـذا الكتـب التى كان يستعيرها جمال عبد الناصر من أساتذته ستمثل مصدراً مهماً مـــن المنابـــع التى أثرت في تكوينه الفكري، فكان يقضى بمسجد الشعرانى ساعات طويلة يقرأ، وكانت مكتبة المسجد تضم العديد من كتب الدين والسير والتاريخ، أتى على معظمها عبد الناصر، وكان ما يزال فى الخامسة عشرة من عمره .
مسجد الشعراني وتكوين الزعيم
تتبع فوشيه المؤلفات التى قرأها عبد الناصر، وهو لا يزال طالباً فى المرحلة الثانوية، ورصد كيف قام بعملية تثقيف ذاتى صارمة، ميزته عن رفاقه فى المدرسة الثانوية.
كان فى مقدمة الكتب التي قرأها عبد الناصر في تلك الفترة مجموعة من المؤلفات التى تناولت تاريخ العرب والإسلام وسيرة الرسول، منها كتاب «المدافعون عن الإسلام» الذى نشره وقدم له الزعيم الوطنى مصطفى كامل، بهدف تذكير الأمة المصرية بمجدها الغابر، ووصف روعة الحضارة العربية، وأثرها فى الغرب.
عندما سأل الكاتب الإنجليزى ديزموند ستيوارت عبد الناصر عن أهم الشخصيات التى أثرت فيه، واتخذها مثلاً له منذ أيام الصبا، فأجاب بأنه «شخصيـة الرسـول محمد بن عبد الله كانت أعظمها جميعاً، فهو القائد والزعيم والمجاهد الذى جاهد كثيراً من أجل إخراج الشعب العربى من الظلمات إلى النور، فضلاً عن أنه جمع شملهم، ووحد كلمتهم حول مبدأ “وشريعة” بالإضافة إلى أنه تعلم منه فضيلة الصبر والكفاح.
قرأ عبد الناصر فى هذه المرحلة أيضا بعض المؤلفات عن حياة المناضل والزعيم الوطنى مصطفى كامل، وكان حريصاً أيضاً على قراءة مقالاته الثورية، ولقد اتضح مدى تأثره بمصطفى كامل من رسالة أرسلها لصديقه حسن النشار، فى سبتمبر 1935، حيث ورد فيها اسم مصطفى كامل ثلاث مرات، واستشهد فيها أيضاً ببعض عبارات مصطفى كامل الحماسية .
ومن الكتب المهمة التي طالعها عبد الناصر في تلك الآونة كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» للمفكر الوطنى السورى عبد الرحمن الكواكبى، الذى شن فيه ثورة عارمة على استبداد الأتراك وطغيانهم، وقرأ له أيضا كتاب «أم القرى» الذى تخيل فيه مؤلِفُه مكة وقد أصبحت مكاناً لاجتماع شاركت فيه جميع الشعوب الإسلامية، وحاول المجتمعون من خلاله اكتشاف الأسباب المسئولة عن تخلف المشرق الإسلامى، والطريق للتحرر من الاستعمار، وخلص الكتاب إلى الاعتراف بضعف وخمول وتخلف المسلمين، وإلى أن الجهل هو العامل الرئيسى المسئول عن ذلك، وإلى الافتقار إلى زعيم يقود الشعب، كما انتهى إلى ضرورة اتخاذ مصر مركزاً للانطلاق؛ نظراً لتقدمها فى العلوم، ولدورها التاريخى.
ومن المؤلفات التى قرأها عبد الناصر فى هذه الفترة أيضاً، كتاب أحمد أمين عن مجددى الإسلام أمثال الأفغانى، ومحمد عبده، وكذا كتاب «وطنيتى» للشاعر الوطني على الغاياتى الذى هاجر من مصر إلى جنيف وأصدر جريدة «منبر الشرق» ليدافع من خلالها عن حقوق شعوب الشرق.
ذكر عبد الناصر أن قراءاته فى هذه الفترة كانت مزيجاً من القصص والتاريخ، وأنه اهتم كثيراً بدراسة تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر، كما أنه كان مولعاً بمتابعة المقالات السياسية والفكرية فى الصحف والمجلات الوطنية والحزبية؛ كصحيفتى الوفد واللواء وجريدة الأخبار التى كان يصدرها الصحفي والمناضل أمين الرافعى المعروف بعدائه لأى حل وسط مع المستعمر الإنجليزى.
ومن الشخصيات التى قرأ لها عبد الناصر أيضاً الأمير شكيب أرسلان الذى كتب عن الشرق ومجده السالف، وإبان المرحلة الثانوية دفعه أستاذه أحمد حسنين القمرنى إلى القراءة فى تاريخ الثورة الفرنسية فقرأ حول جان جاك روسو وفولتير واستهواه الأخير، حيـث أعجـب بثورته على فساد نظام الحكم والكنيسة، وسجل ملاحظاته عن فولتير وعبر عن إعجابه به فى مقال نشره فى مجلة مدارس النهضة بعنوان «فولتير رجل الحرية».
