رؤى

استراتيجية يسارية شعبوية لما بعد كوفيد–19 (2 – 2)

عرض وترجمة: أحمد بركات
لسوء الحظ، تبنت قطاعات اليسار المهمة الرؤية النيوليبرالية ما بعد السياسية التي تفترض نهاية النموذج المعادي للسياسة وتفكر في التقدم الأخلاقي باعتباره عملية ابتكار لعالم بلا حدود يتحرك فيه كل شيء بحرية تامة ودون عوائق. بالنسبة لهذه القطاعات، يشكل الدفاع عن التجارة الحرة مادة إيمانية وتتشكك في وجود رغبة حقيقية في حماية الطبقات الشعبية، وهو ما يُنظر إليه على أنه إنكار للقيم العالمية التي يعتزون بها ويدعمونها.

أزعم أن تخلي اليسار عن أفكار مثل الاستقلال والحماية لليمين سيكون خطأ سياسيا فادحا، إذ سيمنع بلورة مشروع سياسي قادر على التجاوب مع مطالب الطبقات الشعبية. ومن ثم يصبح من الضروري الانخراط في معركة أيديولوجية لإعادة تعريف الاستقلال والحماية، وربطهما بالقيم الديمقراطية الأساسية من أجل إلغاء مضامينها السلطوية المحتملة. لا يجب النظر إلى هذا باعتباره ’تحقيق لرغبات‘ الشعبوية اليمينية، كما يُتهم الشعبويون اليساريون في بعض الأحيان. فمعنى الأفكار السياسية الأساسية دائما ما يتحدد من خلال المعارك السياسية، كما أن المواجهة حول دلالات هذه الأفكار يمثل بعدا حاسما في صراع الهيمنة.

أهمية العاطفة

تتطلب الأزمة الحالية استراتيجية يسارية شعبوية قادرة على خلق قوة جماعية شعبوية يمكنها أن تحقق هيمنة جديدة من أجل استعادة وتعميق الديمقراطية. تعترف الاستراتيجية الشعبوية بأن السياسة نشاط حزبي تضطلع فيه العاطفة بدور مهم. ومن خلال رسم حدود سياسية بين ’نحن‘ و’هم‘، أو بين ’الشعب‘ و’الطبقة الحاكمة‘، تستطيع هذه الاستراتيجية تعبئة البعد العاطفي الضروري لبناء الأشكال الجماعية للهوية. وهذا هو الشيء الذي لا يستطيع الإطار النظري العقلاني، الذي غالبا ما يمنح السياسات اليسارية جوهرها، تفسيره. فالأفكار الصحيحة لا تكفي ولا يكون لها قوة – كما يؤكد سبينوزا – إلا عندما يكون لها تأثيرات وجدانية. وفي السياسة، لا يكفي أن يكون لديك برنامج مفصل. وحتى يستولد هذا البرنامج الولاء ويدفع الناس إلى العمل، يجب أن ينقل التأثيرات الوجدانية التي تتجاوب مع رغباتهم وخبراتهم الشخصية.

في السياسة، تتمثل العاطفتان الرئيسيتان في الخوف والأمل؛ وبالنسبة إلى اليسار، فإنه من الضروري أن يتوحد الناس حول مشروع سياسي لا يحركه الخوف، وإنما التطلع إلى عالم مختلف تُطبق فيه مبادئ الاستقلال والسيادة الشعبية، وغيرهما من مبادئ الديمقراطية. ومن ثم، يجب تدشين هجوم يساري شعبوي مناهض للهيمنة ضد النيوليبرالية باسم ’التحول الديمقراطي الأخضر‘، الذي يربط الدفاع عن البيئة بالنضالات الديمقراطية المتعددة ضد أشكال اللامساواة المختلفة. ما هو على المحك – إذن – هو بناء إرادة جماعية، أي ’شعب‘ يجد فيه كثير من المناضلين، ليس فقط من ذوي الطبيعة الاقتصادية – الاجتماعية، وإنما أيضا من النسويات والمناهضين للعنصرية والمدافعين عن حقوق المثليين، وغيرهم، سطحا يمكن النقش عليه.

تقرير عن التحول الديمقراطي الأخضر

التحول الديمقراطي الأخضر

لا شك أن هذه المطالب غير متجانسة على الإطلاق، وتتطلب شكلا من أشكال التعبير. في هذا السياق، أعتقد أن الحديث عن ’تحول ديمقراطي أخضر‘، وتصور التحول البيئي كعملية تعميق للديمقراطية يمكن أن يوفر هذا النوع من التعبير، لأنه يمثل مشروعا يمكن أن تتبلور حوله مجموعة متنوعة من المطالب الديمقراطية. يمثل هذا المشروع القوة العاطفية للتصور الديمقراطي الذي وجه الكثير من أعمال النضال من أجل المساواة والحرية في مجتمعاتنا. إن تصور التحول البيئي الضروري في شكل تحول ديمقراطي أخضر يمكن أن يُفَعل، وأن يُوَلد أيضا، عواطف قوية لدى فئات كثيرة، مما يؤدي إلى توجيه رغبتها في الحماية صوب المساواة.

إن الهدف من التحول الديمقراطي الأخضر هو حماية المجتمع وظروف وجوده المادية بطريقة تُمَكن الأفراد بدلا من دفعه إلى التراجع في بوتقة قومية دفاعية أو قبول سلبي للحلول التكنولوجية. إنه حماية للسواد الأعظم، وليس لفئة قليلة، من خلال توفير العدالة الاجتماعية وتعزيز التضامن.

وتقدم “الصفقة الخضراء الجديدة”، التي تدعو إليها ألكساندريا أوكاسيو – كورتيز، الناشطة الاشتراكية والنائبة في الكونجرس الأمريكي، وحركة “صن رايز” في الولايات المتحدة أيضا نموذجا جيدا لهذا المشروع الذي يربط بين الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة من جانب وحل المشكلات الاجتماعية، مثل عدم المساواة والظلم العنصري، من جانب آخر. كما يحتوي هذا المشروع على العديد من المقترحات المهمة، مثل الضمان الشامل الذي توفره ’العمالة مدفوعة الأجر‘ في الاقتصاد الأخضر، والتي تمثل ضرورة قصوى لضمان التزام القطاعات الشعبية التي ستتضرر وظائفها.

وفي بريطانيا، أكدت “الثورة الصناعية الخضراء”، التي شكلت جزءا أصيلا من برنامج حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين، أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية لا يمكن فصلها بحال عن العدالة البيئية. وقد شجع هذا البرنامج على اتخاذ تدابير من أجل إزالة الكربون سريعا من الاقتصاد البريطاني، والاستثمار في وظائف مستدامة ونقابية ذات أجر جيد. وعلى النقيض من مقترحات خضراء أخرى كثيرة، يدعو كلا المشروعين، الأمريكي والبريطاني، إلى تغيير منهجي راديكالي، ويعي كل منهما أن التحول البيئي الحقيقي يتطلب انفصاما تاما عن الرأسمالية.

الصفقة الخضراء الجديدة
الصفقة الخضراء الجديدة

الصراع الطبقي والأزمة البيئية

غالبا ما يُتهم مناصرو الاستراتيجية اليسارية الشعبوية بأنهم ماركسيين منكرين لوجود الصراع الطبقي، لكن هذا ينطوي على سوء فهم عميق. فالاستراتيجية اليسارية الشعبوية تعترف بأن المجتمع حافل بالعداوات التي يتسم بعضها بطبيعة اقتصادية – اجتماعية. هذا النوع من العداوات يمكن تسميته بـ ’العداوات الطبقية‘، شريطة ألا ينحصر هذا المصطلح في العداء بين البروليتاريا والبرجوازية. رغم ذلك، إلى جانب هذه العداوات الاقتصادية الاجتماعية، توجد عداوات أخرى تقع في علاقات اجتماعية متباينة، وتؤدي إلى إشعال جذوة أعمال نضال ضد أشكال أخرى من الهيمنة. لهذا السبب أكدنا في كتاب Hegemony and Socialist Strategy: Towards a radicalization of Democracy، على الحاجة إلى التعبير عن مطالب الطبقة العاملة إلى جانب مطالب الحركات الاجتماعية، واقترحنا إعادة صياغة الاشتراكية باعتبارها ’إضفاء للطابع الراديكالي على الديمقراطية‘ الذي يُفهم على أنه تمديد للمثل الديمقراطية إلى مجموعة واسعة من العلاقات الاجتماعية.

في الوقت الحاضر، وفي ظل الأزمة البيئية، اكتسب مشروع إضفاء الطابع الراديكالي على الديمقراطية بُعدا جديدا. ففي القرن العشرين، كان سؤال عدم المساواة يقبع في قلب المشروع الاشتراكي، وتصور الاشتراكيون المعركة من أجل العدالة الاجتماعية على أنها التوزيع المتساوي لثمار النمو. لكن نضال الحركات الاجتماعية الجديدة أضاف زوايا جديدة إلى سؤال العدالة الاجتماعية، إلا أن تركيزها انصب على الاستقلال والحرية، وباستثناء بعض الحركات المناصرة للبيئة، لم تستهدف هذه الحركات طبيعة النمو بشكل أساسي.

غلاف كتاب Hegemony and Socialist Strategy: Towards a radicalization of Democracy
غلاف كتاب Hegemony and Socialist Strategy: Towards a radicalization of Democracy

في العقدين الماضيين، دخلنا مرحلة جديدة بسبب حالة الطوارئ التي فرضتها ظروف التغيرات المناخية، حيث بات النضال من أجل العدالة الاجتماعية يتطلب مساءلة النموذج الإنتاجي والاستخراجي. ولم يعد النمو مصدرا للحماية، وإنما صار – في المقابل – خطرا على الظروف المادية لوجود المجتمع. ولم يعد ممكنا على الإطلاق تصور عملية إضفاء طابع راديكالي على الديمقراطية لا تضع نهاية لنموذج النمو الذي يهدد وجود المجتمع، والذي يطبع تأثيراته المدمرة على الفئات الأكثر ضعفا.
من هنا تأتي أهمية استراتيجية يسارية شعبوية تسعى إلى التعبير عن نضالات عديدة ضد الظلم والهيمنة في سياق ’تحول ديمقراطي أخضر‘ يهدف إلى الوصول إلى قطيعة ديمقراطية كاملة مع النظام النيوليبرالي.. هكذا يحدث ’الصراع الطبقي‘ اليوم.

شانتال موف – منظرة سياسية بلجيكية، وأستاذ في جامعة ويستمنستر. من أهم مؤلفاتها كتاب Hegemony and Socialist Strategy: Towards a radicalization of Democracy

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock