في أحد مشاهد المسلسل التاريخي المميز “صقر قريش” للمبدعين وليد سيف مؤلفاً وحاتم علي مخرجاً٫ يضع وليد سيف نصاً على لسان بطله عبد الرحمن بن معاوية الشهير بعبد الرحمن الداخل مؤسس دولة بني أمية في الأندلس يوضح فيه الفارق بين القبيلة والدولة كونهما نقيضين لا يجتمعان.
حيث يقول الداخل إن الدولة “عصبة كل رعاياها، أما القبيلة فعصبة أبناؤها فقط، الدولة تجمع أما القبيلة تفرق، الدولة تساوي بين الناس في المغرم والمغنم وتستعمل الناس فيما يحسنون ويتقنون، أما القبيلة فترتب الناس حسب مواقعهم من العصبة والنسب، وتطلب من أعمال الدولة ومغانم الحكم بقدر ذلك، ومن لا قبيلة له يقدم ولاءه للدولة؛ فتصبح الدولة ملكا للجميع لا نهبا مقسوماً ولا غنيمة تتنازع عليها القبائل”.
ورغم صحة منطق الداخل إلا أن تابعه بدر يرى أن لجوء الفرد بالقبيلة والعشيرة والاحتماء بها هو أمر طبيعي حين “يبطش السلطان برعيته” على تعبيره.
ويضيف: “إن السلطان إذا بطش ، لم يجد الرجل له حاميا سوى القبيلة، أما إذا آمن أن الدولة له لا عليه، وأنها تطعمه من جوع وتؤمنه من خوف، لم يجد حاجة في أن يرتد إلى قبيلته ليعتصم بها”
وهو ما يتغير بطبيعة الحال إن لم يجد المواطن العادي الأمان المفترض لدى الدولة التي ينتمي إليها فيرتد إلى مرحلة ما قبل الدولة إذا ما صح التعبير٫ إلى القبيلة أو الطائفة أو العائلة في الحد الادنى.
ومن المدهش حقاً أن هذا الحوار ورغم كونه يدور حول دولة الاسلام في الاندلس إلا ان صداه لا زال يتردد في عصرنا الحالي وفي نماذج عدة في أكثر من قطر عربي.
لكن عصرنا الحالي شهد نوعاً جديداً من القبلية٫ خاصة في مجتمعاتنا العربية٫ وهي القبلية المهنية إذا صح التعبير.
يروي الخبير الدستوري الدكتور نور فرحات في منشور له على صفحته الخاصة على موقع فيس بوك تجربته مع هذا النوع من القبلية في أعقاب انتفاضة يناير عام ٢٠١١.
حيث حرصت نوادي وتجمعات مهن الضبط الاجتماعي وفقا للدكتور فرحات أن تنتزع لنفسها أكبر قدر من الاعتراف والدعم في نصوص الدستور .
وكانت عمليه كتابه هذا الدستور في حد ذاتها عملية جدل أو ما يسميه فرحات ب” النزعة المهنية الطائفية” ملحوظة وبارزة فيها للغايه.
ومن الطريف حقاً في هذا الشان أن الفقيه الدستوري يخلص في محاولته تحليل هذا النوع من القبلية الى ذات النتيجة التي خلص اليها بدر قبل ألف عام في الأندلس.
حيث يرى فرحات أنه عندما تغيب الدولة عن وظائفها التنموية المنوطه بها بحكم الدساتير والقوانين٫ تتقوقع الفئات الاجتماعية المختلفة حول جماعاتها الفرعية ومن الممكن أن تكون هذه الجماعات مهنية أو دينية أو مكانية أو عرقية او قبلية .
حيث إن الجماعة الفرعية هنا تبرز لكي تتصدى لما عجزت عنه الدولة في كفالة الحماية لأصحابها أي للمنتمين إليها بحكم النسب او الديانة او طبيعة العمل وتقديم الدعم وتوفير المكانة الاجتماعية اللائقة لهم .
وهذا أمر ليس بجديد في تاريخ مصر؛ حيث اكتسبت الطوائف الحرفية والمجالس الملية وتنظيمات العربان والأحياء والقرى في مصر العثمانية أهمية بالغه لدى حكام المحروسة في تلك المرحله التاريخية.
إلا أن الدوله المصريه الحديثه ممثلة في الوالي المعين من قبل الشعب محمد علي باشا بداية من عام ١٨٠٥ استطاعت أن تقضي على هذا التقوقع وأعلت من شأن الدولة .
إلا أن هذا التقوقع الذي تراجع في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي عاد ليطل برأسه مرة اخرى في سبعينات القرن العشرين مع انسحاب الدولة المصرية بحكم سياسات “الباب المفتوح” الاقتصادية من ملفات عدة كانت تتولاها منذ عام ١٩٥٢.
وهنا٫ وكما توقع بدر٫ عاد الفرد الى “قبيلته” سواء المهنية أو الدينية أو غير ذلك ليحتمي بها وتمنحه شعوراً ولو زاىفاً بالأمان.
الأمر الذي يطرح معه سؤالاً حائراً: هل ستبرز الدوله المصريه من جديد كما فعلت مع الباشا محمد على لكي تُخرِج الإنسان المصري من هذا التقوقع؟