عبد الناصر و«عودة الروح»
وفي تلك الفترة والتي أصبح فيها رئيسا لاتحاد طلاب مدرسته اهتم بقراءة سير نابليون بونابرت، وغاندى، والإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، كما أعجبته قصة فيكتور هوجو «بائعة الخبز» والتى صورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية فى فرنسا قبل الثورة، وكذا قرأ رائعة شارلز ديكنز «قصة مدينتين»، التى صورت بدقة أعمال القسوة والعنف والإرهاب التى سادت فرنسا فى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، ولقد ذكر عبد الناصر أنه تعلم من رواية ديكنز كيف يمكن أن تكون الثورة بيضاء.
وثمة رواية مصرية بات معروفاً تأثر عبد الناصر بها، بعد أن أعلن هو ذلك أكثر من مرة ، حيث أشار فى سبتمبر 1935، فى واحدة من رسائله إلى صديقه حسن النشار، لرواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم .
وحسب ملاحظة فوشيه، التى نقلها حرفياً عن روايات زملاء وأسـاتذة عبد الناصر عندما كان طالبـاً بمدرسـة النهضة الثانويـة، فإنه وقف كثيراً عند الحوار الذى دار داخل مسرحية الحكيم بين الأثرى الفرنسى فوكيه ومفتش الرى الإنجليزى مستر بلاك الذى كان يستهين بالشعب المصرى ولا يقدر تاريخه، وتأثر عبد الناصر بتأكيد الأثرى الفرنسى على أن الشعب المصرى يمتلك قوة كامنة، وهو شعب متماسك متجانس مستعد للتضحية، بل إنه يستعذبها، وأنه شعب بإمكانه صنع معجزة أخرى غير أهرامات الجيزة.
لخص عبد الناصر هذا الفهم لرواية الحكيم فى رسالة أرسلها إلى صديقه حسن النشار فى 2 سبتمبر 1935، أخبره فيها بأن «اليأس قد بلغ أشده! ومن فى مقدرته أن يعيد بناء الوطن؟ من يستطيع إيقاظ أولئك البائسين الذين يجهلون كل شىء عن حالتهم؟ ومن يستطيع أن يقاوم اليوم ويقض مضاجع أمثال كرومر؟ يقولون إن المصرى رعديد يخشى الضجة مهما كانت خفيفة، وإنه فى حاجة إلى زعيم يقوده فى معركة النضال والكفاح من أجل بلده، عندئذ نجد هذا المصرى كالصاعقة يُلقى الرعب فى أمنع معاقل الطغيان، وكل ما يحدث الآن هو فقط الاستعداد الطويل لبداية عمل أهم وله مغزى».
ويؤكـــد فوشــيه أن عبد الناصر لم يكن يقرأ لمجرد القراءة، أو كأى طالب يستذكر دروسه ليستعد لاجتياز اختباراته، إنما كان يقرأ ليفهم الحياة ويدرس مجتمعه، باحثاً عن حلول لمشكلاته؛ كان يتلفت حوله مثلاً فيجد العمال وعامة الشعب يعانون من الفقر والجهل والبؤس والمرض، بينما يجد الأغنياء من أجانب ومصريين غارقين فى الترف، لماذا التفاوت الطبقى؟! كان عليه أن يقرأ ليجد الإجابة .
قراءات ناصر في تلك الفترة كونت لديه قاعدة متينة من المعرفة التاريخية والسياسية فتعرف على عوامل ضعف وانتكاس الأمة العربية، وأسباب الذل والهوان والبؤس والشقاء الذى تعانى منه بلاده على يد المستعمر البريطانى، وفى ظل سيطرة طبقة كبار الملاك وكبار الرأسماليين المصريين والأجانب، كما رسخت لديه أيضاً أهمية موقع مصر وأهمية دورها التاريخى فى الشرق الأوسط، فضلاً عن أهمية وضرورة وجود زعامة قوية مستنيرة تنقذها من عثرتها .
قبل دخوله الكلية الحربية فى شهر مارس عام 1937؛ شارك عبد الناصر فى المظاهرات الطلابية، التى جمعت بين طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعة، ومثلت تلك المظاهرات هى الأخرى مصدراً مهماً من مصادر تكوينه الفكري، فبالإضافة إلى الممارسة السياسية فإن أذنه التقطت الكثير من الشعارات السياسية والمقولات التى كانت تتردد فى الشارع السياسى المصرى آنذاك، كما أنه اتصل بنفسه بالأحزاب المصرية المختلفة واحتك بفكرها، تأثر بطروحات مصر الفتاة، والحزب الوطنى، وجماعة الإخوان المسلمين، ومنظمات اليسار المصرى وغيرها ، «إلا أنه وكما يتضح من رسائله إلى صديقه حسن النشار، لم يكن قد انتهى من إعداد نفسه، والاستقرار على برنامج سياسى محدد، كان تائهاً فى عالم السياسة المضطرب، يروح ويغدو ويزور مراكز الأحزاب السياسية؛ أملاً منه فى أن يجد من بينها حزباً يستجيب لأهدافه.
وظل الأمر كذلك إلى أن حصل على البكالوريا، وعندما دخل الكلية الحربية يوم 17 مارس 1937، كان قد بات مُسَيَّسَاً يتحرق شوقاً للكفاح فى سبيل تحقيق الاستقلال لبلاده»، يقول شقرة في كتابه .
رحلة البحث في الكلية الحربية
ويضيف شقرة: «من المقطوع به أن قراءاته فى الكلية الحربية كانت أكثر أثراً فى نفسه لسببين؛ الأول: أنه بات أكثر نضجاً، والثانى: أنه انفتح على القراءة باللغة الإنجليزية.. فعاد بين عامى 1937 – 1938 إلى مطالعة الكتب التى تناولت سير العظماء، وكبار القادة العسكريين ، وكبار رجال السياسة، نفس من قرأ لهم وعنهم من قبل باللغة العربية عاد يقرأ عنهم باللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى قراءة سير لشخصيات جديدة لم يكن قد قرأ عنها مثل غاريبالدى، وبسمارك، وهندنبرج، وتشرشل، وغوردون، وفوشى، ولورنس، ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم».
ويقسم شقرة القضايا التي اهتم بدراستها عبد الناصر بالإضافة إلى سير العظماء وكبار القادة العسكريين إلى 5 قضايا أساسية وهي : –
أولاً: المؤلفات التى تناولت الحملات العسكرية، والحروب، والمواقع الحربية الشهيرة ، كتلك التى تناولت حروب نابليون بونابرت فى أوروبا وحملته على مصر سنة 1798، وكذا حملة فلسطين، وحملة غوردون على الخرطوم، والمؤلفات التى تناولت موقعة المارن، وواترلو، ومعارك الحرب العالمية الأولى .
ثانياً: المؤلفات التى تناولت تاريخ الثورات كتلك التى تناولت تاريخ الثورة الفرنسية، وتاريخ الثورة الاشتراكية، وكذا تاريخ ثورة 1919 فى مصر، والمؤلفات التى عالجت تاريخ الدول العربية الحديث، سواء دول المشرق أم دول المغرب .
ثالثاً: المؤلفات التى تناولت الاستراتيجية، من ذلك المؤلفات التى عالجت الاستراتيجية الألمانية فى الحرب العالمية الأولى، والاستراتيجية الإنجليزية .
رابعاً: المؤلفات التى عالجت المشكلات الدولية، خاصة مشكلات الدول المطلة على البحر المتوسط .
خامساً: المؤلفات الجغرافية، خاصة التى اهتمت بالجغرافيا السياسية والعسكرية، وجغرافية دول حوض البحر المتوسط.
استغل عبد الناصر السنوات الثلاث التى قضاها فى الكلية الحربية بعد أن عُين مدرساً بها (1943 – 1946) فى قراءة ما استجد من كتب فى مكتبة الكلية، واللافت للنظر أنه عاد خلال هذه الفترة إلى دراسة الكثير من الكتب التى قرأها أيام كان طالباً بالكلية، لكن من بين الكتب الجديدة كتاب حول اليابان وأسـرار قوتهـا، وآخـر حـول تألــق نجــم نابليـون بونابـرت، وكتاب كونارد هايدن حول سيرة هتلر وحياته، وكتاب حول الحملة البريطانية على مصر، والتى انتهت باحتلالها سنة 1882، وآخر حول اللنبى فى مصر، وكذا كتب ليدل هارت الثلاثة حول الحروب الحاسمة فى التاريخ، ومؤلف العالم تحت السلاح، والحرب فى سبيل السلطة العالمية، والحرب الخفيفة، والحرب بغير مدافع، والحرب فى الجو، ومبادئ الحرب، وكذا أطلس اكسفورد الحربى، وحرب الغد الآلية، وكتاب اللورد كرومر حول مصر الحديثة، وكتاب أرنولد ويلسون حول قناة السويس، و أرنولد سيجفرد حول السويس وبنما، وكتاب عالم النفس الأمريكى ديل كارنجى «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر فى الناس»، وكتاب العالم الاقتصادى اليهودى بون الذى عالج قضايا تنمية الشرق الأوسط الاقتصادية، وفى هذه الفترة قرأ أيضاً رواية أخرى لـتوفيق الحكيم هى رواية أهل الكهف .
ويرى شقرة أن تلك المـؤلفــات زودت عبد الناصر بمعارف كثيرة جديدة ، وغذت روحه هى الأخرى بقيم وخبرات كثيرة، وأجابت على الكثير من الأسئلة التى كانت تدور فى ذهنه فى مرحلة الفوران مرحلة المظاهرات «أقصد المرحلة الثانوية »، وساعدته على رسم خطواته المستقبلية؛ حيث تأكدت قناعته التى توصل إليها فى سبتمبر 1935 بأن «القوة هى التى تنقص الشباب الوطنى، ليتمكنوا من القضاء على الاستعمار وأعوانه» .
هكذا تشكل وعي عبد الناصر، وهكذا رسمت قراءته المبكرة طريقه، بل طريق مصر إلى ثورة 23 يوليو.
المراجع:
«دراسات في الحقبة الناصرية» مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية
«التكوين الفكري لزعيم ثورة 23 يوليو جمال عبد الناصر» – الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر