مؤلف الكتاب هو سيد إمام الشريف واسمه الجهادي عبد القادر بن عبد العزيز واسمه الحركي دكتور فضل، وهو شخصية رئيسية مؤثرة فكريا وفقهيا وحركيا في الحركة الجهادية العالمية.
يستخدم مؤلف الكتاب ما يمكن أن نصفه ب “سلطة التصنيف”، فهو قد صب في مؤلفه الضخم حشدا هائلا من النقول والإحالات والمصادر، وتنقل بين علوم الشريعة كلها من العقيدة إلي الفقه إلي الأصول إلي التفسير إلي السياسة الشرعية، من الآداب إلي الجدال، وكأنه يريد أن يؤكد لنفسه أنه صار من بين علماء الدين الذين تتساوي قاماتهم مع من أحال إليهم وناقش أفكارهم نصرا واتباعا أو هجوما وانتقادا، كما أنه يريد أن يغري من يطالع الكتاب ب”سلطة المؤلف” وقدرته علي الحشد والتعبئة والجمع للنصوص والمصادر.
ويمكن تفسير هذه الروح البادية في الكتاب بشعور دفين لدى المؤلف بأنه يقتحم مجالا لا يملك أدواته حقيقة، حيث أنه في التحليل النهائي دخيل عليه، فهو ليس منتسبا لطلبة العلوم الإسلامية أو حاصلا علي إجازتها، ومن ثم أراد تعويض ذلك بتضخيم حجم مؤلفه بلا ضرورة ولا داع علي الإطلاق.
وربما للسبب نفسه لم يفت المؤلف لفت نظر قرائه إلى المعني المتميز لكلمة “الجامع” في علم الحديث، والتي حرص على وصف مؤلفه بها، فيقول: “هو الكتاب الذي رُتبت أحاديثه على الأبواب ويشتمل علي جميع أبواب الدين كصحيح البخاري ومسلم” ، ومن هنا جاءت تسميته لكتابه” الجامع في طلب العلم الشريف”، وكأنه كان يريد أن يجمع كل أبوب الإسلام وقضاياه في هذا الكتاب، يريد أن يتطاول إلى قامات لا يمكنه بلوغها أبداً. المنظور النفسي هنا هام جدا في التعامل مع مؤلف الكتاب، فالرجل كان يعيش أزمة نفسيه حادة جعلته مضطربا في أفكاره وفي سياقات النصوص التي جمعها في كتابه، بحيث بدا الكتاب كالموج الهادر تحمله موجة فترفعه في الهواء ثم لا يلبث أن يسقط فتأتيه أخرى تطيح به ذات اليمين وذات الشمال على غير هدى ولا سراج ولا كتاب منير.
توقيت صدور الكتاب
الكتاب له طبعتان كما ذكر المؤلف في مقدمته، ولكنه لم يذكر تاريخاً محدداً لنشر أي منهما دون سبب مفهوم، بيد إن مطالعتنا للكتاب بعناية تجعلنا نقول أنه كُتب في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، فقد أشار إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وإلى أوروبا الموحدة والصومال، والبوسنة، وهو ما يعني أنه كتبه قبل انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
لم يذكر الكاتب تاريخ مؤلفه إلا بعد حوالي خمسة عشر عاماً، عندما أشار عرضاً أنه ألفه عام 1993، وذلك في سياق رده على أيمن الظواهري حين كتب كتابا يهاجمه فيه سماه ” التبرئة ” بسبب إصداره لوثيقة ” ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم ” عام 2007 وهو في السجن، وهى الوثيقة التي راجع فيها عبد القادر بن عبد العزيز أغلب ما كتبه في “الجامع”.
لم يتضمن “الجامع في طلب العلم” قائمة بالعناوين والقضايا المتنوعه داخله، ليس هناك فهرست للكتاب رغم أنه في مثل هذا العمل الجامع لا بد من فهرس حتي يمكن التعامل مع قضايا الكتاب وموضوعاته، بيد إنه أشار فقط في مقدمته إلى الأبواب التي تضمنها الكتاب كعناوين كبرى دون أي إشارة لفصول تلك الأبواب أو مباحث تلك الفصول وقضاياها، خاصة أنه أطلق لنفسه العنان فكان يقتحم القضايا التي تعن له اثناء كتابته عن موضوع معين فيتركه ويقفز لموضوع آخر دون سبب منطقي ويوغل في ذلك إيغالا مرهقاً، حتى ينسى القارئ المتابع موضوعه الرئيسي وينساه هو نفسه، ثم لا يلبث أن يفيق فيعود إلى موضوعه الأصلي.
يشير المؤلف في ثنايا تموجاته المتخبطة إلى عالم قرطبة والأندلس الفذ أبو محمد بن حزم (384ه-456-994م -1064م )، لأنه خالف استنتاجاته المتوهمة في قضايا الإيمان والحكم على الناس فيصفه بقوله: “أمره مضطرب وهذا شأن بن حزم في معظم العلوم سواء منها الاعتقاد أو الفقه أو أصول الفقه، أمره مضطرب وكلامه يجمع بين الحق والباطل، ولهذا يجب التوقف فيما انفرد به من آراء وأحكام حتى يُنظر فيها ولا يبدأ طالب العلم بقراءة كتبه أو دراستها “. ويبدو لي أنه أحق بذلك الوصف من ” ابن حزم ” فكأنه بلا وعي يعبر عن نفسه هو. هنا سنجد أن المؤلف لا يدع أحدا من العلماء الكبار إلا وخالفه في اعتبار الإيمان إقرار وقول وأن العمل متمم للإيمان وأن المسلم لا يخرج من الإيمان إلا بجحد ما أدخله فيه، وأنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة بذنب مالم يستحله، كما ذكر الطحاوي في العقيدة الطحاوية وكما ذهب عامة أهل الإسلام.
هؤلاء العلماء جميعا اعتبرهم الشريف مرجئة، فهم يعتبرون العمل من تمام كمال الإيمان ولكنه ليس أصلا في الإيمان، فليس مقبولا ولا معقولا أن عامة علماء الأمة بداية من أبي حنيفة نفسه وحتى السيوطي مرورا بأبي بكر الباقلاني والغزالي وحتي السيوطي إلى محمد عبده والأفغاني ورفاعة الطهطاوي كلهم مخطئون في قضية الإيمان وأن مؤلف الكتاب هو وحده الذي اكتشف دونهم جميعا الفهم الصحيح لقواعد الكفر وضوابطه وقواعد الإيمان وحدوده ..
هذا اضطراب بلا شك
عاد ” عبد القادر بن عبد العزيز ” وهو الاسم الذي انتحله المؤلف لنفسه وكان يُمهر به مؤلفاته الأخرى مثل ” العمدة في إعداد العدة ” – ليقر مرة أخري بالهجوم علي ابن حزم ويضيف إليه قامة علمية كبيرة من علماء القرن الثالث عشر الهجري وهو ” محمد بن علي الشوكاني (1173-1250ه) فيقول عنهما ” لدى كل منهما شذوذ – في الآراء – وسبب شذوذهما هو العمل بالاستصحاب عند عدم النص الظاهر الصريح “، وهو منهج لهما يقوم على التيسير واعتبار الحال والواقع والعادة، واستمرار ما كان على حاله مالم يأت شئ يغيره، وهو ما يعني استصحاب أصل الإسلام للمسلمين في بلدان العالم الإسلامي واعتبارهم مسلمين، بينما المؤلف يرى أن ديار المسلمين و بلدانهم قد أصبحت ديار كفر وردة وحرب، وأن أحكامها كأحكام دار الحرب والردة والكفر بما في ذلك القيام على الحكام باعتبارهم مرتدين وأن ذلك يدخل في معنى جهاد الطلب ، فهو لا يعتبر ذلك من باب الخروج على الحكام وإنما يعتبره من باب القتال والجهاد .
المؤلف من مواليد عام 1950 من بني سويف إحدى محافظات صعيد مصر، وكان ضمن ما عُرف بدفعة طب القاهرة عام 1974، حيث كان من زملائه ” أيمن الظواهري ” ، و” مصطفي يسري ” – أحد مسئولي تنظيم الجهاد الأوائل بالجيزة – وكان متفوقاً في دراسته للطب فقد كان التاسع على دفعته وحصل على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف ، وعين نائبا بقسم الجراحة بالكلية.
اسمه الحقيقي ” السيد إمام عبد العزيز إمام” ، وسبق “أيمن الظواهري” إلى السعودية حيث التقيا هناك بعد خروج أيمن من السجن عام 1984 ثم سافرا معا إلى باكستان ثم أفغانستان.
ترك المؤلف التنظيم بعد أن أصبح مقره السودان وسافر إلى اليمن حيث عمل طبيبا هناك حتي قبض عليه عام 2001 ثم تم ترحيله إلى مصر عام 2003 حيث كان متهما في قضية ” العائدين من أفغانستان ” ، فهو ينتمي إلى الجيل الأول المؤسس للعنف والتشدد في قضايا الجهاد وفي قضايا الحكم على الأعيان وعلى الناس والنزوع لتكفيرهم واتهامهم بالجهل واتباع الحكام المبدلين للشريعة ، وهذا الجيل يعد هو جيل الآباء المؤسس للسلفية الجهادية المعاصرة.
قبل كتابه “الجامع في طلب العلم” كان قد وضع كتابه ” العمدة في إعداد العدة ” الذي كان المرجع الرئيسي لمعسكرات المجاهدين في أفغانستان وإدارتها وضبط العلاقات فيها بين القادة والأتباع، ولكن يبقى كتاب “الجامع” تجسيداً لمنتهى ما وصل إليه عبد القادر بن عبد العزيز كأحد المراجع الأساسية لفقه التشدد والاقتحام والمواجهة مع الغرب والعالم.
المأزق النفسي للمؤلف
كان مؤلف الكتاب أميرا لجماعة الجهاد المصري قبل اكتشاف الأمن المصري لمحاولة إعادة بناء التنظيم وإحيائه عام 1993، حيث تم القبض في ليلة واحدة على ما يقرب من ألف شخص من التنظيم في مصر، ومن ثم اعتبرته الجماعة مسئولاً عما جري وطالبته بالنزول من معتكفه البحثي الذي كان لا يُغادره، فقد كان أقرب لأمير مخفي كحال آل الرضا بالنسبة للعباسيين، وكان المشهور أن أيمن الظواهري هو أمير التنظيم بينما كان أميره الحقيقي المخفي غير المعروف هو مؤلف هذا الكتاب .
انتهى النقاش داخل دائرة قرار الجهاد المصري إلى تخلي ” الدكتور فضل ” – وهو إسمه الحركي – عن التنظيم وتركه ليتولي إمارته من بعده بشكل رسمي أيمن الظواهري الذي تحالف مع أسامه بن لادن ليؤسس ما عُرف باسم ” قاعدة الجهاد ” عام 1998 وهي التي نفذت أحداث سبتمبر 2001 م .
يحمل المؤلف حملة شديدة على الجماعة التي كان أميرا لها ويصفها حيناً بالجماعة الآثمة التي زورت كتابه وحيناً آخر بالجماعة الضالة بل ووصل به الأمر إلى حد وصفها بالزندقة. يقول: “فوجئت بهذه الجماعة الضالة تعبث بكتابي وتحرفه تحريفا لم يفعله أحد من الزنادقة “، وكانت جماعة الجهاد قد أعلنت عام 1994عن الكتاب بعد أن غيرت اسمه إلى ” الهادي إلى سبيل الرشاد في معالم الجهاد والاعتقاد “، وأشارت إلى أن الكتاب قد راجعته اللجنة الشرعية في الجماعة وأقرته، وهو ما اعتبره المؤلف إهانة لشخصه الذي لا ينبغي له أن يخضع للمراجعة ولمؤلفه الذي لا يصح أن يخضع للإقرار من لجنةٍ – أيا كانت – ” فالقائمون على أمر هذه الجماعة هم من العوام الجهال ليست لديهم أهلية مراجعة مثل كتابي ” على حد قوله.
لم يكتف المؤلف بما ساقه في مقدمة الطبعة الثانية، بل أصدر بيانا مستقلا بعنوان ” بيان وتحذير بشأن جماعة الجهاد المصرية ” أشار فيه إلى أن الجماعة غيرت اسم الكتاب وحذفت أجزاءً منه ووضعت مقدمة جديدة له واختصرت الكتاب إلى النصف ( نحو ألف صفحة من القطع الكبير ) ، وأنهم فعلوا ذلك بسبب انتقاد المؤلف لبعض قيادات الجماعات الإسلامية، وأن ما فعلته الجماعة بالكتاب لا تفعله أشد الحكومات إجراما وطغيانا وأن ذلك خيانة للأمانة وكتماناً للحق ولبسه بالباطل، وكان المؤلف قد وجه انتقاداً مسهباً في مئات الصفحات لكتابين من إصدارات الجماعة الإسلامية المصرية قبل مراجعتها لأفكارها وهما كتابا ” القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع”، و”الرسالة الليمانية في الموالاة” ولمز فيها المؤلفين وشيخهم الدكتور عمر عبد الرحمن وقلل من شأنهم في العلم، وهو ما أحرج جماعة الجهاد المصري وجعلها تحذف هذه الإنتقادات الموغلة في الإطالة والتعمق والتتبع لكل كلمة وصفحة.
ويبدو أن الأزمة النفسيه التي عاناها المؤلف بسبب اكتشاف ما يقارب الألف من تنظيمه تنظيمه والقبض عليهم في ليلة واحدة وشعوره بالمسؤولية الفادحة تجاههم وتحميله المسؤولية من التنظيم وقياداته، كل هذا قد جعله يشعر بخطأ المناهج العلمية والعملية للجماعات الإسلامية كلها، وفي ذلك يقول عبد القادر بن عبد العزيز: ” كان قصدي من هذا أن يعلم المسلمون بعض مواضع الخلل في العمل الإسلامي المعاصر، وأن يعلموا بعض أسباب الخذلان الملازم للحركات الإسلامية في الأغلب الأعم، وذلك أن وعد الله بنصر المؤمنين حق لا ريب فيه، ويتخلف هذا الوعد لتخلف أسبابه، وذلك بنقص الإيمان علماً أو عملاً، وأن الشك في مناهج الحركات الإسلامية علماً أو عملاً خير من الشك في صدق وعد الله. ووصلت الأزمة النفسية – الفكرية للرجل إلى حد تبرؤه من جماعة الجهاد بقوله: “وأنا برئ من هذه الجماعة الضالة فما فعلته هي أفعال عصابة من المفسدين المستخفين بالدين “، بل وقوله: “وإنني لا أنتمي لأي جماعة إسلامية “.
لم يكتف مؤلف كتاب “الجامع في طلب العلم الشريف ” بصب جام سخطه على جماعة الجهاد المصرية، بل وسع غضبه وشكوكه لتشمل عامة تلك الجماعات لأنها تدفع الشباب للتحزب لها فتنشأ فرق جديدة كما نشأت الفرق القديمه في الأمة ، ذلك أن هذه الجماعات تعلم منتسبيها الاعتقادات المنحرفة والمناهج الفقهية الشاذة.
بعد رحلته الطويلة في التقليب والنقد لرموز تلك الجماعات وآرائها يقول عبد القادر بن عبد العزيز: ” فإذا علمت أن هذا الكتاب “الرسالة الليمانية” ، والذي انتقدته قبله وهو كتاب ” القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع “، يرجعان إلى جماعة واحدة أصدرتهما على أنهما من المعالم الشرعية والفكرية للجماعة الإسلامية في مصر، وعلمت ما فيهما من مخالفات شرعية جسيمة، وأضفت إلى ذلك المخالفات الواردة بكتاب ” دعاة لا قضاة “، وهو مرجع لجماعة الإخوان المسلمين، وأضفت مخالفات الألباني في الاعتقاد وشذوذه في الفقه والذي تمثل آراؤه مدرسة جديدة لها أتباعها تبين لك أي جناية تجنيها بعض الجماعات الإسلامية على أتباعها وعلى غيرهم من المسلمين بتنشئتهم علي مناهج عقدية وفكرية منحرفة وشاذة ” .
غادر عبد القادر بن عبد العزيز تنظيم الجهاد واتجه إلى اليمن حيث أقام هناك حتي تم القبض عليه وترحيله لمصر عام 2003 وظل بالسجن حتى خرج بعد ثورة يناير 2011، وفي السجن أجرى مراجعات فكرية ضمن المراجعات التي خرجت باسم تنظيم الجهاد وأطلق عليها ” وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم ” ونشرتها الصحف المصرية عام 2007، وفي هذه الوثيقة المهمة راجع مؤلف الكتاب أغلب اجتهاداته في كتابه ” الجامع في طلب العلم الشريف ” ، بحيث اعتدل ميزان تفكيره وانتقل من التشدد في الأحكام واختيار أقساها وأصعبها وأكثرها تطرفا إلى تقدير الواقع وفهم النص بدون تحميله ما يقع في نفس الناظر فيه من حمل على الناس وترصد لهم وانتهاك حرماتهم بتكفيرهم بقصد قتالهم وإيذائهم، وهنا فإن المؤلف هو من يرد على نفسه بإحداثه اجتهادات جديدة تحرر فيها من ثقل وعبء التشوش النفسي والفكري الذي كان يعانيه وقت تأليفه كتاب ” الجامع في طلب العلم الشريف ” مطلع التسعينيات من القرن الماضي .