رؤى

ثورات الشطار.. نضال «العالم السفلي» ضد الاستعمار 

في حوار تلفزيوني أجري معه في الثمانينات٫ ذكر المجاهد الجزائري يوسف سعدي والذي تولى مسؤولية قيادة خلايا جبهة التحرير الجزائريه في العاصمة الجزائر إبان ثوره ذلك البلد العربي أنه سعى إبان الثورة لتجنيد مقاتلين مما أسماه “العالم السفلي”!

وأوضح سعدي أن حي القصبة العربي في العاصمة كان يمتلئ بضحايا الاستعمار من الأميين والمدمنين وغيرهم٫ وكانت خطته تقضي باستغلال الغضب الكامن داخل هؤلاء ضد أوضاعهم الاجتماعية المزرية وتوجيهه ضد المتسبب الأول فيها٫ أي ضد الاستعمار الفرنسي للبلاد.

ما اشار اليه سعدي في هذا الحوار ليس أمراً قاصراً على الجزائر ولا على ثورتها وإنما هو ظاهرة متكررة في بلاد الجنوب او ما يحلو للبعض الإشارة اليه باعتباره “دول العالم الثالث”.

فرحان السعدي
فرحان السعدي

ففي أغلب ثورات هذه البلاد ضد الاستعمار الأجنبي٫ يبرز من أسماهم سعدي بسكان “العالم السفلي” والذي يفيض الأدب الشعبي في بلد مثل مصر في توصيفهم ب”الشطار” و”العياق” أو “الأحداث” في سوريا وغيرها من الألقاب.

حيث تقلب الثورات والانتفاضات الشعبية أوضاع هؤلاء وتنقلهم من العالم السفلي إلى مقدمة الصفوف وتجعلهم يناطحون من كانوا يتعالون عليهم ويستهينون بهم بل لا يرونهم على الاطلاق.

ففي المكسيك٫ وإبان ثورتها التي وقعت مطلع القرن العشرين٫ برزت أسماء مثل بانشو فيا وإيمليانو زاباتا وغيرهم من قادة الثورة٫ وفي حين اعتبرت النخبة المكسيكيه الذين ثاروا ضدها وحليفتها الولايات المتحدة هؤلاء قطاع طرق ومجرمين٫ اعتبرتهم الذاكره الشعبيه في المكسيك أبطالاً مدافعين عن البسطاء واحتفت بهم في عشرات القصص والأغاني.

مشهد من فيلم viva zapata الذي قام بكتابته جون شتاينبيك وقام فيه الممثل مارلون براندو بدور إيمليانو زاباتا

ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لبلد قريب من المكسيك في أمريكا الوسطى هو نيكاراغوا٫ حيث قاد أوغستو ساندينو الثورة ضد الوجود العسكري الأمريكي هناك بين عامي ١٩٢٧ و ١٩٣٣.

وكما هو الحال مع رفاقه في المكسيك٫ لم يزد ساندينو في نظر الدعاية الأمريكية عن “قاطع طريق” لكنه في نظر بلاده  ظل رمزاً للثورة ضد الهيمنة الأجنبية٫ وحتى بعد اغتياله عام ١٩٣٤ ظل يلهم الثوار من بني وطنه الذي اتخذوا من اسمه لقباً لهم هو “الساندنيستا” وتمكنوا في عام ١٩٧٩ من إسقاط حكم آل سوموزا المدعوم من الولايات المتحدة.

أما في عالمنا العربي٫ فإن ثورة عام ١٩١٩ الشعبية في مصر تعد نموذجاً لبروز دور الفئات التي عادة ما يتم تهميشها٫ مثل الفتوات الذين حفلت بهم روايات الكاتب الكبير الراحل نجيب محفوظ ٫ حيث حول هؤلاء النبابيت من سلاح يبارزون بها بعضهم البعض ويستعرضون بها مهاراتهم القتالية إلى أداة يستعملونها لحماية المتظاهرين السلميين من بطش قوات الاحتلال الإنجليزي.

ويذكر محفوظ الدور الوطني لهؤلاء الفتوات مثل  الذين استولوا على قسم شرطة حي الجمّالية الشعبي في القاهرة، بعد ما نظموا تظاهرة كبيرة، ونجحوا فى تكوين أربع مجموعات تولت الهجوم على القسم والاستيلاء على ما به من أسلحة لدعم الثورة فى وجه الاحتلال.

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

وفي فلسطين٫ يذكر عدد من المؤرخين الذين تناولوا شخصية وسيرة الشيخ عز الدين القسام٫ أيقونة الجهاد ضد كل من الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني في فلسطين٫ أنه كان يستخدم منصبه كمدرس وإمام لمسجد الاستقلال في مدينة يافا لانتقاء العناصر التي ينتوي أن يستخدمها في الجهاد والنضال المرتقب ضد الإنجليز والصهاينة والذين كانوا في أغلبهم ينتمون للفئات المجتمعية المهمشة مثل عمال الميناء في يافا فلاحي الريف الفلسطيني الذين كانوا يئنون من قوانين المستعمر وعمليات الاستيلاء على الأراضي التي يقوم بها الصهاينة.

ومما يُروى عن الشيخ القسام أن شخصاً أتاه يريد التوبة من ماضيه الإجرامي٫ فناوله الشيخ سلاحاً وأوصاه أن يكون هذا السلاح أداة توبته عبر استخدامه في قتال المستعمرين.

وفي ثورة عام ١٩٣٦ التي انطلقت عقب استشهاد الشيخ القسام ورفاقه في معركة يعبد الشهيرة ضد الإنجليز٫ كانت الفئات التي عني بها القسام في مقدمة الصفوف وخصوصا الفلاحين الذين كانوا قادة العمل العسكري من أمثال عبد الرحيم الحاج محمد٫ الفلاح الذي صار القائد العام لفصائل الثورة المسلحة والشيخ فرحان السعدي الذي أطلق الرصاصة الأولى في تلك الثوره.

إن احتفاء شعوب العالم الثالث بهذه النماذج ليس بالأمر المستغرب؛ فهم ينتمون الى فئات بالرغم من كل ما تعيشه من تهميش وازدراء٫ تكون دائماً المبادرة إلى البذل والعطاء من أجل أوطانها.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock